السبت، نيسان/أبريل 20، 2024

النقابات التعليمية اللبنانية ودورها في التنشئة الاجتماعية والتطبيع مع العدوّ

  د. عماد سماحة (مجلة الآداب)
رأي
الحديث عن التنشئة الاجتماعيّة قد يطول؛ ذلك لأنّ جميعَ مؤسّسات المجتمع (العائلة، المدرسة، الأندية، مؤسّسات العبادة، الشارع نفسه،...) تساهم في هذه التنشئة. لكنّ النظامَ التربويّ والتعليميّ، على حدّ تعبير بيير بورديو، يساهم في إعادة إنتاج كلّ ما هو قائم، كالإيديولوجيا والفوارق الاجتماعيّة والطبقيّة. ويصف لوي ألتوسير المدرسةَ بأنّها صاحبةُ الدور "الأخطر"؛ فهي كالموسيقى الصامتة التي تسهم في عملية التنشئة.

فماذا عن دور الروابط والنقابات التعليميّة في لبنان في مواجهة التطبيع مع العدوّ الصهيونيّ؟

لعبتْ هذه الروابط والنقاباتُ في الثمانينيّات من القرن الماضي في لبنان دورًا بارزًا في المواجهة المذكورة، وذلك من خلال "النادي الثقافيّ العربيّ" و"تجمّع الهيئات الثقافيّة في لبنان" (برئاسة حبيب صادق). هذا الدور المتميّز فَرضَ على بعض وزراء التربية ورؤساءِِ "المركز التربويّ للبحوث والإنماء" أن يطلبوا إلى هيئات المعلّمين في التعليم الرسميّ (حنّا غريب) والتعليم الخاصّ (نعمة محفوض) مشاركتَهم في إعداد المناهج والإشراف على سيرها.

المشكلة أنّ طلبَ المشاركة كان استنسابيًّا وظرفيًّا، لا قاعدةً، بسبب غياب النصوص القانونيّة التي تسمح بمشاركة الروابط في إعداد المناهج والبرامج. ويعود ذلك إلى غياب حقّ التنظيم النقابيّ في القطاع العامّ عن التشريع اللبنانيّ، على الرغم من موافقة الدولة اللبنانيّة على المعاهدات الدوليّة التي تُقرّ بذلك.

***

في رأينا أنّ على الروابط والنقابات الالتزامَ بدوريْن أساسيْن:

1) أن تُولي مواجهةَ الغزو الثقافيّ والتطبيع مع العدوّ الصهيونيّ المزيدَ من الاهتمام، كما فعلتْ رابطةُ أساتذة التعليم الثانويّ الرسميّ عندما أرسلتْ إلى الشعب الفلسطينيّ في غزّة مبلغًا بمقدار تسعة ملايين ليرة دعمًا للمحاصَرين في القطاع سنة 2009.

2) أن تتحوّل الروابط إلى نقاباتٍ للمعلِّمين في التعليم الرسميّ، وذلك بقرارٍ ذاتيٍّ، بعد أن رفضت الدولةُ تشريعَها قانونيًّا. فقد تجاوزتْ روابطُ المعلّمين المرسومَ الاشتراعيّ 112/59، الذي يَمنع الموظّفين من الإضراب، وكَرسّتْ مفاهيمَ الإضراب والاعتصام والتظاهر، ومبدأَ الجمعيّات العموميّة، منذ أكثر من خمسين عامًا. وبات على المشترِع أن يعدِّلَ القوانينَ ليسمحَ بحقّ التنظيم النقابيّ في القطاع العامّ، تماشيًا مع الأعراف والعهود والمواثيقِ الدوليّةِ الآتية:
- المادّة 23 من شرعة حقوق الإنسان التي تنصّ على أنّ "لكلّ شخصٍ (من دون أيّ تمييز) الحقَّ في إنشاء النقابات أو الانضمامِ إليها لحماية مصالحه."
- العهد الدوليّ الخاصّ بالحقوق الاقتصاديّة والاجتماعيّة والثقافيّة (1966). وقد دخل هذا العهدُ حيّزَ التنفيذ، وصادق لبنانُ عليه، سنة 1972.
- اتفاقيّة منظّمة العمل الدوليّة رقم 87، الصادرة في العام 1948، ووافق عليها لبنانُ لاحقًا.
- الإعلان الصادر سنة 1998، الخاصّ بالمبادئ والحقوق الأساسيّة في العمل.
- اتفاق الطائف، الذي سمح للموظَّف بالانتساب إلى الأحزاب السياسيّة، وإنْ حرمه حقَّ الانتساب إلى نقابةٍ مهنيّةٍ تسهر على حقوقه.
وكان النائب سامي الجميّل قد تقدّم في العام 2011 باقتراح قانونٍ لتعديل أحكام المرسوم الاشتراعيّ رقم 112 الذي يقضي بإنشاء نقاباتٍ في القطاع العامّ، إنّما من دون اللجوء إلى الإضراب. كذلك تقدّم النائب أكرم شهيّب باقتراح قانونٍ لتعديل المادّة 15 من قانون الموظّفين، يَسمح للموظّف بأن ينشرَ من دون إذنٍ خطّيّ، ولكنّه لم يأتِ على السماح بالإضراب أو الاعتصام. وحده الوزير السابق شربل نحّاس قدمّ اقتراحَ قانونٍ يَسمح بالتنظيم النقابيّ في القطاع العامّ، مع حقّ اللجوء إلى الإضراب والاعتصام والتظاهر.
إنّ المغزى الرئيس ممّا سبق هو أنّ الروابط والنقابات مُلزَمةٌ بالتصدّي للغزو الثقافيّ وللتطبيع مع العدوّ الصهيونيّ من خلال تنظيم أوضاعها، وملزَمة أيضًا بأن تكون ممثِّلةً للجسم التعليميّ. ولا أعتقد أنّها اليوم كذلك، خصوصًا أنّها تعكس تمثيلَ أحزاب السلطة في هيئاتها الإداريّة، الأمرُ الذي يَحُول دون أن تراقبَ المناهجَ وتتصدّى لـ"الخروق." أمّا عندما تتحوّل الى نقاباتٍ فعليّة، فهذا يعني أنّها قرّرت التصدّي للسياسات التربويّة الرسميّة التي تغيب عنها مسألةُ التطبيع.

***

وفي المقابل، فإنّ تسليطَ الضوء على بعض الوقائع التي شكّلتْ خروقًا فعليّةً في العمليّة التربويّة يساعد على تبيان الأفعال الجدّيّة التي قام بها بعضُ المسؤولين، وعلى تراخي الرقابة أو غيابها عن هذه "الخروق."
- فجريدة السفير (المرجع هنا هو الأستاذ عماد الزغبي)، مثلًا، كشفتْ في بعض كتب التاريخ الأجنبيّة المستورَدة "إساءةً للعرب والفلسطينيّين وإيحاءاتٍ مضلّلةً للتلميذ اللبنانيّ تصبّ في مصلحة إسرائيل" (4 أيّار 2010). وهذا شأن كتاب التاريخ المعنون تاريخ العالم الحديث، الذي كانت تدرِّسه إحدى أكبر المدارس في العاصمة، وهو يتّهم حركاتِ المقاومة بـ"الإرهاب."

- كما ورد في بعض الكتب المستورَدة، عند الحديث عن الحرب العربيّة-الصهيونيّة بين عاميْ 1948 و1949، تعبيرُ "الاستقلال الإسرائيليّ." فكأنّ العرب هم الذين احتلّوا فلسطين، فانتفض الصهاينةُ يحاربون من أجل استقلالهم!

- كذلك ورد الحديث في بعض تلك الكتب المستوردة الكلامُ على ما يسّمى "الإرهاب الفلسطينيّ."
نتيجة لخروقٍ مماثلةٍ على ما يبدو، أصدر وزيرُ التربية حسن منيمنة تعميمًا في 18 شباط 2010، موجَّهًا إلى أصحاب المدارس الخاصّة، بخصوص الكتب المستورَدة من الخارج، وذلك بعد تعدُّد المدارس التي تعمد إلى تدريس تلاميذها في كتبٍ أجنبيّةٍ من دون التحقّق من محتواها. ويضمن التعميمُ أنّه "لا يحقُّ لمعاهد التعليم الخاصّة أن تستعملَ كتبًا مدرسيّةً لم يُقرَّها وزيرُ التربية والشباب والرياضة، في تاريخ لبنان وجغرافيّته وشؤونه الأخلاقيّة والمدنيّة والوطنيّة." وفي تعميمٍ آخر، طلب منيمنة "إخضاعَ الكتب المستورَدة لرقابةٍ ذاتيّة،" بحيث تخلو من كلِّ ما يمسُّ بالنظام، كـ"دولة إسرائيل المعادية التي ما زال لبنانُ في حالة حربٍ معها."
وفي أيّار 2014، تحدّثتْ جريدةُ السفير عن هِبةٍ بريطانيّةٍ غيرِ مشروطة قُدِّرتْ بـ5,500 مليون دولار لتغطية طباعة سلاسل الكتاب المدرسيّ الوطنيّ المعتمَد في المدارس الرسميّة لمرحلة التعليم الأساسيّ (بين 6 و15 سنة). وجاء قرارُ السفارة البريطانيّة بعدما لمستْ رفضًا من وزير التربية آنذاك، إلياس بو صعب، لجهة اشتراطِه بأن يحتويَ كتابُ الجغرافيا على اسم "فلسطين" بدلًا من "إسرائيل،" معتبرًا أن ّ"مناهجَنا وكتبَنا المدرسيّة هي تعبيرٌ عن سيادة الدولة على أبنائها..."
وفي السياق عينِه، ذكرت العريضةُ الصادرةُ عن حملة مقاطعة داعمي "إسرائيل" و"اللقاء الوطنيّ ضدّ التطبيع" في لبنان أنّ ربطَ بعض الأطراف اللبنانيّة موقفَ العداء لـ"إسرائيل" بكلّ "محتلٍّ آخر" يُسقط الطابعَ الوجوديّ للصراع العربيّ-الإسرائيليّ.

وعلى مستوًى آخر، ذي علاقةٍ بمفهوم السيادة، شاركتْ "جمعيّةُ أديان" المركزَ التربويَّ للبحوث والإنماء ووزارةَ التربية في ورشةٍ لتجديد المناهج وتطويرها. الجمعيّة طَرحتْ نفسَها من باب الشراكة والمساهمة، إلّا أنّها في الحقيقة استأثرتْ في فرض رؤيتها باعتبارها مموِّلةَ للمشروع، وذلك على قاعدة Qui donne ordonne (مَن يعطِ يأمرْ)؛ فقد جاء التمويلُ من الحكومة البريطانيّة والبنكِ الدوليّ. أمّا الموادّ الأساسيّة التي اختارتها الجمعيّة، فهي التربية المدنيّة والفلسفة والحضارات والتاريخ والاجتماع، أيْ جرى التركيزُ على المفاهيم المكوِّنة لوعي المتعلّم. وباختصار، فإنّ خطورةَ المفاهيم المعتمدة لدى هذه الجمعيّة تتمثلّ في اعتبارها "بناءَ المواطن يتم تحت سقف الميثاقيّة." وفي رأينا أنّ احترامَ الخصوصيّات الثقافيّة والطائفيّة أمرٌ ضروريٌّ في مجتمعات العلمنة والمواطنة، أمّا "الميثاقيّة" فمدخلٌ لـ"التوازن" الطائفيّ والتحاصصيّ؛ الأمرُ الذي يغيّب بناءَ دولة القانون والمؤسسات.

***

ختامًا، فإنّ التصدّي للغزو الثقافيّ والتطبيع مع العدوّ الصهيونيّ عمليّةٌ متكاملة. فمنظومةُ التربية والتعليم هي البوّابةُ الرئيسةُ لتحصين مفاهيمنا في مقاومة العدوّ مدخلًا إلى تعزيز المواطنة وبناءِ الدولة الحديثة. ويُثْبت واقعُ الحال في لبنان ذلك، باعتبار أنّ السلطة اللبنانيّة ساهمتْ وتساهم في دفع البلد إلى الانهيار الذي نعيش فصولَه على المستويات كافةً، الأمرُ الذي يتطلب مواجهةَ سياساتها وتغييرَها بالكامل.