الخميس، آذار/مارس 28، 2024

الخروج من الأزمة بإسقاط الطبقة المسيطرة بكلّ الوسائل الثورية المشروعة

  جوزف عبدالله - النداء
لبنان
هل يعود انحباس تشكيل الحكومة إلى طبيعة الدستور والقوانين اللبنانية، وازدواجية التباس مرجعية التشكيل بين رئيس الجمهورية والرئيس المكلف؟ هل الأزمة سياسية قائمة في طبيعة الدولة ودستورها وقوانينها؟ في الحقيقة ليست المشكلة في طبيعة الدولة ودستورها وقوانينها فحسب، بل هي في مكان أعمق. المشكلة ليست في الدولة بالأصل.


فمن حيث المبدأ، في الأزمات الاجتماعية الكبرى (كما هي الحال في لبنان اليوم)، تكون "المشكلة الأساسية هي المشكلة الاجتماعية لا السياسية، وأنه لا سبيل إلى حلّها على صعيد حقوقي وسياسي..."[1]. لا شكّ بأن المجتمع اللبناني يمرّ اليوم في أزمة اجتماعية عميقة غير قابلة للحل بمسكنات الإصلاحات في الدولة والنظام السياسي. فالمطلوب إحداث تغيير جدي في المجتمع، وفي سياق عملية التغيير هذه، يجري تحويل المجتمع بالذات، وهذا المجتمع "المحَوَّل" من شأنه تحديد وبناء المعالم الأساسية للدولة.
أين تكمن المشكلة الاجتماعية؟ تعود جذور المشكلة الاجتماعية فعلياً إلى بنية الاقتصاد اللبناني الذي تبلورت معالمه منذ الثمانينيات من القرن الماضي، بوصفه "اقتصاد النهب" (المستمر اليوم) الذي بنته وأدارته قيادة مافيات الكانتونات التي رست على تعيين حدودها الحرب الأهلية المندلعة منذ العام 1975. كانت قيادة المافيات، حتى تنفيذ اتفاق الطائف، متفاهمة على التشارك في إدارة هذا الاقتصاد بتحاصص دقيق، رغم ما كان بينها من صراعات دموية مدمِّرة. انتقلت قيادة المافيات إلى إدارة الدولة اللبنانية بنفس سياسة النهب والمحاصصة التي نشأت عليها. ولكم هو موفق توصيف النائب جميل السيد بقوله أكثر من مرة: "زعماء ميليشيات الحرب يصادرون الدولة!". "مرض الفساد صُنع في لبنان بهذه الطبقة التي انتقلت من الميليشيا إلى الدولة بدعم خارجي". وعليه بدل الكانتونات الموزّعة جغرافياً صارت الكانتونات موزعة في إدارة الدولة ومؤسساتها "على شكل أربع دول داخل الدولة: شيعية وسنية ودرزية ومسيحية".
في زمن الحرب الأهلية كان "اقتصاد النهب" يقوم على: جباية الرسوم من المرافئ الشرعية وغير الشرعية، التهريب على أنواعه، فرض رسوم عبور بين الكانتونات، الخوات على المواطنين، السرقات الفجة، التشليح البري والبحري... وكثير من هذه الجبايات كان خاضعاً للمحاصصة بين الميليشيات المتعادية والمسيطرة في الكانتونات. كانت الرأسمالية المافياوية "متشاركة - متفارقة". وكانت عناصر ميليشياتها (أحزابها) متفرّغة (تناضل بأجر) وتستفيد من الكثير من الامتيازات. ومع توحيد الدولة بعد اتفاق الطائف، بقي كلّ "اقتصاد النهب" سارياً، وصارت موارده أكبر عبر سياسات القروض والدين والاستفادة من الريع النفطي العربي: المحاصصة سيدة الموقف؛ التهريب عبر مرافئ الدولة؛ المشاريع العامة لنهب ثلاثة أرباع كلفتها وهدر الربع الباقي؛ التهرّب من الضرائب والرسوم؛ نهب الأموال العامة المخصّصة لإعادة الإعمار؛ وكلّ ذلك يجري بالاستناد إلى محاصصة في إدارات الدولة لحسن تنفيذ النهب بـ"العدل". وبذلك استمرت الرأسمالية المافياوية "متحالفة - متخالفة" في الإدارة والمجلس النيابي (وانتخاباته) وتشكيل الحكومات وبقيت عناصر أحزابها متفرّغة (بأجر) من الوظائف العامة أو من امتيازات مخالفة القوانين... وانضافت إلى هذه الرأسمالية المافياوية الرأسمالية الوافدة من المهجر، ومنها من لعب دوراً رائداً لاندراج دوره اللبناني في المشاريع الغربية - الخليجية للبنان والمنطقة، وشكّل أحزاباً لا تختلف عن أحزاب الميليشيات.
"اقتصاد النهب" هذا هو المشكلة الاجتماعية الأساسية في البلاد. فقبل أن تكون المشكلة في الدولة ودستورها وقوانينها، فهي هنا في هذا الاقتصاد الميليشياوي بالتحديد. وعلى هذا الاقتصاد تقوم الدولة اللبنانية، بوصفها كانتونات موزّعة على قادة ميليشيات الحرب. كيف تكون الدولة كانتونات؟ تكون كذلك بتوزيع ريعها وإداراتها ومؤسساتها على قادة الميليشيات. وهنا بالتحديد نفهم سر ومعنى "حقوق الطوائف". فالدولة هي دولة "اقتصاد النهب" هذا، وهي الناظمة لإدارته واستمراره. باختصار إنها دولة طبقة رأسماليي "اقتصاد النهب". وهنا بالتحديد يجب البحث عن أسباب الأزمة وعن المسؤولين عنها وعن طرق حلها. وهذا الحل، على عجالة نقول: من العبث أن يكون بإصلاح الدولة، بل بتغييرها بالكامل، انطلاقاً من تغيير موازين القوى داخل المجتمع المدني، بإسقاط طبقة محالفة رأسماليي الميليشيات.
هذه الطبقة المافياوية مكوَّنة من عدة أطراف رأسمالية نيوليبرالية هي: حيتان المال وأصحاب المصارف، ومالكي الاحتكارات العقارية، والاحتكارات التجارية. تُكوِّن هذه الطبقة الاجتماعية النيوليبرالية محالفة بين أطرافها الطبقية - السياسية، وهي "متحالفة - متخالفة" في نظام سياسي طائفي يُمَكِّن كلّاً منها من استتباع الفقراء والكادحين في كيانات سياسية (أحزاب، تيارات) تزعم الدفاع عن أبناء الطوائف ومصالح الطوائف. فنراها يوماً تتوافق على الانتخابات وتشكيل الحكومات وتنفيذ المشاريع، ويوماً آخر تختلف على نفس الأمور فتعطّل كلّ الحياة العامة في البلاد. إن هذه الأطراف الطبقية الرأسمالية "المتحالفة - المتخالفة" هي تقريباً، وفي جوهرها، نفس أطراف قادة ميليشيات كانتونات الحرب الأهلية التي كانت "متشاركة - متفارقة"، وكنّا نراها يوماً تمارس وقف إطلاق النار ويوماً آخر تتبادل القذائف على رؤوس المواطنين وممتلكاتهم.
هذه الفئات الرأسمالية ("المتحالفة - المتخالفة") هي من أسوأ ما أنتجه تاريخ الرأسمالية من رأسماليين في العالم. هي كتلك التي رصدها ماركس في فرنسا منتصف القرن التاسع عشر، فوصفها (وكأنه يصف الرأسمالية اللبنانية اليوم) بقوله: "كانت تسن القوانين، وتصرف شؤون الدولة، وتتصرف بكلّ جهاز سلطة الدولة المنظم،... وفي الأوساط العليا من المجتمع البرجوازي على الأخص، كانت تتبدّى مطامح جامحة، غير سليمة، فاسدة،... إن الأريستقراطية المالية ليست، من حيث أسلوب إثرائها، ومن حيث متعاتها، غير انبعاث لحثالة البروليتاريا في الأوساط العليا من المجتمع البرجوازي".[2]
هذه المحالفة الطبقية المسيطرة تلعب دور وكيل الاستعمار
توّهم غبطة البطريرك أنه أقرب إلى المجتمع الدولي من المحالفة الطبقية المسيطرة في لبنان. لعلّه لا يرى أن هذه الطبقة بكلّ أطرافها، وكلها من دعاة السيادة، تستدعي التدخل الغربي، وتتنازل عن السيادة، وتقبل بنفس الاستعمار أو الانتداب. فبرنامجها المشترك للخروج من الأزمة هو تقديم أوراق اعتماد قبولها بالانتداب الأميركي - الأوروبي.
تقضي خطة هذا الانتداب أولاً بأول، بالخضوع لتوصيات (تعليمات = أوامر) صندوق النقد الدولي والبنك الدولي. ثانياً، تأليف حكومة مهمة تنفذ تعليمات المبادرة الأميركية - الفرنسية. ثالثاً، خضوع المجلس النيابي لتعليمات خطة الانتداب، بإقرار ما يُطلب منه من قوانين. أما أهم البنود، بعد تشكيل الحكومة "الانتدابية" ومنحها الثقة للحكومة فهي: المصادقة على موازنتها للعام 2021؛ في الإصلاح الإداري: اقتراح بتعيين البعض من كبار الموظفين (من المدراء العامين وحاكمية مصرف لبان، وإعادة بناء وإدارة المرفأ و...) من جنسيات مزدوجة لبنانية - فرنسية وربما غير فرنسية؛ ترشيق القطاع العام، تراجع أجور الموظفين والمتقاعدين وتعويضاتهم؛ إلغاء دعم السلع، زيادة الضرائب؛ تحرير سعر صرف الليرة (انهيار قيمة الليرة)... ومن اللافت أن تعمد وزارة المالية إلى وضع جردة بملكيات الدولة اللبنانية العقارية وغير العقارية، من أجل وضعها في سوق المزاد العلني الدولي واللبناني بالطبع.
يكفي النظر بموضوع قرض البنك الدولي للعائلات الأكثر فقراً، لنلاحظ خضوع الدولة بكلِّ ذلٍّ إلى "نظام الإئتمان" المعتمد من المؤسسات الدولية. ليس لذلك ما يبرّره سوى مشاركة الطبقة المسيطرة في هذه الصفقة المشبوهة. إن "نظام الإئتمان" يُجبر المَدينين على التقيّد بكلّ ما يُفرض عليهم من شروط. فـ"نظام الإئتمان"، هو في الحقيقة، "حكم الدائنين" créditocratie، أو بالأحرى "ديكتاتورية المموِلِين"، أو ما سمّاه ماركس البنكوقراطية bancocratie، سلطة أو حكم المصرف.
يبقى السؤال الأساسي الذي نوجّهه لحزب المقاومة وأنصاره في الممانعة: عندما يفقد لبنان سيطرته على اقتصاده، وعلى تشكيل حكومته، وعلى إدارة دولته وعلى التصرف بديونه وبكيفية إيفائها و... ماذا يبقى له من استقلاله وسيادته؟ إن غرض الاستعمار الأساسي من احتلال بلدان الغير هو السيطرة على إدارتها ومصادرة ثرواتها وتحويلها إلى أسواق تصريف، أي إدخالها في تبعيته الصارمة للرأسمالية النيوليبرالية المعولمة. فإذا توفرت له هذه الأسباب بدون حروب، فلماذا يشن الحروب؟ إن المحالفة الطبقية المسيطرة في لبنان تذهب بأقدامها لتحوّل البلد إلى مستعمرة للغرب الأميركي - الأوروبي. وعليه ما قيمة آلاف الصواريخ المكدّسة في ترسانات المقاومة، طالما أن ما يريده الغرب الاستعماري قد حصل عليه بدون حروب؟
في الخلاصة: لا سيادة وطنية أو قومية بدون سيطرة الشعب ودولته على اقتصاد البلاد. فالسيادة اقتصادية أولاً وأساساً. كما أن لا خطة نهوض ما دامت الطبقة المسيطرة، المسؤولة والصانعة لانهيار البلاد، هي التي ستبقى مجدّداً وكيلة الاستعمار، ومتحكّمة بإدارة مقدّرات الوطن. يبقى على قوى التغيير اللبنانية حشد الجماهير، وتنظيم التحركات لمواجهة هذا الاعتداء على السيادة الوطنية، ولقمة الفقراء، وأجيالهم المستقبلية. وواهم كلّ من يظن بالإمكان الخروج من هذه الأزمة المتدهورة بسرعة صاروخية مع بقاء الطبقة المسيطرة على رأس المجتمع والدولة. فلا بدّ من إسقاطها بكلّ الوسائل المشروعة. وكلّ الوسائل الثورية مشروعة.

________________________________________
[1] أوغست كورنو، ماركس وانجلز- حياتهما وأعمالهما الفكرية، المجلد الثاني، ترجمة جورج طرابيشي، ط. 1، دار الحقيقة، بيروت، آب 1972.
[2] ماركس، النضال الطبقي في فرنسا، من 1848 إلى1850، دار التقدم موسكو، ترجمة الياس شاهين، بدون تاريخ، ص36- 37.