الإثنين، أيار 06، 2024

عامر الفاخوري.. عمالة يُزيّنها الإجرام

 
مضى على عودة العميل عامر الفاخوري الوقحة، عبر مطار بيروت الدولي، أكثر من شهرين. وكشفت هذه العودة أنّ هناك جهات نافذة داخل أجهزة الدولة ومؤسساتها مهّدت له الطريق لعودة آمنة مطمئنة، وهو العميل الخائن للوطن لصالح العدو الصهيوني، والمعروف بجزّار معتقل الخيام لما ارتكبه من جرائم موصوفة بحقّ أبناء الوطن ممّن دخلوا إلى المعتقل بتهمة ممارسة حقهم الطبيعي بمواجهة قوات الاحتلال وعملائه. فكيف لهذا المجرم الذي يدرك جسامة ما ارتكبه خلال مدّة تعامله الطويلة مع الاحتلال أنْ يطمئنَّ لعودته بهذه السهولة لو لم يكن هناك من جهات تمتلك قراراً قويّاً داخل مؤسسات الدولة الأمنية والقضائية؟!فمن هي تلك الجهات؟ وهل ما قامت به يُصنّف في خانة الجهل والخطأ؟ أم أنّها جزءٌ من مشروع الخيانة الأخطر داخل جسم الدولة؟ هذا السؤال سنبقيه بِرسم الرجال الوطنيين الذين يحظون بثقتنا كأسرى محرّرين وكأحرار في هذا الوطن، مدركينَ أنّ معركتنا مع العدو الصهيوني ما زالت طويلة ولم تنتهِ بعد.بيّنت المعلومات التي كشفتها الأشهر القليلة الماضية أنّ الفاخوري هو العميل رقم 203 من عدد العملاء الذين عادوا بنفس الطريقة إلى لبنان، من دون أن يتعرّض لأي مساءلة أو متابعة إلّا عددٌ قليل منهم. وتبيّن بعد توقيف الفاخوري أنهم تواروا عن الأنظار، أو أنّهم غادروا البلاد مجدّداً خوفاً من أن يلحقهم ما لحق بالعميل الفاخوري، كونهم شركاء فعليين في جرائمه. وعلى الرغم من الدور الاستثنائي الذي لعبه أحد عناصر الأمن العام في المطار بيقظته الوطنية لكشف عودة جزار الخيام، إلّا أنّ عوامل أخرى ساهمت على ما يبدو وسهّلت توقيف الفاخوري وانكشاف أمره، بخلاف العملاء الـ 202 الآخرين. ومن هذه العوامل أنّ الفاخوري، الذي يحمل جواز سفر إسرائيلي، كان يحاول تجديد جواز سفره اللبناني من السفارة اللبنانية في واشنطن، وعندما تأخر الردّ عليه، تواقح ربما وبزلّة لسانٍ أو عجرفة معروفاً بها، أنّه لن يحتاج إلى جواز سفر لبناني لأنّه خلال عام من ذلك التاريخ سيكون بحوزته جواز سفر أميركي سيخوّله دخول لبنان دون أي عائق. وقد شكّل تسجيل هذه المعلومة من قبل العين الساهرة لدى الأمن العام إلى جانب اسم الفاخوري المُسقط أصلاً من البرقية 303 الخاصة بمتابعة العملاء طرف الخيط الذي أوقعه في شباك القضاء اللبناني، العسكري والمدني، بعد أن تقدّم عدد من الأسرى المحررين وعبر لجنة من المحامين بدعاوٍ شخصية ضد الفاخوري، وقدّموا شهاداتٍ حية عن معاناتهم وآلامهم الجسدية والنفسية من جرّاء ممارساته الوحشية تجاههم بصفته المسؤول الأول عن قسم الحراسات في معتقل الخيام، قبل إغلاقه واندحار قوات الاحتلال الصهيوني عن الجنوب عام 2000، ومسؤوليته المباشرة عن تعذيب وإخفاء العديد من المقاومين الأسرى وعلى رأسهم الأسير علي حمزة الذي ما زالت آثاره مجهولة حتى الآن. إنّ تسليم ملف العميل الفاخوري للقضاء اللبناني من قبل الأسرى المحررين وهيئة ممثليهم، وتحرّكاتهم أمام قصر العدل، والمحكمة العسكرية في بيروت ومناطق أخرى، يأتي ضمن قناعاتهم التزام القانون والقضاء العادل المنتظر منه إنصافهم وأخذ حقهم ممّن عذّبهم ونكّل بهم وبعائلاتهم، واستخدم أقذر الأدوات غير الإنسانية ضدهم كأسرى مقاومين لإيذائهم ماديّاً ومعنويّاً. إلّا أنّ شكوكاً كبيرة بدأت تحوم حول جدّية القضاء واستقلاليته في متابعة هذا الملف والوصول إلى خواتيمه بالسرعة اللازمة، لا سيّما بعد تكرار عمليات التأجيل لجلسات التحقيق التي كانت مُقرّرة للعميل الفاخوري في قصر عدل النبطية، حيث قدّم عدد من الأسرى المحررين وعلى رأسهم المناضلة سهى بشارة دعاوى خاصة بحق الفاخوري.وقد عبّر الأسرى المحررون في أكثر من تجمع أقاموه أمام قصر عدل النبطية، عن قلقهم من الطريقة غير المسؤولة لتعاطي القضاء مع هذا الملف، والمماطلة فيه، والأخذ بأسباب تمارض الفاخوري لتأجيل إحضاره أكثر من مرة مخْفوراً إلى المحكمة من دون الأخذ بعين الاعتبار مساحة الألم المختزَنة في أجساد وأرواح هؤلاء المعذبين على أيدي جزار الخيام، وثقل الزمن المنتظر منذ فترة طويلة الذي سيُحقّق لهم شيئاً من العدل، واستعادة الكرامة، وتحصين وطنهم من لوثة العمالة وقطع دابرها. إنّ تخوّف الأسرى وقلقهم يعزّزه معرفتهم الأكيدة بحجم الضغط الذي يمارس على القضاء داخليّاً وخارجيّاً، والمحاولات المتكرّرة لاستلابه دوره ومكانته لمصالح سياسية وحسابات بعيدة كل البعد عن الحق والمصلحة الوطنية. كما أنّ الأحكام السابقة الشكلية في معظمها بحق العملاء والتساهل الكبير معهم، يدفع الأسرى المحررين وإلى جانبهم أحرار هذا الوطن ومقاوميه للبقاء على أهبة الاستعداد من أجل أن يأخذ القضاء مجره وبالسرعة الممكنة للاقتصاص من هذا الجزاء وأمثاله، وإنزال حكم الإعدام الذي يستحقه بعد كل الجرائم التي ارتكبها، وضمان عدم التدخل المشبوه في هذا الملف لا سيّما من السفارة الأميركية، محذّرين من أنهم لن يقفوا مكتوفي الأيدي تجاه أي جهة تحاول الاستهتار بآلامهم وجراحهم ودماء المقاومين الشهداء الذين سقطوا على أيدي الجلادين العملاء وعلى رأسهم الفاخوري، ومؤكدّين أنّ الثقة الممنوحة للقضاء اليوم هي على المحك، لا سيّما في زمن انتفاضة الشعب اللبناني الذي يطالب بالتغيير الجدي بطبيعة النظام، ومحاربة الفاسدين قي مؤسسات الدولة، وبناء قضاء نزيه مستقل يكون الفصل بين العدل والظلم، ويعيد الاطمئنان لكل صاحب حق في بلدنا. آملين أن يكون الموعد الثالث الذي حُدّد في الخامس من كانون الأول المقبل هو الموعد الأخير لبدء المحاكمة الحقيقية لهذا الخائن. إن نزول معظم الأسرى المحررين للشارع إلى جانب أبناء شعبهم المنتفض لرفع الصوت وانتزاع الحقوق والمطالب المرفوعة، يثبت استعدادهم الكامل، مرة أخرى، لاستكمال عملية التحرّر الوطني ومقاومة الاحتلال التي كانوا من صُنّاعها، بعملية التحرر الديمقراطي والاجتماعي على المستوى الوطني.

المماطلة والبلطجة لن تحرف مسار الانتفاضة

 
ها قد مضى شهر ونصف على بدء الانتفاضة الشعبية الرائعة، وما زال شعبنا مستمرّاً في الشارع والساحات في جميع مناطق لبنان. ومع أنّ صرخاته المدوّية المعبّرة عن وجعه تردّدها الساحات والشوارع، فإنّها لم تدخل بعد كما يبدو، في اسماع وعقول زعامات الطبقة السلطوية. فهم لم يعتادوا الإصغاء إلى أصوات الناس خصوصاً الكادحين والفقراء ومجمل المظلومين. يزعجهم سماع صوت الرأي الحرّ الحقيقي، والفكر النيّر، والمواقف الوطنية الجريئة. ويبدو أنّ الأطراف السلطوية، لا تكترث إلّا بمصالحها الخاصة وحصصها والتوافق عليها وتتغافل عن صوت الوطن، وصوت الشعب الهادر في كل لبنان، المُطالب بالعيش الكريم وبالحصول على أبسط حقوق الانسان في القرن الواحد والعشرين بدولة قانون، وبوطن يعيش فيه أبناؤه. فلا يصدِّق أحدٌ في عالم اليوم، أنّ لبنان بعد ثلاثين سنة على توقف الحرب، ما يزال شعبه مثلاً، يعاني من تقنين في الكهرباء أكثر قساوة ممّا كان عليه في ظروف الحرب الأهلية، وكذلك في مياه الشفة وغيرها مثل مشكلة النفايات. ففي حين استطاع شعبنا أن ينتصرَ في مقاومة الاحتلال، ويفرض على جيش العدو الصهيوني الانسحابَ المذل، بدءاً من عاصمتنا بيروت، بدون قيد أو شرط، يجد اللبنانيون الوضع الاقتصادي والاجتماعي والمالي، ومجمل الوضع الداخلي، مشهداً بائساً ومعاكساً، لم يكن وليد اللحظة، بل هو نتيجة سياسات الطبقة السلطوية المستمرة منذ ثلاثين سنة وحتى الآن. وهذا ما أوصلنا إلى ما يعيشه شعبنا وبلدنا من أزمات وتدهور وبدء انهيار اقتصادي ومالي يطال بانعكاساته الطبقات الفقيرة وجمهور الطبقة الوسطى، ويزعزع الثقة بلبنان وبمستقبل أبنائه الشباب، الذين لا يتوفر لهم التعلّم وفق منهاج تعليمي حديث، وتكوين مواطن ووطن، ولا سكن، ولا فرص عمل تبقيهم في وطنهم، ولا ضمانات صحية لقسم كبير منهم، ولا ضمان شيخوخة لكبارهم. إنّ مواجهة هذه السياسات السلطوية ونتائجها، هي التي تجلّت بتفجّر الانتفاضة الشعبية المليونية، وهي مع ما سبقها من نضالات في الشارع، تعبّر عن حقوق ومصالح شعبنا وكادحيه، ضدّ الإفقار والفساد المستشري وهدر وسرقة المال العام داخلياً، وضد سياسات الغرب الإمبريالي والتبعية لها من خلال وصفات صندوق النقد الدولي، والهيئات والمؤسسات الدولية الأخرى، التي تخدم مصالح الاحتكارات الرأسمالية الضخمة. لذلك نرى أنّ المستفيدين من تركيبة السلطة ونظامها الطائفي التحاصصي، ومنظومة الفساد الناجمة عنها، يلجؤون إلى ترويج الشائعات والدعايات، ومنها وصف الانتفاضة بأنها مؤامرة أميركية، واعتماد المماطلة الطويلة علّ المنتفضين يتعبون، وصولاً إلى استخدام ممارسات البلطجة والإعتداء المباشر على جمهور الانتفاضة في الشارع والساحات. والمؤسف والمؤلم في آن، هو أنّ هذه الارتكابات تجري تحت عنوان حركة أمل وحزب الله. ممّا يطرح عدّة تساؤلات، منها، ألا يفكر الذين هم وراء هذه الممارسات الاستفزازية، بأنّ شحن الأجواء الشعبية بالعصبيات والانقسامات، مُعادٍ للوطن ووحدته، ولدور المقاومة؟ وأنّ حقوق ومطالب الشعب بالعيش بكرامة، هي القضية التي فجرت الانتفاضة المليونية، وليس السفارات، التي تحاول استغلال الوضع اليوم وأمس وغداً، للاصطياد بالماء العكر؟ ألا تنمّ أساليب أضعاف وضرب الانتفاضة والعمل لحرفها عن طبيعتها ومسارها، عن الخوف والرعب من ضرب منظومة الفساد السلطوية ومحاسبة الفاسدين؟ ألا يدرك هؤلاء أنّ هذه الممارسات المشينة في شوارع بيروت ومدينة صور، تجرّ البلاد إلى افتعال فتنة تصّب في مخطط الفوضى الأميركي، وتفتيت بلدان المنطقة ومنها لبنان؟ هل هذا هو وجه المقاومة الداخلي؟ وهل من مصلحتها تقليص أم توسيع التأييد الشعبي لها؟ لقد برهنت جماهير الانتفاضة أنّها تعي الأغراض المبيتة، فلم تنجرّ إلى هاوية الفتنة لضرب الانتفاضة وتحويل التناقض بين الشعب والطبقة السلطوية إلى صراعات ونزاعات بين الجماهير الشعبية الكادحة والجائعة نفسها. وإنّ على الأطراف السلطوية الآن، التوقف عن المماطلة والتسويف بتشكيل حكومة وطنية مستقلة بصلاحيات واسعة، لإجراء انتخابات نيابية مبكرة، والتركيز على وقف الانهيار الاقتصادي والمالي، واتخاذ تدابير استعادة المال المنهوب. وهذا الأمر هو ضرورة وطنية انقاذية، فوق الصراع على المصالح الفئوية والخاصة. ولم يعد بإمكان أحد في السلطة وخارجها تجاهل دور المارد الشعبي الذي خرج من القمقم، ولن يعود إليه. فالشعب هو مصدر السلطات والوطن فوق الجميع.

كيف تكون الثورة نظيفة؟

 
ربما من المبكر اليوم الحديث عن ثقافة "ثورة 17 أكتوبر"، لكن من الضروري إنصافها حيث ثابر الكثيرون على تحميلها الكثير من الإسقاطات الأيديولوجية والأخلاقية والدينية، متناولة أشكال ومظاهر تعبير هذا الجيل المنتفض بقوة، الجارف لكل الثوابت الإجتماعية والسياسية وفي مجال المعتقدات والأفكار. يتساءل المفكر مهدي عامل بكلمات بسيطة معبّرة "كيف تكون الثورة نظيفة، وهي التي تخرج من أحشاء الحاضر متُسّخة به، وتهدمه وتغتسل بوعد أنّ الإنسانَ جميلٌ حرّاً". إن إنقباضات هذه الولادة تتجسد شيئاً فشيئاً يوماً بعد يوم، لها دلالاتها الرائعة بعيداً عمّا تتناقله شاشات التلفزة. محفورة على جدران الساحات المتلونة باستمرار بأجمل لوحات الغرافيتي، منسوجة بصرخات النسوة والشباب وأناشيدهم الذكية البسيطة الممزوجة بالسخرية اللاذعة، مُنمّقة بهمسات المفكرين والاقتصاديين والمحللين في حلقات النقاش الليلية على أعتاب الساحات والزواريب الجانبية. لهذه الثورة ضجيجها القوي، ضجيج موسيقاها المبعثرة المرتكزة على مخزونٍ قديم لم يفقد رونقه وصداه بعد، مخزون ثقافي، حفره فنانو جيل اليسار في الذاكرة الجماعية لآلاف الشباب الثائر والمناضل لسنوات وسنوات ، هذا الجيل ما زال يتنقل يومياً بين الساحات ينشد للجماهير المنتفضة. لكن للشباب اليوم ضجيجهم الخاص، المرتكز على تجارب ما بعد الحرب الأهلية، من نضالاتهم بحملة إسقاط النظام (2011) والحراك الشعبي (2015)، فأغنية "الشعب يريد" تعكس رفض الطفَار للفقر والتبعية، تحفر هوية متمايزة بألحان هذا العصر من الراب والتكنو. تستمد من تجارب ثورات العالم العربي، أغاني الثورة المصرية وأغاني الالتراس، وتتماهى مع الجيل العربي الرافض لكل أشكال القمع والتبعية. كما تغتني من معارك النسوية وحق الجنسية والقانون الموحد للأحوال الشخصية ونضالات سلسلة الرتب والرواتب. إنه جيل منصّات التواصل الإجتماعي، المُنفتح على كل تجارب العالم، يتعلم، يكتشف، يطوّر – بسرعة – حركته، يقرع الطبول والطناجر ليلاً عند الساعة الثامنة، ليبعث القلق والخوف في نفوس كل من باع ضميره. إن الثورة هي تعبير عن الإبداع، والثقافة فعل إبداعي، أما التكرار واستدعاء الأفكار النمطية فيعني العيش في الماضي أي خارج الحياة. أما بالنسبة إلى حلقات الشتم التي سادت الأيام الأولى، فقد كانت أشبه بصرخات ثائر لا يدرك إلا الرفض والقول كفى، لا، ولن أقبل. هي صرخات ثائر يحاول أن يحطم كل الأصنام المسيطرة، بإشهار ما يمارسه في السرّ بين جدران المنزل. إنها يوفوريا جماعية لشعب صمت طويلاً في وجه هذه السلطة. لكن سريعاً ما اندمجت الساحات، كل الساحات وفرزت أغانيها التي تحاكي جيلها الثائر، من خلال فناني الجيل الجديد، كل يوم أغنية، بوستر، فيلم ترويجي وتثقيفي، فكرة جديدة، نقاش،عزف كلاسيكي، محاولات تهدف لإسترجاع "التياترو الكبير" هذا الصرح المهمل والمغلق والمُباع. لكلٍ حركته الخاصة، ممثلين ومبدعين ومخرجين يتنقلون بين الحشود، يتحدّون الواقع، يطالبون بثقافة بديلة عن الثقافة السائدة، تكون مسؤولة ومنصفة. خرج الفنانون إلى الشارع أبدعوا، نقلوا حفلاتهم من المسارح المغلقة ، شاركوا - بجمالية مميزة - بإغلاق بعض الطرقات، نقلوا الفرح والحب إلى إنتفاضة قاسية وصعبة في وجه سلطة حاكمة مهيمنة لن تتنازل بسهولة عن الكمّ الهائل من المنافع التي تضمن إعادة انتخابها. تتشكل أطر نقابية جديدة ترفض التبعية لأحزاب السلطة الحاكمة. تجد طلاباً تمردوا رفضوا دخول صفوف الدرس، يطالبون بالمشاركة الجدية في الحياة السياسية وبقانون تخفيض سن الاقتراع. كما برزت قطاعات مهنية عدٌة الى جانب القطاع العام في ساحات النضال. والأهم من ذلك كله، بروز مفهوم استملاك المساحات العامة، الفعل الذي يدلّ عن وعي جماعي لمُلكية الوطن من "شعب" يريد إسترجاع مساحاته ووجوده وصوته وكلمته في هذا البلد. لكل يوم بريقه ولمعانه، أفواج من الشباب، تهيم في حلم التغيير وبناء دولة مدنية وطنية، تهتف ضد السياسات الاقتصادية، ومن أجل إسترجاع الأموال المنهوبة، وتعلو أصواتها بغية المطالبة بحقوق كل المحرومين والفئات المُهمّشة. أما النساء، فقد قّدن المظاهرات وصرخن انشدن وقاتلن في سبيل بناء وطن. "بفعل نضال الثوريين يتوحدون، على اختلاف تياراتهم وانتماءاتهم الفكرية والسياسية، في حركة ثورية جديدة واحدة، تُعيد إلى العالم نضارته، وبها التاريخ يستوثق. فالثورة ليست حكرا على فكر، أو حزب، أو طبقة" (مهدي عامل)تتعدد القوى السياسية والاجتماعية في مرحلة الثورة الوطنية الديمقراطية، للتنتج حركة ثورية تتناغم مع المرحلة التاريخية الراهنة وتنسجم مع مكوناتها. آلاف الأسئلة تُطرح يومياً على هذه الحركة الثورية الجديدة التي تسعى جاهدة أن تكون واحدة. كيف يمكن بناء "شعب" بين ركام الحرب الأهلية والأحزاب الطائفية والإنقسام الطبقي؟ كيف يمكن إنتاج مجموعة من القيم الثقافية والأخلاقية، التي يمكن أن تصبح مشتركة بالحدّ الأدنى بين الأفراد والجماعات، وتصوغ كثيراً من توجهاتهم ونظرتهم للعالم؟كيف يمكن للتراكم في مجال الثقافة السياسية أن يساهم بالخروج من الدائرة المفرغة، وننتقل من مرحلة الوعي إلى مرحلة تحقيق مكاسب حقيقة؟

انتفاضة 17 أكتوبر: خطوة على طريق الثورة

 
دخلت "انتفاضة 17 أكتوبر" أسبوعها السادس على التوالي، وسط إصرار من المنتفضين بكافة الساحات وعلى امتداد مساحة الوطن على توحيد مطالبهم ومواصلة تحركاتهم حتى تشكيل حكومة وطنية انتقالية، وتطبيق المادة الـ 22 من الدستور وإقرار قانون انتخابات نسبي وخارج القيد الطائفي، ثم تحقيق استقلالية القضاء واسترجاع المال العام المنهوب والأملاك العامة. انتفاضتهم لم تعرف الخوف ولا التعب أو الملل، فهم يعلمون أن معركتهم طويلة لإسقاط هذا النظام السياسي الطائفي وبناء الدولة الوطنية العلمانية الديمقراطيّة وتغيير السياسات الاقتصاديّة - الاجتماعيّة، حينها تتحقق الثورة. مماطلة، اعتقالات، بلطجة واعتداءات، بث الإشاعات والفتن،... مشهدٌ اعتدناه لليوم الـ 44 على التوالي، لسيناريو "تخبّط أهل السلطة" في وجه منتفضين سطّروا بكفاحهم وصلابة إرادتهم تاريخاً مجيداً للبنان. تلك السلطة الغارقة في تجاذبات الاشتباك السياسي دفاعاً عن محاصصاتها أرعبها إصرار الشعب على مواجهة سياسات التجاهل المعتمد من كافة أطرافها دون استثناء، وسط انهيار مالي واقتصادي.تلك الانتفاضة جاء تمويلها "السري" من وجع مواطنين أُرهقوا بنهج المحاصصات والفساد والتبعية والولاءات مدة ثلاثين عاماً، وسياسات حكومات متعاقبة دمرّت البلد وأفقرت شعبه وأغرقته بديون مؤتمراتها الباريسية. وهجّرت أبناءه، تقاسمت أملاكه، وضربت مؤسساته العامة. وسلبته حقوقه بالطبابة والسكن والعلم والعمل والكهرباء والبيئة الصحية. "مش فالّين"أما خطابات السلطة "فتزيد من الطين بلة"، إذ تشكل مفعولاً عكسياً على المنتفضين الذين اعتادوا على تجاهل مطالبهم ونضالهم اليومي منذ 44 يوماً، ليأتي ردهم في تزايد زخم الساحات، وتصويب الاحتجاجات على المرافق العامة ومكامن الهدر والفساد كخطوة ضرورية للاستمرارية حتى تحقيق المطالب.إذ أن مقابلة الرئيس عون الأخيرة (12 تشرين الجاري) والتي طالب فيها من المتظاهرين بالخروج من الشارع وتشكيل وفد لطرح مطالب الحراك، خاتماً بعبارته الشهيرة "اللي ما عجبوا يفل" والذي حاول جاهداً في ما بعد إلى تبريرها غير المبرّر، والتي أشعلت غضب الساحات وأعلنت الإضراب العام، فتزايدت أعداد المنتفضين، مطلقين هتافات "مش فالين"، و"بيّ الكل، فل".الغضب من خطاب عون، تصاعد مع سقوط شهيد الثورة الثالث علاء أبو فرج وعاد زخم الثورة، وتكثّفت التحرّكات في كافة المناطق من دون انقطاع. المماطلةيراهن أقطاب السلطة على تعب الشعب، فيتقاذفون الاتهامات فيما بينهم من جهة، ويبرعون في استخدام أساليب شدّ العصب الطائفي والمذهبي وتأجيج الثورة المضادة من جهة ثانية. في المقابل، يظهّر الحراك موقفاً موحّداً، أمام هكذا محاولات، في ظل وجود عمل يومي للتنسيق بين القوى والمجموعات، رغم عدم وجود قيادة موحدة جامعة. فما إنْ تسرّب اسم الوزير السابق محمد الصفدي لترؤس الحكومة العتيدة، بادرت الساحات في كافة المناطق إلى تنفيذ احتجاجات شعبية والمطالبة بالتحقيق معه ومحاكمته على خلفية ملف الاعتداء على الأملاك العامة البحرية وإقامة "الزيتونة باي" على خليج السان جورج.ونجحت الانتفاضة مجدّداً بتسجيل انتصارٍ آخرعلى السلطة وإسقاط صفقة الخليلين بطرحهم للصفدي، الذي أعلن في 16 تشرين الثاني عن اعتذاره عن قبول الاتفاق السياسي على تسميته لتشكيل حكومة. استقلال الاستقلاليخوض اللبنانيون في انتفاضتهم اليوم معركة الاستقلال الحقيقي عن هذا النظام السياسي الطائفي المولّد لكافة الأزمات التي يعيشها البلد، للتحرر من سياسات الاستغلال والهيمنة والسيطرة التي تفرضها السلطة؛ أولاً، بالاستغلال الطبقي الذي أوصل البلد إلى الإنهيار وشعبه إلى مزيد من الإفقار. وثانياً، بالولاءات والتبعية للخارج وفرض الهيمنة الغربية والسيطرة الأميركية على مقدراتنا وبأدواتها الصهيونية والعربية الرجعية. وخير دليل على ذلك، ما نشهده اليوم من التدخلات الأجنبية ولا سيما المبادرة الثلاثية الأخيرة التي قامت بها كل من فرنسا وأميركا، وبريطانيا.وبما يتعلقبالاستغلال الطبقي يواصل الحراك الشعبي مواجهته له، عبر رفض ما سمي بالورقة الإصلاحية، ووضع حلول بديلة من اقتصاديين واخصائيين تساعد البلد للنهوض من هذه الأزمة.أما بما يخص التبعية والهيمنة، فمطالب الحراك واضحة، تترجم عبر التمسك بضرورة "التحرير والتغيير"، فجاءت الوقفات الاحتجاجية في ساحات الاعتصام رداً على تصريحات جيفري فيلتمان الأخيرة. العرض المدنيأحيا لبنان العيد السادس والسبعين للاستقلال بعرضين متناقضين؛ الأول تخلله عرضٌ عسكريٌّ باهت ومصغر، سادته أجواء واضحة على وجوه الرؤساء الثلاثة عكست خلافاتهم السياسية حول تشكيل الحكومة المرتقبة وفقاً لمقاسات ومحاصصات كتلهم النيابية. في المقلب الثاني، شهدت ساحة الشهداء، استعراضاً وطنياً شعبياً بعنوان "العرض المدني"، شارك فيه 41 فريقاً من مناطق مختلفة.، فكان أشبه بعرس وطني لأول مرة أعطى للبنانيين المعنى الحقيقي للاستقلال منذ 76 عاماً.استهل العرض بتحية تخليداً لأرواح الشهداء والنشيد الوطني، ثم عرضٌ على الخيل، تلته الفرق التي تقدم كل منها لافتة باسمها مسبقة بكلمة "فوج" وهي: الدراجات النارية والهوائية، الإرادة، العسكريون المتقاعدون، المعلمون، البيئة، المحامون، الطلاب، الأمهات، الأشبال، الآباء، أطباء، إعلام، خبراء ومكافحة، زراعة، مهندسون، إيقاع، عمال، صناعيون، مواصلات، اندفاع، حقوق النساء، حرفيون، تجارة، فنانون، نساء ورجال أعمال، مبدعون، طاقة، رياضة، سياحة، طناجر، حقوق الإنسان، مشاة، مغتربون، موسيقيون، ناشطون، جنوب، شمال، بقاع، جبل لبنان، وبيروت.وقدّم كل فوج أفكاره بطريقة خاصة، عبر ابتكار شعارات مطلبية مناسبة لفوجه، وذلك على وقع الأغاني الوطنية والثورية التي عزفتها إحدى الفرق الموسيقية. "خبز وملح"المنتفضون من الشمال إلى الجنوب شاركوا في "أحد التجمع على النقاط البحرية" بعنوان "خبز وملح" تأكيداً على حق اللبنانيين في الإفادة من الشاطئ ورفضاً للتعديات على الأملاك البحرية والمطالبة باسترجاعها للشعب.وأيضاً، تجمّعوا في محمية مرج سد بسري للمطالبة بإيقاف الجريمة البيئية وإقامة مشروع السد. هزائم الثورة المضادة"غزوة" فجر الاثنين الماضي على جسر "الرينغ" ومحيطه جاءت أكثر حدية من "الغزوة" السابقة يوم 29 تشرين الأول الماضي في ساحتي الصلح والشهداء، وجّه خلالهما الثنائي الشيعي رسالة واضحة تجاه مظاهر الحراك. الأولى تبعها إعلان الحريري استقالة الحكومة، أما الثانية فتبعها محاولات أخرى سريعة في أقل من 24 ساعة لإثارة الفتن وزرع الرعب في بعض المناطق وهتافات تلوّح بعودة 7 أيار مجدداً، فكانت ذروتها في الهجوم على اعتصام ساحة العلم في صور وحرق الخيمة التي بادر حراك صور إلى نصب غيرها، معلناً مواصلة انتفاضاتهم، ثم تلاه الاعتداء على اعتصام ساحة المطران في بعلبك، وسط صمود واستمرار المعتصمين.وفي سياق متصل، قام مشبوهون بافتعال إشكال بين القوى الأمنية ليل 19 تشرين الثاني في ساحة رياض الصلح، ما أدى إلى رد الأخيرة إلى جرح 3 معتصمين واعتقال 12 آخرين من المشاركين في الاعتصام الذين لا علاقة لهم من قريب أو بعيد، بالاستفزاز المدبّر مسبقاً بين بعض العناصر والقوى الأمنية. فأدان بيان باسم انتفاضة 17 أكتوبر هذا التعدي، مشيراً إلى أنها "ليست المرة الأولى التي يجري فيها افتعال مثل هذه الأعمال لتشويه صورة الانتفاضة".كما أكّد المنتفضون على مواصلة اعتصامهم السلمي في ساحة رياض الصلح بوجه كل محاولات السلطة وأدواتها ممن ترسلهم إلى ساحات الاعتصام للتخريب ولبث الإشاعات والتحريض على المعتصمين.يذكر، أن نقيب المحامين الأستاذ ملحم خلف سارع ليلتها إلى التواجد في ثكنة الحلو ولجنة المحامين للدفاع عن المتظاهرين الذين أفرج عنهم صباح اليوم التالي. تنظيم الحراكيتساءل البعض وأبرزهم السلطة وأتباعها عن قيادة الحراك، متجاهلين أن هيمنة أحزابها على النقابات والروابط والاتحاد العمالي العام وتحالفاتهم ضربت الجهة المفترض أن تقوم بتمثيل الشعب وتحمل لواء الدفاع عن حقوقه لا التآمر عليه.فجاء الرد من قوى وشخصيات سياسية واقتصادية واجتماعية وهيئات ومجموعات شبابية وطلابية ومدنية واتحادات نقابية ومهنية وتعليمية من مختلف ساحات الانتفاضة، تداعت كلجنة تحضيرية إلى عقد ورشة حوارية في الكومودور في 19 تشرين الثاني حول الانتفاضة تحت عنوان "المرحلة الانتقالية: الرؤية والبرنامج"، وخلصت إلى إعلان الآتي: التوجّه بتحية إكبار إلى شهداء الانتفاضة علاء بو فخر وحسين العطار وعمر زكريا، وإلى كل المنتفضين الذين ملأوا الشوارع والساحات وعلى امتداد مساحة الوطن طيلة شهر بكامله، وسطّروا بكفاحهم وصلابة إرادتهم تاريخاً مجيداً للبنان، بالرغم من الاعتداءات والاعتقالات التي تعرّضوا لها، في المخافر وعلى الطرقات العامة والساحات، ومن قبل القوى الأمنية وميليشيات الزعامات الطائفية، والدعوة إلى متابعة الانتفاضة وتصعيدها للخلاص من السلطة السياسية الفاسدة ونظامها الطائفي والمذهبي المولّد للأزمات والتدخلات الخارجية، وصولاً إلى بناء دولة وطنية ديمقراطية". وتم التوجّه بالشكر أيضاً لكل الذين قاموا بتلبية الدعوة، و"الذين أسهموا، عبر عشرات المداخلات، في إغناء النقاش حول مسألة إعادة تكوين مرتكزات السلطة وتشكيل حكومة انتقالية وطنية وذات صلاحيات استثنائية، تتولّى اتخاذ إجراءات فورية لمعالجة التبعات الاقتصادية والاجتماعية للانهيار النقدي والمالي، وتؤمّن استعادة المال والأملاك العامة المنهوبة والتأسيس لنظام ضريبي تصاعدي جديد ولإعادة هيكلة الإنفاق العام، بالتزامن مع إقرار قانون جديد للانتخابات قائم على النسبية خارج القيد الطائفي". وتداول المجتمعون "أهمية تصعيد الانتفاضة واستمرار الحوار المشترك، بمختلف السبل والأشكال المناسبة، بما يعزّز مساحة التفاعل البنّاء والتلاقي الوثيق بين مكوّنات الانتفاضة". وتقرّر في هذا السياق الأخذ بالاقتراحات والملاحظات والتعديلات التي أبداها المشاركون على مشروع الورقة المقدمة إلى الورشة الحوارية، كما تقرّر عقد جلسات حوارية. هي انتفاضة بحجم الوطن، عابرة للطوائف والمذاهب. سواء أطلق عليها ثوّارها "انتفاضة"، أو "حراك" أو "ثورة". فالعزيمة والإصرار والحرص على استكمال المواجهة هي الإسفين الذي ضرب نعشَ هذا النظام السياسي الطائفي الفاسد الذي سيزول حتماً لتحقيق نقلة نوعية في طبيعة هذا النظام المتعفّن وخلق منظومة جديدة في الاقتصاد والسياسة والتعليم والنقابات.

الانتفاضة وجدليّة تكوين الموقف السياسي

 
تسجل الانتفاضة الشعبية، انتفاضة 17 اكتوبر، ولأول مرة في لبنان، حدثاً تاريخيّاً بكل المقاييس، وهوحدثٌ سيؤثّر حكماً، ويطبع بطابعه المرحلة المقبلة، وفي اتجاهين؛ أفقياً، على اتساع الوطن وشمولية القطاعات والقضايا، وعمودياً، على مستوى القوى المنخرطة فيه على ضفتي المواجهة؛ السلطة ومكوناتها، والشعب بكليته وبقواه السياسية – الجذرية منها أو المتسلقة على أكتاف المناسبات للاستفادة الآنية من نتائجها– يضاف إليهما الخارج، وهو الممسك ببعض الداخل، من قوى سياسية مرتبطة به وبمشاريعه، والمعني بالأساس، بالتركيبة السياسية القائمة في لبنان، والتي بطبيعتها تابعة بالسياسة والاقتصاد، لتعكس توازنات إقليمية ودولية محكومة بنمط من علاقات الدول ومصالحها. فالقراءة السياسية لهذا الحدث محكومة إذن بتلك التعقيدات؛ فالتركيبة الهجينة للنظام السياسي جعلت مساحة التقاطع الإقليمي والدولي واضحة وجليّة، ما يجعل كل قراءة تغفل أيّاً من تلك العوامل، ناقصة. وفي المقابل، أي تعامٍ عن الظروف الداخلية للأزمة، والتي لا تنقصها الأدلّة ولا الإشارات، ستجنح بالابتعاد عن الفهم الموضوعي المطلوب في هذا الوقت. فأدلّة الداخل لا تنقصها مؤشرات الخارج، لأن بناءه لم يكن في الأساس من خارج عباءة ذلك الخارج وتأثيراته، لا بل أكثر من ذلك، كان من صلب مشروعه الإمبريالي المستمر. فالنظام السياسي القائم في لبنان، ومنذ وجوده ككيان مستقل، لم يكن، لا في الشكل ولا في المضمون وكذلك في الوظيفة، إلّا استجابة لخارجٍ استثمر مبكراً في طبيعة هذا البلد وتركيب منظومته، السياسية والاقتصادية، القائمة على الجمع بين الطوائف، ككيانات "مستقلة" ضمن منظومة تحاصص واحدة، لكنها ليست ثابتة، تتبدل أدوارها وفق تبدل الوصايات الدولية؛ فَعَمِل، أيذلك الخارج، على ترسيخ تلك الوضعية كما على تطويرها وحمايتها. فأي خلل ناتج عن سلوك هذه التركيبة أو مشغليها، كان يُعَبّر عنه بتوترات وحروب أهلية، تَخرج البلاد بعدها بنمط علاقات جديدة تُصاغ بين مكوناتها "المستقلة" تعكس نتائج تلك الحروب. فعلى ذلك التقاطع، البنيوي والشديد الوضوح، القائم بين الداخل والخارج، سنقدم الرؤية المفترضة لفهم الظروف ولقياس المقاربات؛ فالطبيعة التابعة–المستدامة للنظام السياسي في لبنان أعطت لذلك الخارج "مونة" وازنة على الداخل، وهذا مفهوم ومعلن وليس مستتراً، وقد طاول حجم التدخل، مختلف القضايا وبكل الأساليب والطرق، ما أوجد أرضية التقاطع تلك، الواقعة بين تحديات مشاكل المنطقة وتطوراتها وتعقيداتها من جهة، واستجابة القوى الموجودة لتنفيذ أدوار مطلوبة منها في الصراعات الدائرة من جهة أخرى. هذا التناقض أوقعها في انفصام جليّ ومستدام فيطبيعة موقفها وسلوكها والدور المطلوب منها، ولو أدّى ذلك إلى تناقض مع "شريكها" المحلي. وهذا ما شهدناه تكراراً طوال مرحلة من عمر لبنان المستقل. بالاستناد إلى هذه القراءة يمكننا مقاربة هذا الحدث "التاريخي"، الذي يجري اليوم، بغض النظر عن النتائج المتوقعة أو المرجوة منه؛ هو حدث غير مسبوق في التاريخ المعاصر للبنان، بحيث ينتفض الشارع متخطّياً، ولو بالشكل، حدود الانقسام المذهبي والطائفي والمناطقي الذي عاشه أطواراً متتالية من الزمن. فهذا الانزياح "الجنيني"، الذي ظهر، وفي كل المناطق، والذي عُبّر عنه بخطاب موحّد، إلى حدٍ يمكن البناء عليه، قد يجعل إمكانية التفلت من كوابح المذاهب والطوائف أمراً متاحاً ولو جزئياً، بالإضافة إلى تلمس حالات من التمرد الخجول على خطابات سياسية، لطالما ربطت الجمهور بمصالح من خارج مصلحته المباشرة، فظهر الناس في انتفاضتهم اليوم وهم أكثر جرأة على الإشهار بغضبهم، والذي لم يرقَ بعد إلى حالة من التفلت أو الانفكاك عن وعيهم الطائفي باتجاه آخر وطني أو طبقي، وهذا أمرٌ لا يمكن التغافل عنه أو تخطّيه، إذ لا يمكننا هنا تسجيل تقدم ملحوظ في هذا المجال بل إرهاصات محسوسة أو مفترضة لذلك التقدم، لا بدّ من التدقيق فيها، وأخذها من ثمّ، في الاعتبار. وعليه، يبقى الرهان على تجذير تلك النزعة "الانفصالية" الحاصلة ولو جزئياً وتطويرها إذا أمكن، ومن ثم تثبيتها عند الحدود التي نستطيع البناء عليها. هذا الأمر يتطلّب إحداث تلك النقلة النوعية المطلوبة، وبعيداً عن أي أوهام أو التباسات، بين حدّين متوازيين: حد المجاهرة المعلنة برفض السائد والموروث، وحدّ الاقتناع بالخطاب المعلن والموجود اليوم والمُعَبّر عنه في الشارع، ولو بطريقة مرتبكة. وهذا لن يتم إثباته والركون إليه، إلّا من خلال توضيح السقف السياسي وخطابه المعلن ونتيجته، والتي ستشكل فرزاً واضحاً في المواقف، لا لبس فيه ولا التباس، وهذه هي النقلة النوعية المطلوبة اليوم والتي يمكن الرهان عليها لبناء المستقبل. إن المجاهرة في رفض النظام السياسي القائم، وتحميله وزر الأزمات المتلاحقة، والتي أوصلت البلد إلى الانهيار واستكمالاً، تحميل من تولى السلطة المسؤولية السياسية عن ذلك، باتت من ثوابت كل تلك الساحات، وإن تباينت أو التبست بين ساحة وأخرى، أو اندرجت في خانة ردة الفعل العفوية، وأحياناً المفتعلة. كما أن ضرورة إحداث تغيير في بنية السلطة السياسية وفي المنظومة الحاكمة، شغل قسماً كبيراً من الخطاب السياسي المواكب، والذي كان يترجّح بين سقوف متباعدة، وأحياناً متناقضة. فالمسافة بين الحد الأقصى والحد الأدنى للخطاب، لا تقاس هنا بالفارق الجوهري أو النوعي، بل بمنطق الاختلاف الحاصل والمعلن بوضوح في الوعي السياسي لهذا الشخص أو ذاك أو لهذه المجموعة أو تلك وكذلك لخياراتها. فنكاد نتحصل، وفي الوقت نفسه، على موقف سياسي واضح وعالي السقف من كل الساحات وأيضاً نقيضه. وهذا إن دلّ على شيء، فإنه يدل على حجم التفاوت الموجود بين المشاركين، وأيضاً على شمولية الحراك الذي يشمل أكثرية الشعب اللبناني، بمناطقه وإقطاعاته السياسية والطائفية والاجتماعية والطبقية. بناءً على ما تقدم، فإن استخراج الموقف السياسي من نبض الشارع يصبح بذاته أمراً أكثر إلحاحاً، وإن لم يشكل إجماعاً آنياً. الخلاصة المحققة من كل تجارب التعايش مع هذا النظام السياسي تؤكد بأنّ لا حل إلّا بتغيير أساسه، وإعادة تكوين السلطة على قواعد جديدة، انطلاقاً من ثابتة، ولو أنها غير مكتملة العناصر، وهي أن الشعب قد تخطّى، ولو مرحليّاً، حاجز الخوف الوجودي الذي وضعه فيه أصحاب الطوائف. وعليه، يصبح الانطلاق من هذه الأرضية الصلبة للموقف الذي سيُبنى عليه المشروع، قادراً على إطلاق برنامج تأسيسي لدولة وطنية بمهام وبرامج وسياسات تستطيع من خلالها التصدي، بكفاءة وبمسؤولية، للتحديات الكبرى التي ستواجهها مستقبلاً، إن كان على مستوى مواجهة الأخطار والمشاريع الإمبريالية من خلال إقفال أبوابها إلى الداخل وتعطيل مفاعيلها، أو على مستوى تحديات مشاكل الداخل الذي يعاني، بدوره، فقدان المناعة المطلوبة. إن بناء الدولة يجب أن يلحظ ضرورة الربط ما بين طبيعتها ووظيفتها، لأن التركيبة الداخلية للمنظومة السياسية هي شرط أساسي لإشهارالأساس الحقيقي لبرنامج المواجهة. لقد أهدرت التركيبة الحالية، المتوارثة والمهجّنة، والتي حكمت البلد منذ مدة طويلة، الكثير من الوقت والفرص والإمكانيات؛ فطبيعة النظام السياسي القائمة على المذهبية والطائفية، قد أفقد النظام متانة وحدته الضرورية للتصدي لمستلزمات بناء الدولة بكليتها. كما أن العلاقة التشاركية بين الكتل المكوّنة لتلك التركيبة جعلت نمط العلاقات البينية بين أطرافها تتّسم بالريبة وأحياناً بالتوجس، ما جعلها تهتز عند أي حدث، داخليّاً كان أم خارجيّاً. فمع تلك التركيبة المصطنعة، وبدورواضح من الخارج، أصبح لكل مكوّن علاقاته الداخلية، التي ترسمها خطوط الطوائف وحدود مصالحها وتقاطعاتها وطبيعة سلوكها، وأيضاً نمط علاقاته الخارجية، التي يستمد منها الدعم والمؤازرة متى تطلبت خياراته الداخلية ذلك، أو متى طلب منه الخارج تنفيذاً لأجنداته. في الحصيلة المضمونة، أصبحت المناعة الداخلية للبلد، ربطاً بنظامه السياسي، غير قادرة على الوقوف في وجه هذه التحديات. ومع هذا الثقب الأسود المُتأتّي من ذلك، وخطورة فتح الطرقات الداخلية أمام تلك المشاريع، فإن البناء على شمولية التحرك يصبح الهدف المطلوب، وإن شابه بعض التشويش المقصود أو المخطط له، نظراً لأنّ الغاية الكبرى (الشمولية) تفسد الغايات المشتبه فيها (الجزئية) وتعطّلها، حتى ولو أدارتها دول ومنظمات ورؤوس أموال لها ارتكازاتها الطائفية والمذهبية. كما أن الانكفاء خلف نظرية المؤامرة، والتي هي موجودة بكل تأكيد، والتستّر بها، لا يمكن أن يؤسس لمواجهة جديّة معها، لا بل يعطي أصحابها دفعاً إضافياً نحو تحقيق غايةٍ من اثنتين: إمّا تحقيق أهدافهم وإمّا إحباط الأهداف الحقيقية للانتفاضة، وفي كلتا الحالتين هو انتصار لهم وهزيمة لنا. لذلك يصبح فرز الساحات ضرورة تفرضها موجبات المواجهة وضمانة مزدوجة، للنجاح ولمنع المصادرة في الوقت نفسه. على تلك الأرضية، يصبح طرح شعار إسقاط النظام السياسي في لبنان ضرورة في المواجهة الشاملة مع المشاريع الإمبريالية المقيمة في منطقتنا أو القادمة إليها؛ فالطبيعة التابعة للنظام السياسي هي بذاتها إحدى أدواته، وعليه تصبح المقاربة أكثر جدية وموضوعية ووضوحاً، وأكثر قابلية للتحقّق، فيما لو أن زخم تلك التحركات جرت الاستفادة منه في هذا الإطار. وأيضاً، فإن الدور الخارجي لن يكون بعيداً عن الاستفادة من هذا الوضع، وأن يستثمر فيه تنفيذاً لمشروعه، منطلقاً من نقاط ارتكاز محلية، سياسية ومالية واقتصادية. أمّا مهمة التصدي لهذا "العدوان"، فيجب أن تكون من خلال تعديل موازين القوى لمصلحة من يرى في النظام السياسي الحالي وسياساته وسلوكه استجابة لمشاريع غربية تحاول وضع يدها بالكامل على المنطقة، ما يحرم الخارج، في هذه الحالة من أدواته، ومن لعب دوره، ما قد يفقده إمكانية الاستخدام والتجيير والاستفادة. إنّ الانتفاضة الشعبية دخلت لاعباً جديداً على خط التوازنات السياسية والتحالفات في لبنان. وعلى هذا الأساس يصبح تطويرها وتصعيدها مسألتين ضروريتين تفرضهما طبيعة المواجهة القائمة؛ فتغيير السياسات مرتبط بتغيير موازين القوى وإعادة تشكيل السلطة وفق مكونات جديدة، تعكس، إلى حد مقبول، طبيعة القوى السياسية والمجتمعية التي تمثل، ليس على صعيد القضايا فقط، بل على صعيد نبض الشعب اللبناني الذي يرفض المشاريع التقسيمية في المنطقة وفي لبنان، ويعمل على مقاومتها والتصدّي لها، كما يرفض في الوقت ذاته التبعية للسياسات الاقتصادية والمالية والارتهان لها ولمؤسساتها الدولية، والتي تشكل الذراع المالية للإمبريالية. وعلى هذا الأساس نرى اليوم بأن المهمة الأساس هي استكمال تلك المواجهة، باتجاه إعادة تشكيل السلطة وفق آليات جديدة تعكس المستجد الحاصل داخلياً، مع الإشارة، لا بل التأكيد، أنّ "الخرق"، باتجاه بنية النظام، لن يكون إلّا أحد الأهداف التي يجب الوصول إليها، وأيضاً من خلال التحوّل باتجاهات جديدة في الاقتصاد وبوجهة تحررية، من إرث متوارث لا يزال معمولاً به إلى آخر يكسر بأبعاده، وبما يهدف إليه، التبعية المتوارثة، ويفتح أفقاً جديداً يتماشى مع المتغيرات الحاصلة على الصعيدين الإقليمي والدولي. فالتكامل الاقتصادي بين الدول مع الانفتاح على أسواق أو وجهات جديدة يمكنها أن تشكّل الخرق الحقيقي لتغيير مسار تقليدي أوصل البلاد إلى الأزمات المتتالية التي نعيشها. هذا الأمر يتطلب النظر في اتجاهات جديدة تخالف السائد، وتعمل لاستمالة قوى إضافية، ومن مواقع متقاربة؛ قوى تستطيع تقديم دعم إضافي، مطلوب بإلحاح الآن، إن أردنا التأسيس لمرحلة جديدة في الوضع اللبناني ومساره، وإلّا سيلزمنا عقوداً إضافية من السنوات كي يعاود الشعب اللبناني حركته هذه؛ ربما لأن دورة "الاستفاقة" له، يلزمها أطواراً كي تتجدّد.