"تسعيرة الكهرباء".. مواطن مطحون بين جشعٍ وفساد

  بوابة الهدف
فلسطين

وسط كلّ ما هو كفيلٌ بإحكام القبضة الخانقة على رِقاب المواطنين في غزة المنكوبة، تخرج الحكومة بقرار تثبيت تسعيرة كيلو الكهرباء المورّدة من المولّدات التجارية عند 3.3 شيكل بالحدّ الأعلى، بعد "ترخيص" تلك الشبكة، التي امتصّت أموال الأهالي طوال سنواتٍ- منذ 2015- وهو قرارٌ أثار مُجدّدًا غضبًا شعبيًا وسخطًا على طرفيْ الأزمة.

انتقادات جمّة وشكاوى بعدد شعر الرأس طالت شبكة المولّدات هذه، ومالكيها، على مدار السنوات الأخيرة، بسبب غلاء سعر كيلو الكهرباء (8 أضعاف سعر كيلو كهرباء البلدية). وأيّ منطق يُمكنه تبرير هذا الاستغلال- المسكوت عنه- أو القبول به. لكن يبدو أن المواطن الغزاوي الذي تكيّف- غصبًا- مع كلّ ما تقيّأه الانقسامُ السياسي من أزماتٍ ومشكلات، لا حيلة له إلّا القبول، و(العيْش)! وليس هذا بمعزلٍ عن الحصار الصهيوني وتداعياته بالطبع.

مالكو المولّدات احتكروا هذه التجارة، على مرأى السلطات في غزة- التي تعلم كلَّ شاردة وواردة وتعرف أينَ يذهب كلّ (شيكل)، لكنّها آثرت الصمت، والمراقبة من بعيد، وتركت حيتان رأس المال هؤلاء لينهشوا أموال المواطنين وقوت أطفالهم، لِقاء حقٍّ أساسيّ وبسيط، عجِزَت الحكومة عن توفيره لهم، وهي المسؤول والمُطالَب الأول بإيجاده.

لم يكتفِ أصحاب المُولّدات بتعبئة بطونهم بتلك الأموال، كما لم تكتفِ الحكومةُ بتركهم لهذا، إذ تكشّفَ أكثر من مرّة تورُّط جهات مسؤولة في هذا الملف، ودارت شُبهات حول شركة الكهرباء نفسها، وبلديّات في عدّة مناطق، عملت سمسارًا وشريكًا لمالكي المولّدات في هذه التجارة المُربحة. فكانت خطوط الكهرباء الرئيسيّة تمتدّ لمنازل المواطنين على أنّها "مولّدات". طيّب يعني لأي جهة كانت تذهب أموال المواطنين المعتّرين؟! للجهتين طبعَا. هذه ملفّات فساد صارخ، فُضِحت عدّة مرات في الإعلام المحلّي، دون أيّة إجراءات مُساءلة ومحاسبة حقيقية ورادعة، بدلالة استمرار الأزمة، بكلّ تشعّباتها، حتى الآن.
المّهم، استيقظت الحكومة (التي افترضنا قبل عدّة سطور أنّها التزمت الصمت.. ها؟) - أخيرًا- على الفساد الحاصل، والاستغلال الذي يُمارسه مالكو المُولّدات التجارية، على المواطن الغلبان، وقرّرت شركة الكهرباء- في أولى التحرّكات- تنظيمَ هذه الظاهرة، في ديسمبر 2019، ثم أعلنت سلطة الطاقة منتصف سبتمبر 2020 "ترخيص المولّدات- على تسعيرة 2.5 شيكل، كحد أعلى، للكيلو وات، اعتبارًا من 1 أكتوبر لذات العام.

قامت الدنيا ولم تقعد-أو ربّما قعدت فوق رؤوس الناس- أعلن أصحابُ المولدات تعليق الخدمة، ورفض التسعيرة الجديدة، بادّعاء أنّها "أقل من تكلفة الإنتاج، وبالتالي مَخسر لهم". علمًا بأن عدد مشاريع المولدات في القطاع حوالي 200 مشروعٍ، تُزود قرابة 60 ألف مُشترك بالتيار، منهم مواطنون ومحال تجارية ومراكز صحيّة ومُنشآت زراعية وغيرها.
يرى حيتان المولّدات أنّهم حلّوا أزمة الكهرباء إلى حدٍّ كبير، خلال السنوات الأربعة عشر، التي تفاقمت فيها الأزمة- منذ القصف الصهيوني الذي دمّر محطة التوليد عام 2006- في ظلّ عجز سلطة الطاقة عن إيجاد بديل حقيقي يُوفّر التيار للمواطنين، وعليه تكون الحكومة في غزة مدينة لهم. وعليها أن تغضّ البصر عن استفحالهم في مصّ أموال الناس. دون مساءلة أو محاسبة.

وعلى مدار شهور من المناكفات في هذا الملفّ، خرج عددٌ من أصحاب المولدات لفضح "النوايا الحقيقية لتحرّك الحكومة الأخير ضدّهم.. إذ تسعى لفرض إجراءات تنظيم وترخيص ستجني من ورائها مبالغ باهظة". وهذا في ظلّ أزمة خانقة تُعانيها ولا تُخفيها الحكومةُ في غزة. وعبّر أولئك أيضًا عن تخوّفهم من "توجّه حكومي لضرب هذه مشاريع المولّدات لصالح مُستثمرين جدد من طرفها، أو لها مصالح متبادلة معهم".
كما طُرحت تساؤلات كثيرة حول توقيت هذا التحرّك الحكومي، المهم والمُلحّ طبعًا، لكنه كان مطلوبًا منذ سنوات، فالأحرى بالسلطات في القطاع انتهاز أيّ فرصة، وخلق أيّ إجراء، والتحرّك بأيّ قرار ممكن للتخفيف عن كاهل المواطنين المنكوبين، لا المماطلة والتقصير وزِيادة الحِمل على الناس، في ظلّ واقع معيشي تحت الصفر، ونسب فقر وبطالة لا تنفكّ تتفاقم حتى وصلت مُعدّلات مُرعبة، أجمعت جهات حقوقية عديدة- دولية ومحلية- على خطورتها، وعلى تسببها بجعل هذه المنطقة غير صالحة للعيش!

وعودة إلى البيان الحكومي الصادر عن اللجنة المخوّلة بمتابعة ملف المولدات التجارية، نجد فيه سطرًا تطرّق إلى مصلحة المواطن- فعلًا؟- قالت اللجنة "حَرِصنا منذ بداية العمل في هذا الملف على تحقيق التوازن بين مصلحة المواطن...، ومصلحة أصحاب المولّدات". وأضافت في فقرة لاحقة أنّ هذه التسعيرة "قُيّمت على أساس واقع البيانات العملية والظروف الفنية الميدانية"، منوهةً إلى أنّها "ستخضع للتقييم...، لضمان تحقيق العدالة".

نطرحُ تساؤلًا مهمًا: "ألا تستطيع الحكومة في غزّة حلَّ مشكلة الكهرباء فعلًا؟!- إذا استطاع تُجّار ومُستثمرون توفير الكهرباء، ألا تَقدِر (حكومة) على فعلها، وهي التي بيدها زمام السلطة؟".

في غزّة، المواطنُ المفروم، والممزّق بين فواتير كل شيء: طعام وشراب وعلاج وملابس وتعليم وسكَن، وفواتير إضافية للكهرباء البديلة، وإضافية جديدة لاتّباع إجراءات الوقاية والتعقيم الآن في ظلّ جائحة كورونا اللعينة، سيبقى يدفع دمّ قلبِه للحكومة، وحيتان رأس المال، وللهواء، دون أن يلتفت إليه أحد، فكلّ المصالح أساسيّة ومُلحّة وأولويّة، ما عدا مصلحة هذا المواطن المُزعِج