الخميس، آذار/مارس 28، 2024

التغيير آت في لبنان: تسقط مقولة «... عاش الملك»!

رأي
هي مقولة متوارثة منذ غابر التاريخ، تحمل في معناها التناقض البيولوجي القائم بين ثنائية الموت والحياة. فمنطق الثنائيات المتناقضة ومعناها، إضافة إلى دلالاتها، لطالما شكّلت التباساً في كيفية التعاطي معها ومع آلياتها، إلّا أنّ ذلك لم يمنع من أن تكون أساساً لمسائل جوهرية تحكّمت في تكوين الطبيعة، وفي تحديد مسارات سياسية واجتماعية... ينادون «مات الملك» بغرض إعلام العامة بالأمر، وفي الوقت عينه ينادون بالملك الجديد «عاش الملك» للغرض نفسه. العامّة تبكي الأول وتبتهج للثاني؛ هو موقف سوريالي يقبع بين حدَّي متناقضتين يفصل بينهما برزخ وجودي. لم يسأل الناس عن سبب موت الأول ولن يتساءلوا عن سبب تولّي الثاني، ففي كلتا الحالتين، الأمور تسير على ما هي عليه وعلى ما توارثوه، وهم راضون بذلك وقابلون به، ويهتفون، تعبيراً عن شعورَين متناقضين تجمعهما ساحة واحدة، حزناً من جهة وإيذاناً بالقبول من جهة أخرى.

أن يقتنع الناس بالقضاء والقدر، هذا أمر مرتبط بنمط الثقافة المتوارثة والسائدة في زمان ومكان محددين. والتوارث كان سنّة تبادل السلطة بين أصحابها، المنتمين إلى العائلة الواحدة، الحاكمة أو أصحاب السلطان والقوة والبطش، وأيضاً مع من اتّخذ البعد الماورائي سنداً لتثبيت سياسته للعامة والتحكّم بمصائرهم. لم تنقطع تلك العادة، فهي مستمرّة منذ زمن مديد موغلٍ في التاريخ حدَّ ملامسة حافة ابتدائه وصولاً إلى يومنا هذا، حيث أصبح المريخ بمتناول العلم الذي بُدئ العبث به. اليوم ونحن نلج عصر ما بعد الذرّة والتكنولوجيا المعقّدة والطائرات «الفرط - صوتية»، نجد أنّ تلك المقولة لمّا تزل قائمة؛ نردّدها يومياً ونقبل بها، وأحياناً يسعى إليها بعضنا، وعن سابق تصور وتصميم ومعرفة ودراية، ويعمل على ترسيخها كنوع من حكم يُراد له أن يكون أبدياً. نعم، نسمع يومياً شعار مات الملك وعاش الملك، إن لم يكن بالمباشر فبالتماثل، وإن لم يكن بالقبول، فبالأمر الواقع.
هو نظام سياسي في لبنان ساد منذ قرن من الزمن ولمّا يزل مستمراً، وُلد من رحم مقولة متشابهة، «ماتت السلطنة وعاش الانتداب». لم يصِبه الخرف بعد نتيجة عمره المديد، ولا الوهن ولا مرض الشيخوخة. يتناسخ الأشخاص والسلوك والسياسات أباً عن جد، كما النتائج والمآلات. لقد توارث أصحابه الشعب شيعاً ومجموعات وسلالات تسبّح بحمد الزعيم وتشكره على نِعَمه. تُساق إلى نحرها وهي راضية مرضية؛ فلا اعتراض على ما قُدّر لها. هي استكانة مفرطة حدَّ الجمود وتسليم مبالغ فيه حدَّ الجنون. تلهج الأفئدة بالولاء والثناء وتفدي بالروح والدم والأولاد والأحفاد وتتفاخر بذلك... هي عصفورية متنقلة بين أزقة الفقر والعوز والجهل والبطالة، لا همّ لها سوى نيل الرضا والبركة، وجلّ ما تطلبه أو تتمناه هو صورة مع ولي الأمر الذي ورث الرعية عن أب والآخر عن جدّ والبقية من امتداد تاريخي. هو ذلك الإرث الملتبس بين إقطاع سياسي كان يُذِلُّ الفلاحين والفقراء بأمر صاحب الأمر، ورجال دين ينظّرون لذلك، يخدّرون الناس لقاء امتيازات الدنيا مع الوعظ للعامة بانتظار الآخرة حيث الراحة الأبدية. هي هستيريا الطوائف والمذاهب الفالتة من عقالها والقاتلة؛ تستبيح المحظورات وتقيم الحدود، تفتي وتمضي على ذوق صاحب الأمر، ليس لذلك الموجود فوق السماوات السبع الذي لا يدركه بصر إنّما تبصره القلوب، بل لذلك الساكن في القصر القريب، وصاحب السلطنة والذي بيديه أمر الأرض والسماء، يحصي الأنفاس والأموال ويفرض الخوات ويعلّق المشانق، يهب الحياة لمن لا يستحق ويسلبها من مستحقّيها.

نظام سياسي أفسد كل شيء: السياسة والاجتماع والقيم والأخلاق والماء والهواء والغذاء

نظام سياسي أفسد كلّ شيء: السياسة والاجتماع والقيم والأخلاق... والماء والهواء والغذاء... أفقر وقتل ونكّل وساد وحكم وشرد... استمدّ شرعية من خارج يريد السيطرة ولا همَّ له إلّا النهب والهيمنة ولو على حساب حياة ملايين البشر. رأسمال متوحش، بأصحابه وسلوكه، لا يهمه إلّا الربح. يشتري ويبيع وبأبخس الأثمان. كيف لا؟ وصاحب السلطان يضرب بيد صاحب الأمر والآخر بيد من بيده وهب الحياة أو أخذها متى أراد؛ جيوش وأساطيل وأسلحة فتّاكة وعقوبات وصلف وجبروت وقلة أخلاق وجشع وطمع... هي منظومة متراصّة متتالية من الرأس حتى أخمص القدم، وللإشارة سافلهم هو من كان أسفلهم. نظام سياسي متوارث؛ صناعة ملتبسة وهجينة، الرأس من مكان والجسد من آخر والأطراف لم تُركّب بعد كي يبقى عاجزاً وبحاجة إلى من يعينه.
جاروا واستبدّوا وقتلوا وجوعوا... وها هم يتناسلون بكثرة، حكم الجد ومات وعاش الأب ثم مات وعاش الابن وسيموت كي يأتي الحفيد... هي سلالات متواصلة ومتّصلة لا تنتهي، ولكلّ فرد منها مآثره، يزيد عن الذي مضى كي يُذكر أكثر، وما على الرعية إلّا القبول بما قسم الله لها وهم بذلك راضون ومرضيون وبحمد أولياء نعمهم شاكرون... قانعون بما هم عليه. هي منظومة سادت واستبدّت واستمرّت وستستمرّ؛ زهقوا أرواحاً ودمّروا بلداً وهجّروا، سرقوا وأفسدوا وتحاصّوا ونهبوا المال العام والخاص، جاروا واستبدّوا وما زالوا، يحكمون وكأن الدولة أملاك شائعة لهم ولأزلامهم وورثتهم يصنعون فيها ما يشاؤون وكيفما يريدون. مئة عام لم تكفِهم، ملأوا الجيوب والبنوك بالمال الحرام المسروق من لقمة عيش الفقير المنتشر على مساحة الجمهورية اللبنانية ولم يشبعوا. نهمهم أوصلهم إلى تقنين الهواء النظيف والمياه الخالية من الأوبئة والأمراض والأدوية والأغذية. لم يخجلوا بل تمادوا، وها هم اليوم يدوسون على آمال الشعب اللبناني الذي سكن الشوارع أعواماً متواصلة من أجل الخبز والعلم والطبابة والحياة الكريمة ورفض الذل والمحسوبية والطائفية والتبعية والاستزلام وكسر الهيمنة...
إلى متى ستبقى مقولة «مات الملك، عاش الملك» مستمرة ومعمولاً بها؛ لقد فاض جام الغضب وملأ الشوارع، لقد سالت سيوله في مختلف الأزقة والدساكر، وفي زوايا البلد الأربع. ومع ذلك لم يستفِق أهل السلطة من سبات أرادوه أبدياً، بل أوغلوا في حقدهم وغيهم. يصولون ويجولون ويملأون شاشات التلفزة والمنابر، ينصحون وينهون ويأمرون وكأن شيئاً لم يكن: ليس هناك انهيار اقتصاديّ وماليّ، ليس هناك جائحة تفتك بالشعب، ليس هناك جوع وفقر وعوز وأن أكثرية الشعب اللبناني قاربت حافة الفقر وبعضهم سقط فيها، ليس هناك أموال مسروقة ولا ودائع منهوبة ولا حجز أموال المعاشات التي فقدت معظم قيمتها. ليس هناك مرفأ دُمّر وبفعل إهمال ومسؤولية من صبيانكم الذين تجهدون اليوم لتبرئتهم، وليس هناك ألفا شهيد وآلاف الجرحى ينتظرون معرفة من فعل بهم هذا، وعشرات آلاف المنازل والمحال المدمرة والمنكوبة. هذا من جانب، ومن جانب آخر من المشهد، تلك الصورة وهم واقفون وبالصف كما يقف التلامذة المجتهدون، أمام ذلك الأشقر القادم من الغرب، صمّ بكمّ عمّي لا يبصرون، فقط يومئون برؤوسهم دليل الموافقة. يلهجون بتسبيح حمده وعدم إغضابه وتنفيذ أوامره. بئس الزمن الذي وصلنا إليه.
لكن كل هذا ليس بجديد: أنتم في مواقعكم بفضل تلك التبعية ومنطق الاستزلام وملوك الطوائف، ولا تجيدون غير ذلك. أنتم بما أنتم عليه بفضل استقدامكم وكشفكم للبلد أمام التدخلات. أنتم بما تنعمون به هو من فضل نظام زبائني أنتم ركائزه المحلية وهذه هي وظيفته؛ تقومون بأدواركم على أكمل وجه خدمة لأولياء أموركم القابعين في الجهة الأخرى من البحر. لا تبتعدون قيد أنملة عن المرسوم لكم؛ حدود الطوائف والمذاهب ووظائفها، الأدوار والمهام والكلام والخطاب والسلوك... لديكم من كل جهة صفة توصفون بها، لا تحيدون عن المكتوب المعروفة محدّداته ومنطلقاته وما يجب أن تفعلوا، ولا تخجلون بذلك. هي تركيبتكم المهجنة بين الأساس المُكوّن لكم وما أنتم عليه وما يجب أن تكونوا.
هو ابتلاء مزمن لا براء منه ومع ذلك تتصرفون وأنتم بكامل اللياقة واللباقة مع القادم على ظهر مراكبه، تفرشون له الأرض وروداً والأفئدة تغتبط لملاقاته لأخذ البركة. لا تستحون من دمعة أم ثكلى أو طفل يتيم أو أب مفجوع. لكم من يذكركم بالخير وهو على أبوابكم متسكع ذليل، أو منتفع رذيل. سيطرتم على ما في السماء بفضل تبادل منافع مع أصحاب الواسطة الأبدية بين الإنسان وخالقه، يفاوضون على الامتيازات وينهون عن الاحتجاج ويحمون الفاسدين ويرفضون محاسبة المرتكبين ويضعون الحرم على أي نوع من العقوبات أو الإصلاحات. لقد اكتمل معهم ثالوث الحكم والسيادة؛ منظومة سياسية متناسخة، وأصحاب الطوائف والامتيازات والإعفاء من الضرائب، والخارج المتبدلة راياته دوماً.
إلى متى ستبقى حياة العامة رهناً لأصحاب الوجوه الصفراء البلاستيكية الخالية من النضارة والحياة، كما لو أنهم قدر لا مفر منه؛ البلد ليس شركة موروثة عن أب أو جد، كما أنه ليس وكالة من غير بواب. ليس لكم الحق بالسطو على مقدراته كما على مستقبل أبنائه. أنتم عصابة استبدت ونهبت وسرقت وقتلت لكنها لم تشبع بعد. لقد وصل نهمها ومآثرها السابقة الذكر حدَّ الجشع الذي يعلو على الطمع، أما كفاكم ما راكمتم على امتداد أعماركم المتوارثة من مئة عام ولمّا تنته؟ عاجلاً سيطيح الشعب اللبناني بكم، وإن استكان لفترة وهمد، فهو بسبب نتائج ما راكمتموه منذ سنوات طويلة: انهيار وأمراض وأوبئة وتبعية وهيمنة...
العودة إلى طرق أبوابكم ليست بعيدة، لكن ليس لطلب المعونة بل لتحطيمها... وحينذاك لن ينادي أحد بـ«عاش الملك» بل بموته فقط.

* عضو المكتب السياسي، مسؤول العلاقات السياسية في الحزب الشيوعي اللبناني