الجمعة، نيسان/أبريل 19، 2024

بومبيو، هل ما زلت شرطي العالم؟

لبنان
"عالم قديم يموت، وعالم جديد يكافح ليولد، انه زمن الوحوش" - غرامشي. الرأسمالية المعاصرة قد بلغت مرحلة الشيخوخة. هذه الأطروحة قدّمها ودافع عنها المفكر الراحل سمير أمين في كتابه الصادر العام الماضي عن دار الفارابي، حيث يشير مفهوم الشيخوخة هذا إلى أن النظام القائم عاجزٌ عن التغلب على أزمته الدائمة. ويشرح الكاتب بتفصيل وافٍ أطروحته ويقدم التبريرات الضرورية لإثباتها. وهو لا يكتفي بذلك، بل يطرح ضرورة البديل الذي برأيه لن يكون إلا بديلا اشتراكيا حيث يقول "صار من الضرورة التاريخية إنجاز خطوات في سبيل بناء بديل إشتراكي".

هذا الطرح لا يختلف كثيراً عن عبارة غرامشي التي بدأنا بها مقالنا، والتي سنعود لها في أكثر من مكان في هذا النص، وبالتالي فإن البناء على هذين الطرحين ضروريٌ جدّاً قبل الجواب على سؤال المقال.
قد يجادل الكثيرون بأن الأمريكي ليس في مرحلة تراجع، وقد يستندون إلى أحداث تجري في أكثر من بلد للتدليل على أن مشروع الهيمنة يحقق انتصارات، بمعنى أن الولايات المتحدة تمتلك القدرة على زعزعة استقرار أي بلد لا ينصاع لأوامرها، ولكن من يمكنه الاثبات أن هذا يعني قوة مشروعها؟
قبل الحرب العالمية الثانية، كان الاقتصاد الألماني على وشك الانهيار نتيجة للأزمة التي كان يمر بها الاقتصاد العالمي (وللمفارقة هذه الأزمة هي التي أوصلت هتلر إلى السلطة نتيجة لعدم تمكن الثورة الشيوعية الألمانية من تحقيق النصر)، وبالتالي كان مشروع هتلر السياسي على حافة الانهيار أيضاً، إلا أننا جميعا نعلم أن ألمانيا اختارت خيار الحرب للهروب من هذا الانهيار (الحرب أو تدمير الإنتاج هو حل سحري بيد الرأسمالية للتخلص من أزماتها المستعصية)، وتمكنت من السيطرة على العديد من البلدان في كل أنحاء الكرة الارضية، ولكن ذلك لم يغيّر كثيراً في المشهد، فصمود الاتحاد السوفياتي أدى إلى فشل هذه المناورة الالمانية وبالتالي أدى إلى هزيمة هتلر ومشروعه.
لذا، فإن درس التاريخ يقول، من يذهب إلى خيار الحرب أو التخريب، ليس بالضرورة أن يكون خياره هذا من منطلق القوي، بل يمكن أن يكون من موقع المتراجع المتخبط. وبالعودة إلى توصيف "مرحلة الشيخوخة" التي يمر بها النظام العالمي، فإننا نعتبر أن المشروع الامريكي يتراجع، ولم نقل انهزم، لان هزيمته مرتبطة بجاهزية البديل، وهو اليوم في طور التشكل. لذا فالأمريكي يحاول تأبيد سيطرته، ولكن دون جدوى، ولم يعد بإمكانه أن يلعب ذلك الدور الإرهابي المُسمّى "شرطي العالم". إلا أن ما نشهده حاليّاً في العديد من البلدان، هو "زمن الوحوش"، فإن تأخر ظهور البديل سيجعل العالم يدور في حلقة تأزم تمتاز بظهور الفاشيات. وطبعاً الولايات المتحدة تستغل هذا الواقع.
نيوزيلاندا: "إما الاشتراكية او الهمجية"
إذاً، إن من مظاهر "مرحلة الشيخوخة"، ظهور الفاشيات بأشكالها المتعددة، ولكن بمضمون إجرامي واحد، وهذا ليس بجديد في الحركة التاريخية للأزمات الرأسمالية، حيث يمكن الجزم بأنه خلال المئة عام الماضية، لم يبقَ شبر في هذا العالم إلا وشهد نموذجاً من نماذج الفاشية هذه، من المجازر التركية ضد الأرمن والكرد، والمجازر الصهيونية في فلسطين في بداية القرن العشرين، إلى ظهور الفاشيات في أوروبا وخاصة ايطاليا المانيا واسبانيا، ومن ثم توسع هذه الفاشيات إلى دول عديدة في أميركا اللاتينية، ونسختها الأكثر تخلّفاً في منطقتنا وخاصة في لبنان قبل وإبان الحرب اللبنانية (الكائب اللبنانية هي نسخة معدّلة جغرافيّاً مع الكثير من التشوهات لكتائب فرانكو في اسبانيا) كذلك الفاشيات العرقية في الولايات المتحدة وجنوب أفريقيا وغيرها من الأماكن. وحديثاً، مع تفاقم أزمة النظام العالمي، يمكن الإشارة إلى نازيي أوكرانيا الجدد، وفاشيي منطقتنا الجدد من جبهة النصرة وتنظيم داعش وغيرهم الكثير من النماذج التي انتشرت في ليبيا وسوريا والعراق واليمن.
كل ظاهرة من هذه الظواهر كانت تعبير عن تأزم في النظام العالمي، وكانت تسبق مرحلة انهيار شامل، إلا أنها كانت تأخذ أشكالاً ذات طابع ديني أحياناً (الحركة الصهيونية، النازية، داعش والنصرة) أو طابع عرقي، أو مزيج بين الاثنين.
إن ما جرى في نيوزيلندا يقع في صلب هذا التحليل، فهذه الوحوش المسعورة، ليست سوى شكلاً جديداً للفاشيات التي تفرزها أزمات النظام العالمي. وفي هذا البلد لها طابع يشابه تركيبته، فهي مزيج بين التعصب الديني والعرقي، ضد كل آخر ليس "أبيض". والأبيض يعني هنا الكثير، فهو المسيحي الأوروبي صاحب العرق النقي. ويصبح تحديد الآخر إن كان جزءاً من "مجموعة البيض" أم لا على أساس هذا التعريف متكاملاً. فإن كنت مسيحيّاً مثلا، ولكنك من المهاجرين، تصبح مباشرةً غير مرغوب. ولتسهيل الأمر، في هكذا أماكن ومع هكذا فاشيات، يصبح كل آخر مسلماً، أسود البشرة والحنطي والأبيض من غير الاوروبيين، كلهم مسلمين بنظرهم. والإسلام هنا لا يعني دين الاسلام، بل آخر غير مرغوب به ويجب التخلص منه. فهذا "المسلم"، قد يكون مسيحيّاً من أمريكا اللاتينية، أو هندوسيّاً من الهند أو ملحداً من افريقيا، ولكن بنظرهم هو "مسلم"، على طريقة "محمودات" في فيلم أمريكي طويل.
هذه النظرة الفاشية هي نفسها في كل مكان، ولكن يختلف فقط تعريف الآخر. في الحرب اللبنانية كان الاخر "الفلسطيني" و"المسلم"، واليوم نجد الآخر في لبنان هو "السوري". لذا فإن حالة نيوزيلاندا ليست معزولة عن كل ما يجري، إنها من الإفرازات الوسخة للأزمة التي يمر بها النظام العالمي، والحل لهكذا ظواهر ليس حلّاً "دينيّاً" او "حضاريّاً" أو غيره من الحلول التي يتم تقديمها عند حصول أي حادثة من هذا النوع. وطبعاً إطفاء "برج ايفل" وارتداء رئيسة الوزراء النيوزلندي الحجاب ليس حلّاً. الحل في أن تعيَ كل الشعوب أن مصلحتها اليوم هي في تغيير هذا النظام العالمي الذي يسبب كل هذه المآسي، والإسراع في إنتاج البديل، لأن التأخر في ذلك يعني عالماً أكثر همجية.
عناوين عامة لحلف المواجهة
في خضم كل هذه الازمة أتى بومبيو إلى لبنان، اجتمع بمن اجتمع، ووجه رسائل في أكثر من اتجاه. وممّا لا شك فيه أن بنية النظام اللبناني تسمح للامريكي بتمرير مشاريع تخريبية، خاصة وأن في لبنان عملاء له مستعدون لتنفيذ أي أوامر تطلب منهم، وهؤلاء موجودون في كل مفاصل السلطة. لذا فإن التصدي بشكل حازم للمخططات هو واجب وطني، يبدأ بعزل العملاء، وضرب قدرتهم على إنتاج الفتن، وذلك لن يكون دون تغييرات جذرية في بنية النظام اللبناني الذي بطبيعته نظام تابع للمركز الرأسمالي.
هذا المشهد يتكامل ويعطي للأمريكي قدرة أكبر على الحركة إن ربطناه بالواقع العربي. فمعظم الأنظمة العربية وخاصة الخليجية تابعة بشكل أعمى، والسياسات الأمريكية في منطقتنا تبنى على أساس مصلحة الكيان الصهيوني التي هي مصلحة الاستعمار تاريخيّاً، وهي اليوم حاجة خاصة لترامب في صراعاته الداخلية في امريكا. من جانب آخر، هذه السياسات، ومنذ اليوم الاول لوصول ترامب إلى السلطة، تنظر إلى دول الخليج على أنها محمياتٌ يجب أن تدفع مقابل الخدمات التي يوفرها الحامي الأمريكي، وطبعاً هي تدفع دون أي مانع، وتسير بخطوات ثابتة نحو تصفية القضايا العربية.
إن الأمريكي عاجزٌ حتى الآن عن استمالة ضابط كبير واحد في الجيش الفنزويلي رغم محاولاته منذ أكثر من شهر ونصف. بالمقابل، لديه قدرات كبيرة في منطقتنا، وهذا يجعل التحدي أكبر. لذا فإن المواجهة لن تكون ترفاً، حيث يجب ضرب المصالح السياسية والاقتصادية لأمريكا في لبنان، من خلال رفع سقف المواجهة مع النظام اللبناني التابع، وعلى كل القوى المتضررة أن تحدد موقعها بشكل واضح. فلا مجال لمعاداة أمريكا سياسيّاً والسير في مشروعها اقتصاديّاً، ونحن لسنا بحاجة إلى الكثير من الشرح لتظهير موقع النظام الاقتصادي اللبناني. وهذا لن يكون ممكناً إلّا بتشكيل تحالف مبني على أساس العداء للامبريالية سياسيّاً واقتصاديّاً وعسكريّاً، وبالتالي على أساس برنامج سياسي إقتصادي ببعد اشتراكي يحمي حقوق الشعب اللبناني وثرواته، ويحفظ موقعه المتقدم في مواجهة العدو الصهيوني. وربطاً بما قدمناه سابقاً، فإن هذا التحالف لن يكون معزولاً عن البعد العالمي للصراع، بين امبريالية مأزومة تسعى لتجديد سيطرتها ونهبها، وبين شعوب ودول تسعى لبناء عالم جديد. لذا فهذا التحالف يجب أن يكون جزءاً من هذا العالم الجديد. والخطوة الأولى لذلك هي الاستدارة نحو الشرق، من خلال صياغة تحالفات مع دول مثل الصين وروسيا قائمة على المصلحة المشتركة والاحترام المتبادل.
نحن اليوم بأمس الحاجة إلى حركة تحرر عربية، والتجربة التاريخية في هذا المجال تؤكد أن مقتل هكذا حركة هو في أن لا تكون معادية للامبريالية على كل المستويات، وخاصة اقتصاديّاً.