مطلوبٌ ملاقاة الشعب السوداني بـ "مواكب" جماهيريّة في كل الساحات العربية
لقد أثبتت هذه الانتفاضة المجيدة أنها ليست مجرّد هبّة عفوية تنتهي في زمن محدد لدى تحقيق مطالب "بالمُفرّق" هنا وهناك. إنها انتفاضة سياسية ذات برنامج مرحليّ واضح يؤسس لنظام ديمقراطي تقدمي، ولديها قيادتها الفذّة المستمدّة شرعيتها من الشارع ، ومن تاريخ الحركة الثورية السودانية العريق. انتفاضة يبدو أنها منكبّة على القراءة باجتهاد في كتاب تحصين ذاتها بوجه كل سيناريوهات القمع والاجهاض والاحتواء.
منذ الأيام الأولى لانطلاقتها، طرحت الانتفاضة برنامجاً واضحاً للحرية والتغيير عنوانه الرئيسي إسقاط النظام الفاشي الإسلاموي التبعي وإقامة البديل الديمقراطي على أنقاذه. وهو البرنامج الذي تلتفّ حوله كل قوى الحرية والتغيير في السودان. وأثبتت قدرات فائقة على الاستفادة من دروس الانتفاضات السودانية والعربية السابقة والمراكمة عليها لتهيئة أفضل الشروط الذاتية والموضوعية لإنجاز مهماتها. نعم، تواجه الانتفاضة العديد من المطبّات والتحدّيات والمخاطر، الخارجية بمعظمها، ما يتطلّب رفدها بأوسع حملة تضامن عربية وأممية. تضامن من نوع جديد، يتجسّد على المستوى العربي والاقليمي من خلال ملاقاتها بانتفاضات مشابهة، داعمة لها ومتكاملة معها. إن أهم الشروط الذاتية والموضوعية لهذه الانتفاضات متوفر، في ظل أنظمة عربيّة مأزومة، وفي ظلّ مشاريع إمبريالية – صهيونية مرتبكة بفضل الهزائم والانتكاسات التي تعرضت لها على أكثر من جبهة.
اقتلاع نظام البشير بداية حقبة التغيير الملازم للتحرير
إن من أهمّ سمات المشهد السوداني الراهن، هو ترنّح نظام يشكل نموذجاً لتزاوج ركنين أساسيين من أركان الاستبداد التقليدي في منطقتنا، المؤسسة العسكرية والمؤسسة الظلامية التكفيرية، تحت الضربات الموجعة للأبطال المنتفضين. إن لإسقاط أحد هذين الركنين، تداعيات كبيرة على مستوى المنطقة، خاصة في هذه اللحظة التاريخية، فكيف بإسقاط الركنين معاً؟ إن من شأن إسقاط نظام البشير العسكري – الإسلاموي وتحقيق "البرنامج البديل" الذي تطرحه الانتفاضة، رسم الملامح المستقبلية لمنطقتنا ككل، بما فيها آفاق الصراع العربي– الصهيوني القادمة. فأي قراءة نقدية جديّة في نتائج انتفاضات "الربيع العربي" بالمقارنة مع إنجازات الانتفاضة السودانية على مدى الثلاثة أشهر الماضية، تؤكد المؤكد، وهو تلازم مساري التغيير الديمقراطي والتحرر بأصوله الوطنية والقومية والاجتماعية. وها هي انتفاضة الشعب السوداني تكشف، يوماً بعد يوم، المزيد من "القطب المخفيّة" في الدور الوظيفي للأنظمة الشمولية الإستبدادية التبعية في منطقتنا.
أسطورة "الإستبداد الذي لا يقهر" الوجه الآخر لأسطورة "الجيش الذي لا يقهر"
وإذا كانت من المؤشرات الواعدة، على غير صعيد، انطلاقة انتفاضة الشعب السوداني، من حيث نجح التحالف المعادي لشعوبنا، الى حد كبير، في تحويل "الربيع العربي" الى "بولدوزر" لتهيئة أفضل شروط ما يسمّى بـ"صفقة القرن" الهادفة الى التصفية النهائية لحقوق الشعب الفلسطيني، فإن مهمّة إسقاط أسطورة "الإستبداد الذي لا يقهر" التي تتصدّى لها قوى الحرية والتغيير في السودان تعادل بأبعادها القومية، إسقاط أسطورة "الجيش الذي لا يقهر" على يد أبطال المقاومتين الوطنية اللبنانية والاسلامية. حيث الأولى هي الوجه الآخر للثانية، والعكس.
من المبكر جداً رسم المآلات البعيدة للانتفاضة، غير أنه لا بد من الإضاءة على بعض النجاحات التي حققتها حتى الآن وفي مقدمتها قدرتها على الحفاظ على "سلميتها" رغم طموحات النظام في استدراجها الى ملعب العسكرة الذي يمنحه التفوق السياسي بتشويه أهدافها والعسكري لامتلاكه إحدى أعتى آلات القمع في المنطقة. هذا النجاح لم يكن ممكناً لولا صلابة عود الانتفاضة واستفادتها القصوى من التجارب السودانية والعربية السابقة، استنادها الى حركة قاعدية واسعة ومتجذّرة، استظلالها بغطاء سياسي عريض من أوسع المكونات الأساسية للمعارضة وتسلحها بكفاءات تنظيمية عالية. كل ذلك منحها قدرات هائلة على المبادرة والمناورة واستدراج عدوها الى الساحات التي تريد، ومكّنها من خلع أنياب ومخالب نظام البشير واحداَ تلو الآخر، ما جعلها تكتسب زخماً تصاعدياً وديناميّة تؤهلها للمزيد من الاستقطاب والثبات. لقد استطاعت الانتفاضة، بفضل ما اكتسبته من صدقية ومناعة وطنية، تعرية النظام تدريجياً من معظم أسلحته الإيديولوجية والسياسية والقمعية التقليدية، بما فيها إسقاط أسلحة "التخوين" و"الشيطنة"، تحييد الجيش الى حد كبير، شلّ أجهزته القمعية الأمنية والميليشياوية من خلال استراتيجية تعدد "المواكب" المتزامنة في أقاليم ومدن وأحياء مختلفة بهدف تشتيتها وإضعافها، شلّ مؤسسات الدولة من خلال الإضرابات الطلابية والمهنية المتنوعة والمتزامنة، تحدي إجراءاته القانونية والدستورية، بما في ذلك إفشال خطته الأخيرة في إعلان حالة الطوارىء وتعيين حكام الأقاليم من أقرب العسكريين الموالين، وصولاً إلى ولوجها فعلياً عتبة العصيان المدني الشامل.
"هؤلاء الشباب هم ابناء وأحفاد ثوار 1964 و 1985...لهم جذور وليسوا مُنبتين"
يؤكد الحزب الشيوعي السوداني أنّ الانتفاضة لم تنطلق من العدم: "هؤلاء الشباب [المنتقضين] هم ابناء وأحفاد ثوار أكتوبر 1964 ومارس/أبريل 1985 وأبناء التيارات السياسية التى تعجّ بها البلاد وأبناء الوعى السياسى والاجتماعى الذى تراكم عبر نضالات شعب السودان منذ نيل استقلاله وما تبعه من إخفاقات فى ادارة الوطن، غرس فيهم روح الثورة. إن لهم جذور وليسوا مُنبتين". ولأنهم كذلك، فقد نجحوا في تهيئة المناخ المؤاتي لتوحيد صفوف أوسع شرائح المعارضة، على اختلاف مشاربها الإيديولوجية والسياسية، وانخراط جماهيرها في الانتفاضة وأطرها وتحت سقف برامجها الجذرية. كما استطاعت أن تحدث شروخات متلاحقة في معسكر النظام الإسلاموي، الذي بات العديد من أجنحته ورموزه يبحث عن سبل النجاة بالنفس. بينما لا يتوانى البشير نفسه عن إعلان "حياديته" الزائفة بادعاءات التمايز عن سنده السياسي الرئيسي، "حزب المؤتمر الوطني" الإسلاموي.
مظلة قيادية من حوالي خمسين حزب سياسي ومنظمة جماهيرية
لقد أفرزت الانتفاضة حتى الآن عدة تشكيلات جبهوية معارضة ومتقاطعة، تتصدّرها جبهة "قوى الإجماع الوطني" التي يلعب فيها الحزب الشيوعي السوداني دوراً أساسياً، كما يلعب فيها "تجمع المهنيين السودانيين" الدور الميداني الرئيسي تنظيماً وقيادة للحراكات، وهو الذي يضم مروحة واسعة من النقابات والروابط والجمعيات العمالية والفلاحية والطلابية والمهنية. ومقابل تصدع نظام البشير نجحت "قوى الإجماع الوطني" و"تجمع المهنيين" في إنشاء "تنسيقية دعم الثورة السودانية" كمظلة قيادية سياسية تضمّ عدة مكوّنات جبهوية تشمل حوالي خمسين حزباً سياسياً ومنظمة نقابية وجماهيرية، وهي الخطوة التي يعتبرها الحزب الشيوعي السوداني "مهمة ومتقدمة في توحيد قوي المعارضة نحو التغيير الجذري وطرح البديل لهذا النظام في إقامة وتحقيق مبادئ الدولة المدنية الديمقراطية ذات التعدد الاثنى والدينى والثقافى وتحديد السمات الاساسية للمرحلة بدءاً بإعلان دستورى يُتفق حوله ليحكم عمل حكومة انتقالية ذات مهام محددة ولفترة أربع سنوات، فى طريقها لاستكمال الثورة الديمقراطية، تحقيقا للحرية والسلام والعدالة الاجتماعية".
على مدى ثلاثة أشهر لم تتوقف آلة القمع الوحشي عن البطش بنساء وأطفال ورجال السودان العزّل، قتلاً وجرحاً واعتقالاً وتعذيباً وتعدّيات على حرمات المنازل، بينما "المجتمع الدولي" يغطّ في سبات عميق. مع ذلك، فانتفاضة الشعب السوداني تسير بخطى حثيثة نحو تحقيق أهدافها، وهي تختزن قدرات هائلة وإرادة فولاذيّة لمجابهة أية سيناريوهات خارجية مشبوهة. ما هو مطلوب بإلحاح ملاقاتها من قبل كل قوى التحرر والتقدّم في عالمنا العربي، بما فيها القوى الاسلامية المتنوّرة والمعادية للإمبريالية والصهيونية، بـ"مواكب" جماهيرية هادرة ضد أنظمة الطغيان والظلام والتفقير والفساد والعمالة، في مختلف العواصم والمدن والنواحي العربية، على غرار ما يجري حاليّاً في الجزائر.