الخميس، آذار/مارس 28، 2024

أما حان الوقت لإسقاط النظام الأبوي وإحياء «المطريَركيّة»؟

رأي
لستُ من محبّي الاختزال. مثالاً: أكره اختزال عيد الأم باحتفال، أو بنهارٍ لعرض صوَر والدتنا على وسائل التواصل الاجتماعي، أو بمناسبة لزيارة بائع الورد. بالنسبة إليّ، لا معنى لعيد الأم، إن لم نستغلّ هذا اليوم تحديداً ــــ كما أي يومٍ آخر ــــ للتحريض على من سلب الأمّ عرشها: النظام الأبوي القاتل. سأوضّح.


أوّلاً، عرش الأم؟ نعم، وهنا يقتضي علينا الخروج من القوالب الاجتماعية الحالية، والخروج من التسليم بفكرة أنّ التشكيلات الاجتماعية كانت دَوماً كما نعرفها اليوم. بل العكس. في يومٍ من الأيّام، كان البشر يعيشون تحت مظلّة ما سُمّي بالنظام المطريَركي (الأمومي)، كون الأم كانت من «تحكم» القبيلة، كَون المبدأ المحدِّد للعلاقات حينئذٍ كان قُرابة الدم. وهناك، كانت «مملكة السعادة والحريّة»، بالتضاد مع ما نعرفه اليوم. وهناك أيضاً، كان المجتمع الما ــــ قبل ــــ طبقياً، ولم يعرف الإنسان استغلالاً للإنسان، ولم تعرف النفس الكبت كما تعرفه اليوم، بل كان الأنا ــــ الأعلى ــــ موجوداً بأبسط أشكاله وأخجلها.
ثانياً، نعم... «النظام الأبوي القاتل». وهنا، على عكس الظاهر، لا نقصد وضع الفرد، الأم، في مواجهة الفرد، الأب. المسألة ليست فرديّة، ولا مسألة جنسٍ ضدّ آخر، بل هي تتعلّق بمنظومة كاملة من العلاقات الاجتماعيّة، تجد أساسها في منظومة رديفة من العلاقات السياسيّة والاقتصاديّة والبنى الإيديولوجيّة، تقوم على القمع والاستغلال، وعلى قتل الغرائز والرغبات «الطبيعيّة». فلنقل إنّ هذه المنظومة، وفي ما يخصّ الأفراد، تقوم على ترويض تكوينهم النفسيّ والفكريّ بما يجعلهم خاضعين لها.
فصّل إريك فروم هذه النقطة، وتحدّث عن «عقدة الأبوّة المركزيّة»، وهي بنية نفسيّة تشكّل فيها العلاقة مع الأب (باعتباره رمزاً للسلطة) العلاقة المركزيّة، وفيها «أنا أعلى شديد القسوة، مشاعر بالذنب، حب انقيادي للسلطة الأبوية، رغبة ولذّة في السيطرة على من هم أضعف، تقبّل الأم كعقاب على الأخطاء الذاتيّة، وقدرة مبتورة على السعادة». بشكلٍ من الأشكال، هذه هي سيمات عصرنا الحاليّ. لمزيد من التوضيح، يُصيغ فروم الفرق بين النظامَين كالآتي: «إنّ مبدأ النظام الأموميّ هو مبدأ الحب اللامشروط، والمساواة الطبيعية، والتشديد على صلات الدم والأرض، والرحمة والتسامح. والمبدأ الأبوي هو مبدأ الحب المشروط، والبنية التراتبية، والفكرة المجرّدة، وقوانين الرجل والدولة».
بناءً على ما تقدّم، لا أفهم صراحةً كيف نحتفل، في لبنان، بعيد الأم. كيف نحتفل به ولبنان يتفوّق على نفسه اليوم في التأكيد على ميزات النظام الأبوي فيه. هنا، نتحدّث عن البنى الاجتماعية والإيديولوجيّة. نتحدّث عن الدولة، أو بالأحرى تغييب الدولة وتكريس مفهوم «السلطة». نتحدّث عن إيديولوجيا أحزاب السلطة، عن الذكوريّة المفرطة في مَنطقها، أو عن الغَيب الّذي تتبنّاه وأفكارها المجرّدة، أو عن تكريس صيغة «الزعيم» كالوالد الحامي والتسميات التي تطلقها عليه (بالمناسبة، «بَيّ الكل» ليست تفصيلاً، بل تسمية أساسيّة لتكريس المنطق الأبوي). نتحدّث عن العائلة المحافظة وشكلها «النوَويّ»، الذي يقوّض الأم بدايةً، ثم يقوّض الطفل، ويعطي الأب امتيازاتٍ هائلة على حسابهما، ويصبح للأم وظيفة «خدماتيّة» وللطفل وظيفة اقتصاديّة واجتماعيّة. نتحدّث عن النموذج الاقتصاديّ الذي يولّد هذه الميول، أعني النموذج الرأسمالي (الرّيعي والتابع في حالتنا) وإيديولوجيّته النيو ــــ ليبيرالية. نتحدّث عن المؤسّسات التي تقمع الأفراد عموماً، والأم خصوصاً، عن المحكمة الجعفريّة (على سبيل المثال لا الحصر) وعن الظلم الذي عانته لينا الأمّ منذ أسابيع، وعن نادين الأمّ التي لم تنعم بطفلها يوماً كما يحلو لها، وغيرهنّ. نتحدّث عن الإعلام الذي يسلّع المرأة عموماً، ويستغل صيغة «الأم» كوسيلة للترويج لبعض السلع. نتحدّث عن القوانين، ولا سيّما قانون الأحوال الشخصيّة ومسألة الجنسية للأولاد عبر الأم، وعن غياب أي كوتا نسائيّة، وعن تشريع الاستغلال المضاعف لهنّ في أماكن العمل، وعن تسطيح فكرة الأمومة في ما يتعلّق بالإجازات والعناية الاجتماعيّة.
حتّى في القضايا الشبابيّة، أي ما يمكن أن يحفّز انخراط الفئات الشابة في الشأن العام وما يساهم في تعزيز مكانتهم في المجتمع، أعني خفض سنّ الاقتراع أو حريّة الشباب, ولا سيّما الحريّة الجنسيّة أو غيرها، قمع هذه المسائل إنّما مردّه الأساسيّ هو النظام الأبوي، ذلك الذي يرى في الأفراد قيمةً تبادليّةً، أي ذلك الذي يجنح لتسليعهم فقط. ذلك الذي يسعى كذلك، إن كان عبر مؤسّساته أو أحزابه أو قوانينه، إلى تسطيح الوعي وتغييب الحسّ النقدي لدى الشباب الذين من المفترض ــــ طبيعيّاً ــــ أن تتملّكهم في هذه الفترة العمريّة اندفاعات ثوريّة، وذلك لضمانة أمن واستمرار هذا النظام بعيداً عن طروحات النقد والنقض.
كل ما ذُكر، إنّما هو موجود في حياتنا اليوميّة، بوعينا أو بدونه، ويساهم بشكلٍ أساسي في تثبيت المنظومة السياسيّة ــــ الاقتصادية ــــ الاجتماعية الحالية، ويساهم في إبعادنا وحرماننا يوماً بعد يوم عن مملكتنا الأمّ: مملكة الأم. فلتكن جهودنا إذاً في هدم المنظومة القائمة ــــ وهذا ما فتحت انتفاضة 17 تشرين الأول مدخلاً له، والتقدّم نحو تشكيلةٍ اجتماعيّةٍ أرقى، ولتكن نسخةً متطوّرةً عن مطريَركيّة المشاعيّة البدائيّة. ولنُعد التفكير بالمرأة كمركزٍ للبنية الاجتماعية بعدما لامسنا فشل المركز الذكوري. ولنحتفل بأمّهاتنا تحت ظل هذه المنظومة، باعتبارهنّ أساس مجتمعٍ تحكمه قوانين الحب اللامشروط والتشاركيّة بدلاً من الاستغلال، عوضاً عن اختزالهنّ بوظيفةٍ حيويّةٍ أو باحتفاليّةٍ يتيمة أو صورة على مواقع التواصل.

*جريدة الأخبار

قد يهمك قراءة إحدى المقالات التالية