تقرير سياسي صادر عن اللجنة المركزية للحزب الشيوعي اللبناني

  اللجنة المركزية للحزب الشيوعي اللبناني
وثائق الحزب
 بلغت أزمة الرأسمالية ذروة تفاقمها، وفقدت القوى الامبريالية إمكانية التحكم بتناقضات نظامها الاحادي القطبية بقيادة الولايات المتحدة، ولم تعد قادرة على فرض سياساتها على العالم كما في السابق. وقد مضت قدما في توسّعها الخارجي ضد كل من يهدّد زعامتها خصوصا الدول الصاعدة وعلى رأسها روسيا والصين وسائر الدول التابعة من أجل نهب ثروات الشعوب وإخضاعها كحاجة ملحة لمعالجة أزمة رأسماليتها. وقد توسّلت لتحقيق أهدافها كل اشكال العدوان، من اثارة الحروب المتنقلة في غير مكان من العالم، الى الضغوط والعقوبات والحصار الاقتصادي والمالي، الى دعم القوى اليمينية والعنصرية ومجموعات القتل، وصولا للانخراط المباشر في حروب استعمارية، آخرها ما يحصل اليوم في حماية الكيان الصهيوني ودعمه في حرب الإبادة الجماعية التي يشنها ضد الشعب الفلسطيني ومقاومته في اطار مشروعها للسيطرة على منطقة الشرق الأوسط التي تحتل أهمية كبرى جيو- سياسية في الصراع الدائر لقيام نظام عالمي جديد متعدّد الأقطاب. 

  

المأزق السياسي والعسكري للعدوان الصهيوني على غزة:

لم يعدم العدو الصهيوني على مدى 75 عاما، وسيلة من الوسائل العسكرية والأمنية الا واستخدمها لتصفية القضية الفلسطينية: حاصر الشعب الفلسطيني بكل الوسائل الاجرامية، اعتقالا وقتلا وتهجيرا وقمعا لانتفاضاته المتكررة في الضفة الغربية والقدس وغزة وفي الأراضي المحتلة عام 48. استخدم أحدث أنواع الأسلحة والتكنولوجيا العسكرية والأمنية المتطورة في ضرب الشعب الفلسطيني ومقاومته في الداخل وفي دول الشتات. انقلب على الاتفاقيات وما فيها من تنازلات مستبعدا كل أشكال الحلّ السياسي. رفض حق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره وإقامة دولته المستقلة الضامنة لحقوقه المشروعة. استمر في توسيع الاستيطان في الضفة والقدس، مراهنا على تخلي العالم عن القضية الفلسطينية، بما فيها دول وشعوب المنطقة، وعلى مواصلة توسّع التطبيع  وصولا الى المملكة العربية السعودية، حتى رفع نتانياهو في الأمم المتحدة في 22 أيلول 2023 خارطة الشرق الاوسط الجديد، التي لا وجود لدولة فلسطين عليها. 

 ويتأكد اليوم وبعد أكثر من ثلاثة أشهر ونصف الشهر، على بدء العدوان الصهيوني على غزة وصمود الشعب الفلسطيني ومقاومته، وصول حكومة الكيان الصهيوني الفاشي إلى مأزق سياسي وعسكري يتمثل في فشل تحقيق أهداف عدوانه على غزة: بتصفية القضية الفلسطينية وإحداث تغيّرات في المشهد السياسي الإقليمي والدولي، وضرب المقاومة الفلسطينية و"تحرير" معتقليه بالقوة العسكرية والسيطرة على غزة.

 

انهيار مسار تصفية القضية الفلسطينية:

لقد أدّت عملية 7 أكتوبر، وما تلاها من عدوان صهيوني وحشي على غزة إلى انهيار مسار تصفية القضية الفلسطينية المستمر منذ اتفاقية أوسلو، حيث أثبت الشعب الفلسطيني من خلال مقاومته أنه لا يمكن عزل هذه القضية وتهميشها، فعادت القضية الفلسطينية إلى الواجهة السياسية اقليمياً ودولياً، وازداد التضامن العالمي غير المسبوق مع الشعب الفلسطيني. وفي المقابل تزايدت عزلة "اسرائيل" الدولية وآخر مظاهر هذه العزلة هو قرار محكمة العدل الدولية الذي وضع" إسرائيل " في قفص الاتهام كدولة فصل عنصري تنفذ حرب إبادة جماعية ضد الشعب الفلسطيني في غزة. أمّا مسار التطبيع، والذي كانت تعوّل عليه "إسرائيل" بشكل كبير كي يحوّلها إلى دولة اقليمية مؤثرة تسيطر وتستفيد اقتصادياً من علاقاتها خصوصاً مع الدول الريعية النفطية، فقد تم تجميده  الى أمد غير محدّد ، بنتيجة تداعيات هذه المواجهة البطولية . وقد يكون الأفق القادم للحرب العدوانية على غزة أكثر خطورة لأن فشل "إسرائيل" سيضعها أمام خيارات صعبة جداً، ومن ضمنها استمرار النهج الإجرامي ضد الشعب الفلسطيني، أو الهروب إلى الأمام من خلال حرب شاملة في المنطقة تستدرج اليها الولايات المتحدة لإخراجها من مأزقها السياسي والعسكري، رغم تردّد الإدارة الأميركية في سلوك هذا الخيار، وهي التي تواصل اعطائها الضوء الأخضر لاستكمال حرب الإبادة الجماعية ضد الفلسطينيين. 

 

موازين القوى ووقف إطلاق النار

إنّ التحدي الآني الذي تواجهه القضية الفلسطينية ، ومعها حركة التحرر الوطني وكافة القوى المناهضة للولايات المتحدة ، هو عدم وجود ميزان قوى قادر على فرض وقف إطلاق النار ووضع حد نهائي لحرب الإبادة الجماعية في قطاع غزة، إذ يمكن ملاحظة التالي:

القوى الصاعدة وعلى رأسها الصين وروسيا تبدي دعماً سياسياً للقضية الفلسطينية وتصوّت إلى جانب قضاياها في مجلس الأمن والأمم المتحدة، لكن ذلك ليس كافيا لوقف إطلاق النار. القوى الإقليمية الكبرى مثل إيران تدعم حركات المقاومة لكنّها تتجنّب بشكل قاطع انخراطها المباشر في المواجهة مع الأميركيين، فتبقى تحت سقف ضبط الصراع، وبالتالي لا تستطيع أن تفرض وقف الحرب. أما تركيا ( عضو الناتو) فلا تبدي سوى الدعم اللفظي وتستمر في علاقاتها الطبيعية مع العدو، كما تستمر سوريا في تلقّي الاعتداءات الصهيونية من دون أي رد فعلي عليها، فيما تتماهى وتتواطأ أغلبية الأنظمة العربية ولا سيما المطبّعة منها مع العدو. حركات المقاومة في المنطقة تواجه وفق قواعد الاشتباك المضبوط في إطار الإسناد والدعم الايراني، من دون ان يؤدي ذلك إلى وقف اطلاق النار. اليسار والقوى التقدمية على المستوى العربي والعالمي تناضل وتتظاهر وتعارض، لكنّها غير قادرة في موازين القوى الداخلية أن تفرض على حكوماتها تغييرات جذرية في مواقفها، وبالتالي لا تستطيع فرض وقف إطلاق النار. المبادرات القانونية الدولية مثل شكوى جنوب أفريقيا قد حققت إحراجاً للعدو لكنّها لا تشكّل عاملاً حاسماً لوقف العدوان بسبب الغطاء السياسي الأميركي المفتوح للعدو، وإعلان قادته السياسيين والعسكريين بأن الحرب على غزة ستستمر لستة أشهر اضافية.  حجم المواجهة في الضفة الغربية وفي أراضي 48 يتصاعد لكن يبقى بعيداً عن فرض موازين قوى جديدة يفرض وقف العدوان.

ومع أهمية كل هذا الدعم والتأييد المتوفر حتى الآن عربيا وإقليميا ودوليا وعلى مختلف الصعد ، فلا يزال  التحدي مطروحا لجهة العمل لتعديل ميزان القوى بما يؤمن قدرة المقاومة الفلسطينية على المواجهة على المدى الطويل في قطاع غزة. وهذه القدرة مرتبطة ليس بصمودها وتحقيق الوحدة الوطنية الفلسطينية في مقاومة الاحتلال وحسب، بل ايضا بتحمل كافة القوى المناهضة للعدوان الأميركي – الصهيوني مسؤولياتها التاريخية، لجهة زيادة الدعم السياسي والعسكري والتضامني مع الشعب الفلسطيني ومقاومته، وكسر الحصار وإدخال كل ما يلزم  من أسلحة وذخائر لاستمرار العمليات العسكرية البطولية الكفيلة باستنزاف جيش الاحتلال وفرض وقف اطلاق النار. 

 

تصعيد العدوان الامبريالي – الصهيوني وتوسيعه:

لقد شهدت المرحلة الأخيرة، امعان جيش الاحتلال في ارتكاب المجازر بحق الأطفال والنساء والشيوخ في غزة، ومحاولة السيطرة على طريق معبر رفح لتسهيل تهجير الفلسطينيين الى سيناء، ووقف تهريب السلاح. كما يقوم باقتحام قرى ومخيمات الضفة الغربية التي تقاوم ببسالة نادرة عدوانه فيعتقل مقاوميها ويرتكب مع قطعان المستوطنين جرائم القتل بحق أهلها. وللحد من وطأة الضغوط الدولية المتصاعدة ، يستخدم العدوان الامبريالي – الصهيوني الضربات والعمليات العسكرية والأمنية المركّزة في سوريا ولبنان والعراق واليمن وايران (اغتيال قادة عسكريين فلسطينيين ولبنانيين وايرانيين وعراقيين ويمنيين)، مستفيدا بذلك ليس من التطور التكنولوجي المستخدم في أعمال التجسس عبر الأقمار الصناعية والرصد الالكتروني والاتصالات الهاتفية، بل من أدواته السياسية، ومن النهج السياسي  السلطوي المتبع – في لبنان بخاصة – مع الأذرع الأميركية السياسية والمالية الي تمكنت من قرصنة ما يلزمها من معطيات متعلقة بالشعب اللبناني ، ومن توظيف سياسة التعاطي الرسمي مع العملاء ، واعتبار العمالة " وجهة نظر".

وما كان لتصعيد العدوان ان يستمر ويتوسّع طوال هذه المدة، لولا تواطؤ الأنظمة العربية المطبّعة، وعجز بعضها الآخر عن القيام بالحد الأدنى المطلوب ولو في كسر الحصار المضروب على غزة. فرغم كل الدماء والجوع والمرض والحصار وسقوط ما يزيد عن 27 الف شهيد و66 الف جريح، فأن أحدا من هذه الأنظمة لم يحرّك ساكنا أو حتى  يتجرأ  على ادخال المساعدات الانسانية الى غزة، سواء من البر - عبر الأردن أو مصر العاجزة عن ادخال المساعدات المكدّسة في معبر رفح، أو من البحر والجو.

 

الرد السياسي والعسكري على هذا التصعيد العدواني: 

وسط هذا التصعيد العدواني والأغتيالات، جمّدت المقاومة الفلسطينية المفاوضات واستمرت على موقفها ان   " لا تبادل للأسرى والمعتقلين قبل وقف اطلاق النار" ، كذلك استمر موقف حزب الله  بأن " لا مفاوضات حول الجنوب اللبناني والموضوع الرئاسي قبل وقف اطلاق النار في غزة " ، وعلى وقع هذا الرد السياسي تستمر معركة التفاوض لضرب هذا الموقف عبر محاولة الولايات المتحدة وحلفائها الضغط لعقد صفقة جديدة وهدن جديدة تستهدف تآكل ورقة الضغط الأساسية بيد حماس والمتعلقة بالمحتجزين لديها، وهو ما يجب التنبه له.

 وشكّل الرد اليمني في منع السفن المتجهة الى مرفأ ايلات بالعبور عبر باب المندب، العامل الأبرز والأكثر تأثيرا: أولا ، لجهة الضغط على الاقتصاد " الإسرائيلي" لوقف اطلاق النار وفك الحصار عن غزة ( 6 سفن فقط وصلت الى مرفأ ايلات مقابل  200 سفينة كانت  تصل شهريا) وثانيا، في رفع الأسعار والتضخم في دول الاتحاد الأوروبي بخاصة، وثالثا، في تدخل الأصيل الأميركي - البريطاني مباشرة في الحرب العدوانية على اليمن الذي بدوره لم يتأخر في الرد على العدوان، الأمر الذي وضع منطقة الخليج ومنشآتها النفطية والغازية أمام احتمال امتداد لهيب الحرب اليها وهو ما لا مصلحة لحكام الخليج بذلك. هكذا، وتحت عنوان منع التصعيد، فتحت الولايات المتحدة الأميركية وحلفائها جبهة جديدة في البحر الأحمر ضد اليمن، لتضاف الى جبهاتها الأخرى في العراق وسوريا حيث تتكثف العمليات العسكرية المتبادلة مع قواعدها العسكرية اثر طرح الحكومة العراقية اخراج القوات الاميركية من العراق. 

 

خلاصة المشهد السياسي والعسكري:

- دخول الأصيل مباشرة في المعركة: الولايات المتحدة وبريطانيا (العدوان على اليمن)، وكذلك ايران من خلال الضربات التي نفذتها في أربيل – العراق. 

- ان هذا التصعيد الأميركي – البريطاني وحلفائهما لا يقابله ما يوازيه من قبل روسيا والصين بما يفرض وقف اطلاق النار في غزة، وهو ما يؤكد ان المعركة طويلة ومفتوحة وشاملة على مستوى الإقليم عامة وداخل كل بلد عربي خاصة ولا سيما على المستوى الفلسطيني تحديدا.

 

الحرب الشاملة:

لم يعد احتمال الحرب الشاملة مستبعدا بالكامل ، رغم ان الاميركي والإيراني ليسا بهذا الوارد، ولكن حدثا ما قد يحصل في مسار التصعيد العدواني ويتسبب بهذه الحرب. فاستمرار فشل "إسرائيل" في تحقيق أهدافها قد يدفعها للهروب إلى الأمام عبر حرب شاملة في المنطقة، انطلاقا مما قاله وزير الدفاع الإسرائيلي من ان نتيجة حرب غزة تحدّد مستقبل "إسرائيل" وتنهي وظيفتها كقاعدة متقدمة للامبريالية.  لقد اسقطت عملية 7 أكتوبر كل الرهانات على تصفية القضية الفلسطينية وكشفت عجز الكيان الصهيوني ومقولة جيشه الذي لا يقهر، فأتت الولايات المتحدة مباشرة لأنقاذه مع حلفائها عبر الدعم العسكري والسياسي ووهم "حلُّ الدَّولتين" في ظل حكومة لهذا الكيان الصهيوني الفاشي التي ترفض حتى الحديث عن إقامة دولة فلسطينية بالمطلق.

 

الخطة الأميركية وحل الدولتين: 

تهدف الخطة الأميركية التي طرحها بلينكن في زيارته الأخيرة الى المنطقة، الى إعادة مسار التطبيع مع الكيان الصهيوني و تحقيق أمن الكيان الصهيوني تحت غطاء حل الدولتين، من خلال تشكيل فريق إقليمي من تركيا، السعودية، الأردن، قطر،مصر، الامارات والأردن ، مهمته الأشراف على العملية السياسية والأمنية والاعمارية لما بعد حرب غزة، مع وقف المساعدات الى الاونروا ، وهذا القرار يعتبر بمثابة حرب إبادة عن طريق تجويع الشعب الفلسطيني وحرمانه من كل مقومات الحياة البشرية، وإلغاء صفة اللاجئين عن هذا الشعب. وقد أعلنت الولايات المتحدة والعديد من الدول الحليفة لها تعليق مساعداتها للأونروا، وتحويلها عبر قنوات أخرى بهدف خلق سلطة بديلة عن حماس في غزة (إدارات محلية، مؤسسات دولية وجمعيات أهلية، و"عشائر") تعمل تحت اشراف هذه الدول، مع اجراء تغييرات في قيادة السلطة الفلسطينية عبر دعوتها الى تشكيل حكومة جديدة تضم عناصر (من نوع الدحلان) ليتم تسليمها مواقع القرار الرئيسية فيها ، لتتمكن من ضبط الضفة الغربية وضرب مقاومتها، مع استئناف المفاوضات للأفراج عن الاسرى والمعتقلين على دفعات في ظل استمرار العدوان على غزة والسعي لاخراج قيادة حماس منها أو تصفيتها، مقابل انسحاب القوات الإسرائيلية من القطاع. ما يعني ان "الدولة الفلسطينية الموعودة " في أحسن الأحوال، ووفق الخطة الأميركية تقوم على فبركة سلطة ودولة مرتهنة لواشنطن وتل أبيب وحلفائهما، فيتحقق للعدو الصهيوني ما لم يستطع تحقيقه في الحرب على غزة. 

 

خريطة المواقف من الخطة الأميركية:

تصطدم هذه الخطة بموقف القوى العنصرية والفاشية في الحكومة الإسرائيلية التي لا تزال ترفض إقامة دولة فلسطينية بالمطلق وتريد تهجير الفلسطينيين من غزة والضفة الغربية - يهودا والسامرة - قسرا أو طوعا   (جعل غزة منطقة يستحيل العيش فيها)، وهي تجري اتصالات، بدول افريقية لنقلهم بحرا اليها (أوغندا) وكذلك كندا، هذا  الى جانب محاولة اغراء الرئيس المصري باجراء مقايضة ترمي الى إلغاء بعض الديون عن مصر مقابل استقبالهم في سيناء. وما ينبغي تأكيده هنا، بأن لا خلاف أميركي – إسرائيلي في الجوهر حول تصفية القضية الفلسطينية بدليل موافقة الولايات المتحدة على عدم وقف اطلاق النار، وعدم اطلاق جميع الاسرى "الكل مقابل الكل"، فالهدف واحد وانما الخلاف هو بالشكل لا بالجوهر. 

ويبقى الأساس في اسقاط هذه الخطة هو صمود المقاومة الفلسطينية في غزة وفي الضفة الغربية التي دخلت بقوة في المعركة، وادراك الشعب الفلسطيني خطورة ما يحاك لتصفية قضيته واجهاض تضحياته، وتوظيف هذا الصمود الأسطوري في تحقيق الوحدة الوطنية الفلسطينية وتشكيل قيادة فلسطينية موحّدة تقود كفاح الشعب الفلسطيني وتدفع باتجاه انتزاع المزيد من الدعم السياسي والعسكري والتضامني عربيا وإقليميا ودوليا. وكلما تحققت خطوات متقدمة في هذا الاتجاه، كلما ازدادت الخلافات وتعمق الانقسام السياسي داخل حكومة العدو. وكلما بقي الانقسام الفلسطيني، ازداد خطر اجهاض تضحيات الشعب الفلسطيني وازدادت معاناته. 

 

المفاوضات الأميركية – الإيرانية: 

لم تنقطع هذه المفاوضات، وهي مستمرة وتجري على صفيح ساخن وبشكل غير مباشر، عبر سلطنة عمان  وقطر والسعودية التي بدأت تلعب دور الوسيط في نقل الرسائل بين طهران وواشنطن، وهي تطال مختلف القضايا المتعلقة بالوضع في المنطقة وذات الصلة بتقاسم الأدوار والنفوذ ومواقع الدول ذات المشاريع الأقليمية (تركيا – ايران – الكيان الصهيوني...)، حيث لا يزال الأشتباك بينهما مستمرا ووصل الى ذروته في قصف قصف القاعدة الأميركية في شمال شرق الأردن (سقوط 3 قتلى من الجنود الاميركيين و25 جريحا)، لكن هذا الاشتباك لا يزال مضبوطا وتحت السيطرة حتى الآن ، وهو ما أكده بيان حزب الله العراقي بتعليقه العمليات العسكرية والأمنية ضد قوات الاحتلال الأميركي في العراق وسوريا للحؤول دون احراج الحكومة العراقية التي تفاوض الأميركيين على رزنامة خروجهم من العراق وللتأكيد أن لا علاقة لأيران بالعملية.

 

آفاق المرحلة المقبلة وعناوينها البرنامجية: 

لا حلول حتى الآن، بل استمرار للمعركة، وبقوة أكبر بسبب  الموقف الأميركي: الرافض لوقف اطلاق النار وعدم الافراج عن الاسرى والمعتقلين "الكل مقابل الكل"، وبسبب قدرته المطلقة على استخدام الفيتو في مجلس الأمن ، وكذلك بسبب الضوء الاخضر المفتوح للكيان الصهيوني باستمرار حرب الابادة الجماعية حتى لو استمرت الحرب على غزة لمدة 6 اشهر مقبلة كما صرّح نتنياهو بعد حصوله على كل ما يلزم  من أسلحة أميركية متطوّرة، وكما دعا  مؤتمر اليمين الصهيوني الفاشي  - الذي حضره 12 وزيرا من حكومة نتنياهو – الى استمرار الحرب والسيطرة على غزة عسكريا وإحلال المستوطنين فيها. وقد ترافق ذلك مع اطلاق التهديدات المباشرة بأن قرار الحرب على لبنان قد اتخذ. 

يجري كل ذلك في ظل عدم وجود موازين قوى دولية تفرض وقف اطلاق النار. فكيف للمقاومة الفلسطينية ان تستمر في صمودها طوال ستة اشهر ما لم يتم كسر الحصار ودعمها بمختلف اشكال الدعم. انها مسؤولية تاريخية ملقاة على عاتق كل أحرار العالم وبخاصة القوى الوطنية والتقدمية واليسارية العربية المطالبة بتكثيف الضغط الشعبي على حكوماتها وإنتاج برنامج عمل ملموس وطارىء تحقيقا لمتطلبات اسقاط الخطة الأميركية وخروج المقاومة الفلسطينية منتصرة في المعركة. والبرنامج، خصوصا في شقه السياسي اليساري العربي، ينبغي ان يتصدى للمهمات التالية:

ان يستنهض اليسار دوره ليس في مقاومة العدوان والاحتلال الأجنبي فحسب ، بل  كذلك في مواجهة نظم التبعية والقمع والاستبداد السياسي والاجتماعي بهدف إقامة دول وطنية علمانية ديمقراطية مقاوِمة. يساعد على تحقيق الوحدة الوطنية الفلسطينية من خلال إصلاح منظمة التحرير الفلسطينية وتوسيعها، لإشراك كل الفصائل الوطنية الفلسطينية، كي تقود المواجهة وتتولى تمثيل الشعب الفلسطيني وقيادة الصراع  مع العدو. ينطلق من ان مشروع حل الدولتين لم تعد له مقوّمات على ارض الواقع بعد توسّع المشروع الصهيوني- الاستيطاني وسياسات الفصل العنصري وحرب الإبادة الجماعية والتهجير القسري والطوعي للشعب الفلسطيني، وان لا حل امام الشعب الفلسطيني الا النضال المتعدد الاشكال على درب التحرير من اجل حق العودة وإقامة الدولة الوطنية الفلسطينية، العلمانية والديمقراطية، لجميع المواطنين، وعلى كامل التراب الوطني الفلسطيني وعاصمتها القدس. يعمل على اجتذاب الدعم المتعدد الأشكال عربيا ودوليا للقوى والأحزاب اليسارية العربية المنخرطة في العمل المقاوم، ولتلك المستعدة للانخراط به اذا ما تعرضت بلدانها للعدوان والاحتلال، وكذلك الأستعداد الكامل لكي تكون حاضرة أيضاً في الحرب الشاملة، عبر اطلاق العمل في "المقاومة العربية الشاملة"، الأمر الذي يمكّن الأحزاب اليسارية من ان ترفض بفعالية أكبرأي تسوية تتضمن تنازلات عن الحقوقِ الأساسيَّةِ للشَّعب الفلسطينيّ وشعوبنا العربية. يعزز دور اليسار في المواجهة الشعبية والاعلامية تحت مواضيع عدة: تأكيد حق العودة؛ تفعيل العمل الشعبي ضد سفارات الدول المشاركة في الحرب والداعمة للعدوان؛ رفع الدعاوى أمام الهيئات والمؤسسات الدولية والعربية المعنيّة؛ تفعيل مقاطعة منتجات الشركات الداعمة للعدو الصهيوني وتعميمها. يطوّر اليسار مشروعه التنموي المتجسد في قيام اقتصاد عربي منتج ومتقدم تكنولوجياً، ليتيح إعادة توزيع الثروة  والدخل ويحدّ من عدم المساواة عبر تأمين الحقوق الاجتماعية والاقتصادية الأساسية لكل المواطنين.

 

الوضع اللبناني:

على الصعيد السياسي والأمني:

بقيت جبهة الجنوب اللبناني مع العدو الصهيوني محكومة بقواعد الاشتباك بشكل عام، مع بعض الخروقات المحدودة، المترافقة مع زيارات الموفدين، التي حمل معظمهم رسائل التهديد الإسرائيلية بوجوب عدم توسيع الحرب وانسحاب حزب الله إلى شمال الليطاني سلماً أم حرباً، تطبيقا للقرار 1701، ما زاد من مستوى الضغوط السياسية ربطا بالتصعيد العسكري وما سبقه من اغتيالات لقادة مقاومين لبنانيين وفلسطينيين. في  ظل هذا المناخ، حملت زيارة هوكشتين إلى لبنان، مقترحا مفاده، حماية العدو وعودة المستوطنين إلى الجليل، وفصل جبهة الجنوب عما يحصل من عدوان على غزة، من خلال حل النقاط المتعلقة بالخط الأزرق، واستعداد العدو للانسحاب من تلال كفرشوبا والجزء الشمالي من بلدة الغجر، أما مزارع شبعا فليست مطروحة. ووفق هذه الأجندة يتمّ انتخاب رئيس للجمهورية، وتكليف رئيس حكومة وتشكيلها لتأمين مشاركة لبنان في المفاوضات التي ستجري على مستوى الإقليم، وإلّا سيدفع لبنان الثمن نتيجة الفراغ المستمر.  

تلك هي خطة الضغط على لبنان والاستفراد بالمقاومة الفلسطينية وفصل جبهة الجنوب عن جبهة غزة. هذا، ويتصرف حزب الله وكأن الحرب على لبنان واقعة، وأن الدعم والإسناد لمعركة غزة مستمر حتى يتم وقف العدوان. إضافة لذلك فلا يوجد اتفاق بين أعضاء اللجنة الخماسية على اسم الرئيس، وأن حراك اللجنة يقتصرعند حدود حثّ المجلس النيابي ورئيسه على انتخاب رئيس للجمهورية في جلسة مفتوحة لا تنتج رئيساً وهذا المرجّح. وبناء عليه، فإن الفراغ سيكون هو المسيطر، والازمة ستتفاقم، ما يستوجب منا اطلاق المبادرات والانخراط في تلبية المهام النضالية البرنامجية مع ما يستجد من تطورات على المستويات كافة وبخاصة: 

قرار المواجهة، الذي اتخذه الحزب وعبّر عنه نداء اللجنة المركزية وأكده، وبالإمكانات الموجودة.  التأكيد على موقف الحزب بأن الحدود البرّية بين لبنان وفلسطين المحتلة مقررة  منذ عام 1923، وجرى تثبيتها في خط الهدنة عام 1948، محذرا السلطة اللبنانية من التفريط بسيادة لبنان في مفاوضات ترسيم الحدود البرّية كما حصل في ترسيم الحدود البحرية.     العمل لتعزيز دور القوى الوطنية واليسارية والديمقراطية اللبنانية في مقاومة العدوان والاحتلال الصهيوني الذي قد يتعرض له لبنان ربطا بالتهديدات الأسرائيلية، إضافة الى متابعة الصلات السياسية مع القوى التي تواجه العدو الصهيوني، محملين السلطة السياسية برمتها مسؤولية الأهمال والتنصل عن القيام بواجباتها في توفير كل مستلزمات الدفاع عن سيادة لبنان وغيابها الكامل عن توفير مقومات الصمود الشعبي للأهالي الصامدين في القرى الحدودية بمواجهة العدو الصهيوني. طرح قضية النازحين ( 80 الف نازح ) كقضية وطنية واجتماعية على الدولة واجب الاهتمام بها وتوفير كل ما يلزم من حاجات أغاثة وايواء وغيرها. ومع تقديرنا الكبير للمبادرات والجهود التي تقوم بعض الأحزاب والمؤسسات والشخصيات في تقديم ما يمكنها تقديمه من مساعدات للنازحين، ومع ضرورة استمرارها من دون تمييز الا وفق الحاجة، لكنها لا يمكن أن تحل المشكلة، خاصة اذا ما استمر أمد النزوح، أو اذا ما نفذ العدو الصهيوني تهديداته بشن الحرب على لبنان. وهو ما يستوجب التحرك والضغط على السلطة السياسية كي تقوم بواجباتها تجاه النازحين توفيرا لمقومات الصمود في مقاومة العدوان.   تفعيل العمل الشعبي وتعبئته في الشارع، ضد سفارات الدول المشاركة في العدوان وأمام الهيئات والمؤسسات الدولية والعربية المعنيّة.  تفعيل حملات المقاطعة لمنتجات الشركات والدول الشريكة بالعدوان والداعمة للكيان الصهيوني . على الصعيد الاجتماعي  والموازنة:

رغم الاختلاف الحاد بين قوى السلطة على الموقف من التطورات في المنطقة، أجمعت الكتل النيابية الأساسية التابعة لها - بالتكافل والتضامن وتوزيع الأدوار والتنمّر على النواب المعترضين - على إقرار الموازنة التقشفية وإلقاء معظم الأعباء على الطبقة العاملة والفئات الفقيرة والمتوسطة وأصحاب الدخل المحدود. ولم تخرج هذه الموازنة عن سابقاتها لجهة فرض ومضاعفة الرسوم والضرائب غير المباشرة التي تقع أعباؤها بشكل أساسي على هذه الفئات الاجتماعية، مما يلقي تبعات تأمين الخدمات العامة الأساسية، من ماء وكهرباء ونقل ومواصلات وغيرها، على عاتق هؤلاء الذين تبخّرت ادخاراتهم وجنى عمرهم ومداخيلهم بسبب الأنهيار المالي والاقتصادي عام 2019. فإيرادات الضرائب والرسوم غير المباشرة شكلت نحو 80% من اجمالي الإيرادات الضريبية للموازنة، بعدما تمّت مضاعفة التعرفات والرسوم الضريبية العامة ما بين 10 أضعاف و 46 ضعفا (ووصلت في بعض الحالات الى 60 ضعفا)، فيما يتم التنصّل من فرض ضريبة تصاعدية على أرباح الاحتكارات وناهبي المال العام وعدم استرجاع  مدخرات المؤسسات الضامنة وأصحاب الودائع لا سيما الصغيرة والمتوسطة منها، وغض النظر عن ملف المنافع غير المشروعة المتحقّقة من الهندسات المالية وعمليات التهرّب الضريبي والتهريب مع مكافأة أصحاب المداخيل العالية والثروات والريوع بإعتماد اعفاءات وتنزيل ضريبي على التحسين العقاري.

أما على الصعيد الاجتماعي، فلم يطرأ أيّ تصحيحات نظامية للرواتب والأجور بل مجرد إجراءات يمكن وصفها بالـ«إحسان» وهي لا تدخل في أساس الراتب المعتمد في تحديد المعاش التقاعدي.  وهذا يعكس الواقع المرير المتمثّل في خسارة الأجور نحو 75% الى 80% من قيمتها الفعلية قبل الانهيار المالي، وحتى لو أخذ في الاعتبار تنفيذ ما يجري ترويجه راهنا من اقتراحات بشأن إقرار 3 رواتب إضافية للعاملين في القطاع العام (ليصبح الأجر في حدود 10 أضعاف ما كان عليه عام 2019)، وأستبدال بدلات النقل بعدد من صفائح البنزين. فقد ارتفعت أسعار الاستهلاك وتكاليف المعيشة 46 مرّة منذ 2019 بينما لم ترتفع الأجور إلّا 10 مرّات!! هذا فضلا عن ان الموازنة لم تلحظ مساعدة النازحين من القرى الجنوبية ( أكثر من 80 الف نازح) ولا الصامدين فيها .

هكذا باختصار يتمّ التشريع المنحاز لصالح قوى الرأس المال ضد قوى العمل المأجور، فمثل هذه السياسة تهدف عن سابق تصور وتصميم الى فرض المزيد من الافقار والتجويع، والى زيادة هجرة اللبنانيين الى الخارج التي  تجاوزت الخطوط الحمر. ان الآلاف المؤلفة من اللبنانيين انتفضوا في 17 أكتوبر ضد هذه السياسة بالذات التي أوصلت لبنان الى الانهيار ولا تزال مستمرة في تهديد لبنان ووجوده. وهذا ما يستوجب مواجهة التحالف السلطوي – المالي المتحكم بالقرار، عبر اطلاق تحركات شعبية ونقابية وفق برنامج قوامه: تصحيح الاجر النقدي والاجتماعي بما يوازي نسبة التضخم وتوفير التغطية الصحية الشاملة ونوعية التعليم الرسمي وتخفيض الرسوم على الخدمات العامة الأساسية في الاتصالات والكهرباء والنقل والمحروقات والسكن. 

 

بيروت في 1-2-2024