لا حياد... لمن ينادي
قرن من الزمن مضى على تلك الوقفة الطاووسية للجنرال غورو الفرنسي، المنتدب وبقرار من سايكس بيكو، وهو يعلن قيام لبنان "الكبير"، محاطاً بأصحاب النيافة والغبطة والسماحة وجموع من وجوه، تعلوها ضحكات بلاستيكية خالية من نضارة الحياة. واستمرت الوقفات. حكمتنا فرنسا واستبدت وزجّت بعض اللبنانيين الذين طالبوها بالاستقلال في سجونها، انحاز قسم من لبنان الرسمي، ومن موقع الرئاسة الأولى، إلى حلف بغداد "الأميركي"، وقاتلوا نصف شعبهم الآخر المنحاز إلى التحرر الوطني وواجه إنزال المارينز عام 1958، المدعو رسمياً، وهزمه على شواطئ بيروت... واستمرت المواجهة الواضحة وانتقلت من قضية إلى أخرى، وما الاجتياح الصهيوني عامي 1978 و1982 إلّا العلامة الفارقة في تاريخ لبنان، بحيث كانت تدار معاركه، وبمباركة من قوى لبنانية، من مناطق خاضعة لسلطة انقسام لبناني باسم الطوائف والمذاهب... وانهزم العدو بفعل المقاومة لا غيرها. لن نكثر بتعداد مجالات الإنقسام ومواضعها، بل سنسأل وبكل وضوح: عن أي حياد تتحدثون؟
عن الصراع مع المشروع الأميركي؟ هي جريمة، موصوفة وبكل المعايير، لمن يغطي السياسات الأميركية في لبنان والمنطقة، سياسات الحصار والعقوبات والتبعية والارتهان، أو حتى من يستقبل سفيرتها، سفيرة الفتنة المتجولة والتي تفتح لها أبواب القصور الرئاسية والصروح والدور والمنتجعات... وبهذه النقطة نقول: لا حياد.
عن الصراع مع العدو الصهيوني؟ هو فعل خيانة من يقف في ذلك الصف وما للخائن إلّا تنفيذ حكم الشعب فيه، فهي ليست وجهة نظرة أو صفقة مشبوهة، وعليه نقول: لا حياد.
عن ما يجري في المنطقة؟ هي مواجهة مستمرة من سايكس بيكو وحتى اليوم، والمشروع الغربي لا يزال مستمراً، أفقروا الشعوب ونهبوها، قضوا على أية إمكانية لقيام دول قادرة، وبنى اقتصادية منتجة. دعموا نظم التخلف والرجعية والديكتاتوريات العسكرية، قسّموا ونكّلوا وتركوا السيادة والقيادة للعدو الصهيوني، وعلى هذه القضية أيضاً: لا حياد.
في قضية فلسطين وشعب فلسطين وتاريخها وعروبتها ومكانتها؛ لا تصلبوا السيد المسيح مرتين: لا حياد وبالثلاثة.
حماية نظام المحاصة والنهب والسلب، حماية المنظومة السياسية والاقتصادية والمالية، التي أفقرت الشعب اللبناني، حماية الفاسدين بأسم الطوائف والمذاهب ومنع المحاكمة عنهم وإقامة الحدّ على من يتجرأ عليهم... وغيرها من الممارسات اليومية التي تُرتكب بحق فقراء لبنان وشعبه وعماله وموظفيه من دون أي تفرقة عنصرية أو مذهبية... أليس ذلك انحيازاً لفئة طغت واستبدت وحكمت فأفسدت وسرقت المال العام وافقرت؟ إذا لم تستطعوا المواجهة فقفوا، أقله، على الحياد، ودعوا الشعب اللبناني ومن تبقى من قضاء نزيه ليُحاسب.
فقراء الطوائف والمذاهب والتي تحكم باسمهم سلطتي السياسية والدين مدعومة بسلطة رأس المال، الموزعة إمكاناتها على الجميع بقصد الحماية، ألّا يستحقون قول كلمة حق منكم مقرونة بفعل يسد بعض جوعهم، من أملاك الأوقاف وممتلاكتها المعفية من الضرائب على اختلافها؟
لن يكون حياداً ومحايدين في تلك القضايا المطروحة؛ هي مواجهة مفتوحة ومستحقة، الحياد فيها انحياز والدعوة له مشتبه بها. فلتكن دعوتنا إلى تلك المواجهة مقرونة بخطاب سياسي واضح وخطة ميدانية شاملة لكل القضايا والمناطق. وهو ما يجب أن نقوم به إلى جانب كل القوى والشخصيات والقطاعات والمجموعات المؤمنة بالتغيير الحقيقي والواضح والمنحاز إلى أكثرية الشعب اللبناني الذي يستحق ذلك وأكثر، وله الحق بأن يعيش بكرامة. لقد ابتلي بنظام هجين ملتبس بوظيفته، وللمفارقة أن أكثرية القوى والشخصيات التي أيدت الحياد هي منخرطة في مشاريع إقليمة ودولية حتى النخاع الشوكي، وهي متهمة بالفساد والإفساد؛ لقد احتلت السلطة منذ أكثر من ثلاثين سنة ولمّا تزل. لقد بدّلت الولاءات ونقلت البندقية إلى خنادق مختلفة، وسطت على المال العام وها هي تنتقد وتدعو إلى الإصلاح! هي مفارقات لا تجدها إلّا في ظل الفرادة اللبنانية التي لا ينفك أصحاب التاريخ المزور بفعل فاعل يتحدثون بها ليل نهار...
لا حياد فيما يجري بل البوصلة واضحة وضوح الشمس، وإن غشيت الرؤية فالمشكلة في العين التي ترى وليس في القضايا المطروحة. ادعوا ما تشاؤون ومن تريدون، تحاوروا وتحاصصوا وأفسدوا وأحموا فاسدين؛ ستبقى الشمس تشرق من المشرق إلى المغرب، وسيبقى الشعب اللبناني، الذي لبّى نداء السلاح إلى المقاومة، جاهزاً لأن يكسر سلطتكم المنتهية الصلاحية، ويهدم صروح أصحاب رأس المال المدعومين من أصحاب النفوذ والولاءات، والغد لنظاره قريب.
*د. حسن خليل - عضو مكتب سياسي ومسؤول العلاقات السياسية في الحزب الشيوعي اللبناني.