الثلاثاء، نيسان/أبريل 23، 2024

مجسّات الصهيونية فوق الخرطوم

  محمد المحجوب
رأي
  ماذا يجري في الخرطوم؟ منذ 2013م، تاريخ الهبّة الشعبية التي انطلقت بدوافع معيشيّة بحتة، تمت التضحية فيها برموز لطالما وصفوا بالمتشددين في عهد حكم الإخوان للسودان، تشدد صبغ علاقتهم بكيان العدو، بلغ ذروته في قصف بور تسودان والخرطوم وكسلا من قبل الطيران الصهيوني، وتزويد بعض حركات التمرد المنتشرة في الولايات ضد نظام الاخوان، أولئك "المتشددون" بعضهم اليوم في السجن وبعضهم في المنفى، بعد أن كان التخلي عنهم ثمن العودة "الطوعية" لنظام البشير "للحضن العربي" بعد عقدين من العزلة، ومغامرات التسعينات والحصار والعزلة، عودة أُريد منها توفير غطاء ديبلوماسي لعودة الخرطوم للمنظومة الدولية بعد اشتداد الأزمات الاقتصادية وانفصال الجنوب في 2011م بالتوازي مع الربيع العربي، ربيع توهّم إخوان السودان أنهم معفيّون منه، فباغتهم على حين غرّة بعد تطبيق رفع جزئي للدعم والخدمات والأسعار، مع تضييق الخناق جراء توقف صادرات النفط المحليّة بسبب انفصال الجنوب والحرب الأهلية التي سقط فيها بعد عامين فقط من استقلاله، حرب تورّط فيها جميع المجاورين للجنوب، واستثمر فيها الصهيوني بخبث، لاعبا على وتر الحماية والدعم، لخلق ما يشبه "كوسوفو" سوداء في الشرق الإفريقي.

كل هذا، مضافا إليه الصدع الداخلي غير الملتئم منذ عام 1999م إثر ما تعرف في التاريخ السياسي السوداني باسم "مذكّرة العشرة" التي قدمها جناح المدنيين العقائديين في الجبهة الإسلامية القومية –الحاكمة منذ انقلاب 1989م- لجناح العسكريين البراغماتيين الساعي لعسكرة البلاد مع الاحتفاظ بخط عودة مع الطيف السياسي داخليا والمجتمع الدولي خارجيا، والنقطة الأهم: الحفاظ على الحكم العسكري للسودان، صراع يشابه ذلك الذي ضرب الحزب الشيوعي السوفييتي أواخر العشرينات وحزب البعث أواخر الستينات حول عقيدة الحزب ومنهجية الحكم، فأين "إسرائيل" إذا من كل هذا؟

في الواقع، تدخل الصهيوني في السودان يعود إلى فترة مابين الحربين، في رحلة البحث عن موارد دعم وموطئ قدم في بوابة الشرق للقارة السوداء، في بلد يتسم بالتسامح على فسيفسائه الاجتماعية، وحاول الصهيوني استغلال الأقليّات لخلق حليف مستقبلي ما في البلاد، إلا أن حرب النكبة وما تلاها وحّد الشعور الجمعي للسودانيين بخطورة الكيان الصهيوني.

غير أن هذا، لم يمنع بعض الأطراف السودانية من التوجّه منحى مغايرا لطبيعة الشعب، فبعض القوى المحليّة تفكر بمنطق قاصر يعتمد في جلّه على المصلحة الآنية اللحظية، من دون وضع أي اعتبارات أخلاقية أو عقائدية أو حتى منطقية، فتحرك بعض النخب من الجنوب لسلك مسلك مهادن داع للتطبيع مع الكيان، بالتوازي مع استقلال البلاد، دعمت بريطانيا هذا التوجه خاصة وأنه يخدم مشروعها الاستعماري القديم لشطر وادي النيل على غرار ما فعلته في شبه القارّة الهندية، فدعمت سياسيين ومثقفين وزعماء قبليين ودينيين للتوجه نحو علاقات مع الصهيونية، بترويج من حليف بريطانيا الأساسي في الشرق الإفريقي: هيلاسيلاسي امبراطور اثيوبيا، الذي كان أشد المتحمسين للمشاريع والأحلاف الغربية الاستعمارية، الأوروبيّة خصوصا، كونه ربيب وصنيعة تينك المشاريع، فهو كان ثالث ثلاثة هم أشد أعوان الصهيونية في الشرق الأوسط: إيران البهلويّة، وتركيا الكماليّة، وإثيوبيا السليمانيّة.

في نهاية الخمسينات، طرأ تيّار فكري سوداني يدعو لمقاربة أكثر "عقلانيّة" في الصراع الصهيوني، كان حزب الأمة اليميني منخرطا فيها على استحياء، بينما كان موقف "الإخوان الجمهوريون" وهو حزب طائفي يميني كذلك أكثر وضوحا في الدعوة للتطبيع، دعوة قوبلت بالتجاهل من المجتمع، والتضييق من الدولة، توج بانقلاب أيار/مايو عام 1969م الذي ثبّت وجود السودان لمحور المقاومة العربي، وهنا تبدأ قصة اللاءات الثلاث، وعلى ما يبدو أنه وبعد نصف قرن من تلك الأيام، لازال الرفض المجتمعي لفكرة التطبيع غالبا على الشعب في السودان لدوافع عدة، برغم تزايد الخطاب الإعلامي المسوّق والمموّل خارجيّا بحجة المصلحة الاقتصادية تارة، وحجة التعايش السلمي مع الأديان تارة أخرى، وبذريعة العقلانية ونبذ المزايدات، بل وبحجة غريبة كضمان حقوق الفلسطينيين؛ عبر نسف قضية اللاجئين والأسرى!

مرت خمس سنوات على هبّة 2013م الثورية، وجاءت ثورة 2019م لتغيّر كل شيء، بدءا بالنظام القديم ومرورا بتركيبة أجهزة الدولة من إعلام وصحافة وتعليم، وتغير مزاج شريحة من الشعب، خاصّة الشباب، المغزوّ بإعلانات التطبيع المجاني والانضمام الى "ناتو" عربي، شريحة ولدت تحت حكم الإخوان، فكان وعيها عن الصراع الصهيوني سطحياً في أغلبه، بينما ظهرت مجموعة من "المؤثرين" والمثقفين تدعو إلى التخلّي عن العالم العربي والاتجاه نحو الأفرقة، رغم أن تجارب دول أفريقيّة سبّاقة للتطبيع مثل مالاوي وليبريا تثبت أن الأفريقانية تتعارض مع الصهيونية، ففي كيان العدو، يتعرض المجتمع الأفريقي من اليهود وغيرهم للتضييق الممنهج والعنصرية الرسمية ضدهم، إضافة إلى الاستثمارات الزائفة التي تبيعها شركات العدو وهما في بلدان غنيّة بالثروة المعدنية كسيراليون والكونغوالديموقراطية وبنين، صفقات مشبوهة جرى كشف حسابات بعضها بعد عقود عليها، وصفقات تسليح أخرى اكتشف أمرها بعد أن أشعلت حروبا أهلية، أخرها في جنوب السودان، حيث يجد كيان العدو في حكومة الرئيس سلفاكير ميارديت الوريث الضعيف وغير المحبوب جماهيريا لزعيم الحركة الجنوبية جون غرنغ حليفا برتبة بيدق، وضابط ارتباط يؤدي دوره في اتساق مع حكومات بول كاغامي في رواندا ويوري موسوفيني في أوغندا لخدمة المصالح الصهيونية في أفريقيا.
مؤخرا، صدرت تصريحات متضاربة تثير القلق حول مسار التطبيع في السودان، فمنذ 2020م ودراما اتفاقيات ابراهام، والهرولة العربية للحاق بركب التطبيع، تحدث مسؤولون سودانيون مدنيون وعسكريون عن عقلانية خيار التطبيع وحفظ المصالح السودانية، وجاءت مقابلة رئيس مجلس السيادة لرئيس وزراء حكومة العدو لتضرب وترا حساسا، فولوج العدو الصهيوني إلى مؤسسة صناعة القرار في السودان مؤشر على صفقة ما قد تعقد يتم بموجبها "إعادة تأهيل" السودان وضمه للمجتمع الدولي مقابل فتح المجال للعدو الصهيوني للتحكم بالمساحة الإستراتيجية الرابطة بين البحر الأحمر والبحر المتوسط، وهو المجال الحيوي الغربي لكيان العدو، صفقة إن تمت فسيتم خلالها إعادة ترتيب علاقات السودان لينضم إلى محور الناتو الجديد المدعوم أميركيا، مع ترك الباب مشرعا بوجه احتمال إعادة رسم خريطة البلاد إذا اقتضت ضرورة التطبيع، ففي ما بعد انقلاب 25 تشرين الأول الماضي تم تشكيل مجلس سيادة ضم وجوها معروفة بدعوتها للتطبيع، في مؤشر على موافقة مبدئية على الصفقة، أقله من مؤسسة الحكم.

 

لماذا تتحرش السلطة الصهيونية بالسودان؟

حسنا، من ملامح السلطة الصهيونية أنها لا تريح حليفا ولا عدوا، فعلى سبيل المثال، لدينا تايوان، في شرق الخريطة، وهي دولة حكومتها تدور في الفلك الأطلسي منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية، ومطبعة لعلاقاتها منذ تأسيس كيان العدو، ولكن حتى اليوم، لا تنعم هذه الدولة بالاستقرار، أحد أسباب هذا اللاستقرار الوجود الصهيوني المحرك لمافيا الداخل وقطاعات معينة في الحكومة والمجتمع، ولوبي لا ينفك يحرض على الصّين الشعبيّة، الأمر عينه في غرب الخريطة، هناك في كولومبيا، للمال الصهيوني المغمس بدم الفلسطينيين في الداخل والأفارقة في مناجم الألماس المشغّلة بالسخرة في الكونغو القدح المعلّى في تمويل وتسليح عصابات الدولة وميليشيات مافيا المخدّرات، المسؤولة الأولى عن تدمير اقتصاد البلد، ونسب القتل العشوائي والممنهج، والفساد السيّاسي، واستبداد اليمين الموالي للصهيونية في بوغوتا، فإذن من أين أتى مروّجو التطبيع بعروض التخفيضات الموسمية التطبيعيّة هذه؟ من المؤكد أن عقلية كهذه لم تلق نظرة فاحصة شاخصة على وضع السودان وتاريخه وتحديات التنمية والسلام فيه، وإلا لما راهنت على بلد يفتقد ثالوث الثورة السودانية المنشود: حرية سلام عدالة لتحقيقها، فمن المعلوم بالضرورة في علم المنطق أن "فاقد الشيء ؛ لا يعطيه!"

تحديات المقاومة، وبروق الأمل..

في المعسكر الآخر، يتباين مناهضو التطبيع في السودان من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، لكنهم يتفقون في وحدة الهدف، ويجتمعون في شح الإمكانات والتهديدات المستمرة ضدهم، فالآلة الإعلامية الجديدة في السودان هي من مدرسة العولمة الحديثة، وروادها لا يجدون غضاضة في الحديث عن "التخاذل الفلسطيني" و"وهم العروبة" ...إلخ إلى غيرها من أدبيات المدرسة النيوليبرالية التي تقوم على تسعير كل شيء بما في ذلك المبادئ والثوابت الوطنية والإنسانية، بيد أنه من الصعوبة بمكان اخفات صوت العقل والفطرة السويّة المناهض لمجرد التفكير في التطبيع مع كيان يحترف بيع الوهم للخارج، ونصب المشانق للداخل.

تقوم لجان المقاومة، واللجنة الوطنية لمناهضة التطبيع، وبعض الهيئات بالعمل في إطاره الرسمي، لكن العمل الشعبي العفوي يبقى الأكثر جدوى وفاعلية في كسر قيود التطبيع وحاجز الخوف من المواجهة الذي يعمل محالفو الصهيونية في الاعلام على تصويره كنمط تفكير وترجمة للمزاج الشعبي العام، مدعومين في ذلك بالميزانيات المفتوحة والتوجيهات المباشرة، وللشارع وفضاء الشبكات الافتراضية كلمة الفصل..

تبقى مقاومة التطبيع، بالصحافة والفن والرياضة والأدب وغيرها، واجبا وطنيا ومهمة انسانية يقع تكليفها على كل من أدركها، وفي السودان، على ما يبدو أن الكفاح ضد الصهيونية هو كفاح مزدوج، ضد صهاينة الداخل والخارج.