الخميس، نيسان/أبريل 18، 2024

الاستعداد لجولة جديدة قاسية

  افتتاحية "النداء"
رأي
بعد تردّد طويل، قرّرت حكومة حسان دياب "تعليق سداد استحقاق 9 آذار من اليوروبوندز". إلّا أنّ هذه الخطوة الضرورية والملحّة، لم تأتِ في سياق خطّة معلنة وواضحة أو نتيجة توافق سياسي على الترتيبات المقبلة، بل أتت كتدبير احترازي أو بمثابة "ربط نزاع" في ظلّ الظروف الراهنة، لأنّ "احتياطي العملات الصعبة قد بلغ مستوى حرجاً وخطيراً"، وفق ما أعلنه دياب نفسه، وبالتالي أصبحت "الدولة غير قادرة على تسديد استحقاقات الدين بالدولار".ماذا يعني ذلك؟


هذا القرار غير المسبوق هو إعلان "إفلاس" حقيقي، أو "تعثّر" كما يحلو لبعض الخبراء تسميته، وهو يعني، من جملة ما يعنيه، أنّ المسألة لم تكن تتعلق فقط بدفع الديون وفوائدها كما جرى تصويرها، بل ببلوغ الدولة حالة العجز على الإيفاء بجميع التزاماتها بالعملات الأجنبية، بما في ذلك ضمان الإمدادات التي يحتاجها المجتمع لتأمين معيشته وسلامته.
وفق التقديرات المتداولة، تحتاج الدولة في هذا العام إلى أكثر من 10 مليارات دولار إضافية لتسديد سندات الدين بالدولار والفوائد المترتّبة عليها (4.5 مليار دولار)، فضلاً عن تأمين الدولارات بالسعر الرسمي الثابت للّيرة لاستيراد القمح والأدوية والوقود (5.5 مليار دولار). لا تشمل هذه التقديرات كلّ الحاجات التمويلية بالعملات الأجنبية للاستهلاك وإعادة تكوين رأس المال، وإنّما فقط ما يقع على عاتق الدولة تمويله بموجب التزاماتها الصريحة للدائنين والمجتمع، أي أنّ الحاجات الفعلية للاقتصاد هي أكبر بكثير من هذا الرقم، إذ تكفي الإشارة إلى أنّ عجز الحساب الجاري يبلغ أكثر من ربع مجمل الناتج المحلي، أو 15 مليار دولار سنويّاً، وهو الصافي المتوجّب تمويله بعد احتساب حصيلة كلّ العمليات الاقتصادية الجارية بين المقيمين وغير المقيمين. ويسجّل ميزان المدفوعات عجوزات تراكمية متتالية منذ عام 2011، بلغت قيمتها، وفق حسابات مصرف لبنان، أكثر من 17.5 مليار دولار، وقد تكون هذه القيمة قد بلغت بالفعل أكثر من 23 مليار دولار، وفق الحسابات الصحيحة، بعد حسم قيمة سندات اليوروبوندز التي يحملها مصرف لبنان ويحتسبها ضمن صافي موجوداته الخارجية خلافاً لأيّ منهجية محاسبية معتمَدة، وهذا يعني ببساطة أنّ كمية العملات الأجنبية التي خرجت من لبنان في السنوات التسع الماضية كانت أكبر بهذه القيمة من كمية العملات الأجنبية التي دخلت إليه، وبالتالي ساهم ذلك باستنزاف صافي الموجودات الخارجية في الجهاز المصرفي كلّه (مصرف لبنان والمصارف) الذي كان قد تراكم بين عامي 1991 و2010، والذي بلغ نحو 28.5 مليار دولار، ولم يتبقَّ منه حاليّاً سوى أقل من 5.5 مليارات دولار في أحسن تقدير.
في الواقع، لا يزال مصرف لبنان يمتنع عن تقديم حسابات دقيقة ورسمية تبيّن وضعية السيولة المتاحة فعليّاً بالعملات الأجنبية والقابلة للاستعمال، ويتحجّج بالسريّة خلافاً لما يلزمه به قانون النقد والتسليف. إلّا أنّ رياض سلامة عمد تحت الضغط إلى تسليم رئيسي الجمهورية والحكومة حسابات ارتجالية، تشبه حسابات "الدكنجية"، مكتوبة بخط اليد على 3 أوراق بيضاء (A4)، يزعم فيها أنّ مصرف لبنان لا يزال يضع يده على سيولة بقيمة 21 مليار دولار (في 15 شباط 2020)، وينطلق سلامة من هذا الرقم في موقفه الداعي إلى مواصلة تسديد سندات الدين بالدولار وعدم التوقف عن الدفع، معتبراً أنّ هذه السيولة المزعومة كافية لتمويل التزامات الدولة على مدى عامين.
لا يوافق معظم الخبراء على صحة هذه الحسابات، ولا سيّما أنّ حسابات سلامة نفسها تقرّ أنّ مصرف لبنان مدين للمصارف بأكثر من 80 مليار دولار بالدولار، من ضمنها نحو 19.3 مليار دولار كاحتياطيات قانونية إلزامية تمثّل نسبة 15% من مجمل ودائع الزبائن بالدولار في المصارف التي تبلغ نحو 116 مليار دولار، أي أنّ الاحتياطي الصافي لدى مصرف لبنان وحده يسجّل عجزاً بقيمة قد تصل إلى 59 مليار دولار، علماً أنّ الديون بالعملات الأجنبية على الدولة (الحكومة ومصرف لبنان) والقطاع الخاص (الشركات والأسر) تبلغ نحو 150 مليار دولار، أي أنّ "الفجوة" الفعلية التي يتوجب ردمها على مستوى الاقتصاد ككل قد تصل إلى 128 مليار دولار.
قد تبدو هذه السلسلة من الأرقام بمثابة "أحجيات" للناس العاديين، إلّا أنّها تعني شيئاً وحيداً: أنّ الجهاز المصرفي برمّته مفلس، وهذا ما نواجهه تحديداً، ليس الآن وبشكل مباغت، وإنّما منذ سنوات طويلة بقيت فيها السلطة تكابر وتنكر وتفرّط بما تبقّى من الودائع في محاولاتها اليائسة لشراء المزيد من الوقت المكلف ودفش الأزمة إلى الأمام وتكبيرها باطّراد، تجنّباً لإعلان الإفلاس وحماية لمصالح قلّة ضئيلة مهيمنة من المستحوذين على رأس المال الوهمي المتراكم والمكدّس في المصارف والديون. لذلك، يعدّ قرار تعليق سداد سندات الدين بالعملات الأجنبية والفوائد المترتّبة عليها قراراً ضروريّاً، ولو أنّه متأخرٌ جدّاً، إلّا أنّ هذا القرار ليس نهاية "المعركة" كي نعلن انتصارنا فيها، بل بداية جولة جديدة علينا الاستعداد جيّداً لها، وقد تكون أشد قساوة وعنفاً من الجولات السابقة.
حتى الآن، لم تعلن الحكومة أيّ خطة أو برنامج في هذا السياق، سوى أنّها "ستسعى إلى إعادة هيكلة ديون الدولة، عبر خوض مفاوضات منصفة، وحسَنة النية، مع الدائنين كافّة، تلتزم المعايير العالمية المثلى". وهذا الإعلان كافٍ لإثارة القلق، أوّلاً لأنّه يحاول مجدّداً أن يطمس طبيعة الأزمة ويحوّلها من أزمة إفلاس الجهاز المصرفي إلى أزمة "ديون سيادية" نجمت عن إسرافٍ في الإنفاق العام والفساد فحسب، أي يحاول أن ينقل الكلفة من المصارف وكبار مودِعيها الذين جنوا ثروات فاحشة سابقاً إلى الدولة التي بات عليها أن تدفع لهؤلاء جزءاً من خسائرهم المحقّقة.
لقد نجحت الانتفاضة الشعبية بوضع "إعادة هيكلة الدين العام" على جدول الأعمال، إلّا أنّها وضعته كخيار يرمي إلى تحميل الأثرياء، ومنهم الدائنين، قسطهم من الخسائر بدلاً من رميها على المجتمع ككل، ولكن الحكومة لم تتّخذ قرارها انطلاقاً من هذا الخيار السياسي، بل قرّرت أن تجلس مع هؤلاء على طاولة المفاوضات للاتّفاق على توزيع الخسائر بغياب ممثّلين حقيقيين عن مصالح المجتمع.
ما يجري تحضيره لهذه المفاوضات مع الدائنين قد لا يفضي إلى شطب ديون وإنّما مبادلتها بديون أخرى، وقد تنطوي على مكافآت من نوع مبادلة سندات الدين بأسهم في ملكية مؤسّسات ومرافق عامّة، عبر إنشاء صندوق ائتماني يجري تمليكه أسهم المؤسّسات العامّة والمرافق بعد تشركتها (خصخصتها)، أي جعلها شركات مساهمة، ولا سيّما المؤسّسات والمرافق التي تؤمّن إيرادات بالدولار، مثل شركتي الهاتف الخليوي وأوجيرو بعد تحويلها إلى شركة "اتصالات لبنان"، وكذلك مرفأ بيروت وإدارة حصر التبغ والتنباك وشركة الميديل إيست وشركة انترا وغيرها.
ووفق ما أعلنه دياب، فإنّ الدولة قد تخضع لشروط الدائنين، الذين سيطالبون بضمانات لتسديد الدين والفوائد بعد إعادة الهيكلة، وذلك عبر فرض التقشّف (تخفيض الإنفاق العام وزيادة الضرائب)، ووفق ما صرّح به وزير المال يجري (على سبيل المثال لا الحصر) درس إلغاء الدعم عن أسعار الكهرباء ورفع التعرفات (أي نقل الكلفة من الموازنة العامة إلى ميزانيات الأسر ومؤسّسات الأعمال)، ورفع الضريبة على القيمة المُضافة على "السلع الكمالية" (وما أدراكم ما الكماليات). وتشير معلومات موثوقة إلى أنّ نغمة تقليص الوظائف في القطاع العام وتخفيض الأجور ومعاشات التقاعد عادت تتردّد في اجتماعات اللجان التي شكّلتها الحكومة لدرس خيارات التفاوض مع الدائنين.
لقد بقيت السلطة حتى قبل يومين من موعد استحقاق 9 آذار مصرّة على التقيّد التام بتسديد استحقاقات الدين والفوائد "في التواريخ المحدّدة لذلك من دون أي إجراء آخر"، وفق ما ورد في البيان الصادر في القصر الجمهوري في كانون الثاني 2019. وواصلت الدولة دفع ديونها، وسدّدت سندات دين بالدولار في العام الماضي بقيمة مليارين و650 مليون دولار، آخرها في تشرين الثاني الماضي، بالإضافة إلى مدفوعات الفائدة، التي كان آخرها بقيمة 71 مليون دولار قبل أيام قليلة. حصل ذلك في ظلّ تفاقم "نقص الدولار" وانخفاض سعر صرف الليرة ولجوء المصارف إلى مصادرة الودائع الصغيرة والمتوسّطة والحسابات الجارية وحسابات توطين الأجور والتحويلات وتقييد حركة التجارة وتعطيل نظام الائتمان...
الواضح أنّ ما يجري تداوله اليوم لا يُعالج مصادر الأزمة الشاملة، ولا سيّما الأزمة المثلثّة التي تحدّث عنها دياب في معرض تبريره لقرار "تعليق السداد"، أي ازمة العملة وأزمة المصارف وأزمة الديون السيادية، وما يجدر التنبّه له، أنّ كل السيناريوهات المطروحة تنطوي على تشريع إجراءات المصارف التعسّفية لحمايتها من الملاحقات القضائية، وتكريس نظام السعرين للّيرة إزاء الدولار.
"لن ندفع"، هذا الشعار الذي رفعته الانتفاضة بإصرار، يحمل الآن كامل معناه، فليس على المجتمع أنْ يتكبّدَ خسائر المصارف وفساد السياسيين، بل على هؤلاء أن يتحمّلوا وحدهم المسؤولية، وهذا لا يحصل عبر المفاوضات مع الدائنين ولا عبر طلب تدخّل صندوق النقد الدولي، بل يأتي عبر تزخيم الانتفاضة الشعبية وإنتاج أطرها التنظيمية وقياداتها وفرض مكان لها على الطاولة أو قلب الطاولة على من يريد أن يُدفّعنا المزيد من خسائره.
إنّها حرب الطغمة المالية علينا، ونحن في حالة دفاع عن النفس، ولذلك الاستعداد لهذه الجولة واجب ومسؤولية.