الإثنين، تشرين(۲)/نوفمبر 18، 2024
تصوير ميلاد لمع
تصوير ميلاد لمع

البحر والسلطة

لبنان
السياسة في كل مكان، في كيفية استخدام المساحات العامة وفي تقديس الملكية الخاصة، وهي واضحة لمن يريد أن يراها. والسياسة هي البحث في تغيير موازين القوى ومواقع السلطة/القوّة، أو كما يعرّفها الفيلسوف الماركسي البنيويجاك رانسيار كممارسة للسلطة، موضّحاً بأنها "أسلوب تأطير لميدان معيّن من التجربة،" أي "تقسيم يسمح لمعلومات معيّنة بالظهور، فيجعل من الممكن لمواضيع محدّدة بأن يُشار إليها، بأن يتمّ الكلام عنها."

مع الوقت، يبدو أن "للمدينة ومشاكلها أهمية متصاعدة في إطار ممارسة السلطة" ، يقول مانويل كاستيلز. وتأتي هذه الأهمية كجزء من ممارسة رأس المال للقوة وللديكتاتورية، استغلالاً لثروات الشعوب من جهة، وقمعاً لحقوقهم في استخدام المساحات العامة من جهة أخرى. ويسأل كاستيلز ويجيب في الوقت عينه، رابطاً السياسي بالاقتصادي في هذا الإطار: "من أين يأتي التسييس المديني هذا؟ على مستوى معيّن، فهو نتيجة للعملية المتناقضة التي أنتجها التطور الاقتصادي الاجتماعي للرأسمالية المتقدّمة."
سنعالج في هذا النص القيمة الاقتصادية السياسية للمساحات العامّة، عبر التركيز على الشواطئ، في إطار القضم المستمر لشواطئ الساحل اللبناني من قبل البورجوازية. نرى بأنه من الضروري إذاً أن نبدأ بسؤال سياسي: مَن المستفيد من قضم الشاطئ وخصخصته؟
تُرجِع الدكتورة سيتا لوو في كتابها عن سياسات المكان ، النمط الحالي في التعاطي مع المكان العام والموجة القوية لخصخصته إلى نهاية الثمانينيات ونموّ الشكل النيوليبرالي للرأسمالية. وقد شهدنا هذا التغيير بشكل مفجع في لبنان، بعد الحرب الأهلية، عبر كل المشاريع الحضرية التي أدخلتها السياسات النيوليبرالية لرفيق الحريري آنذاك. ويقول هنري لوفيبر في إطار البحث الذي شغل العديد من الأنتروبولوجيين وعلماء الاجتماع الماركسيين والبنيويين في الستينيات والسبعينيات، "لقد أنتجت الرأسمالية مجالاً أي مكاناً مجرّداً، هو انعكاس لعالم إدارة الأعمال على المستويين الوطني والعالمي، كما أنه انعكاس لقوة المال وسياسة الدولة. يعتمد هذا المكان المجرّد على شبكات واسعة من المصارف والمؤسّسات ومراكز إنتاج هائلة. في هذا المكان، مهد التراكم، مكان الثروة، وموضوع التاريخ، حيث انفجر مركز المكان التاريخي –أي المدينة. يدخل المكان بحد ذاته النسق الحديث للإنتاج الرأسمالي: يتمّ استخدامه لإنتاج فائض القيمة. سطح الأرض وما تحته، الهواء، وحتى الضوء، كلها مسائل تدخل في مجال الإنتاج وقوى الإنتاج. النسيج العمراني، بشبكات اتصاله وتبادله المتعددة، هو إذاً جزء من أدوات الإنتاج. المدينة وأجهزتها المختلفة، من موانئ ومطارات ومحطات نقل وغيرها، هي جزء من رأس المال."
من السهل علينا أن نفهم لماذا يتعاطى رأس المال مع المكان بالطريقة الفجّة التي رأينا فيها ال"إيدن باي" مثلاً وأدواته في الدولة، يتعاطون فيها مع الاعتراضات ضدهم: المساحة التي تمّ الاعتراض على احتلالهم لها هي مادة خام للإنتاج. تسعى الرأسمالية إذاً لتسليع المكان كي يصبح عقاراً بدلاً منه أرضاً، فتقدّم الملكية الخاصة على الملكية العامة. خلال هذه العملية، لا شكّ وأن البرجوازية هي المستفيدة الأولى على مستويين: الأول اقتصادي، بحيث يتقاسم الشاطئ عدد من رجال الأعمال بحماية من الزعامات السياسية أو بشراكة معها، أو الزعامات السياسية نفسها. والثاني سياسي، بحيث تحرم الطبقة المهيمنة، الطبقة العاملة والمهمشة من الوصول إلى الشاطئ أو إلى البحر – وهو حقها القانوني- خالقة ذلك الحين، في المدن والمناطق والقرى، أماكن مفصولة طبقياً. أي أنّها، تقسّم المساحة طبقياً، تماماً كما يقسّمها الاحتلال والأبارتهايد عرقياً أو دينياً أو قومياً. من جهة أخرى، يخلق هذا الفصل الطبقي أزمة في بنية علاقة "الشعب" – كتركيبة اجتماعية موحّدة بشكل ما- ليس مع الدولة والهوية والانتماء فقط، بل مع المساحة العامة أيضاً.
لقد ثبّتت المشاريع "التنموية" للدولة وللشركات الخاصة بعد نهاية الحرب الأهلية، خريطة جديدة للتوزيع الطبقي، فأنتجت مناطق وأحياء حصرية للبرجوازية. بالإضافة إلى ذلك، فقدغيّرت علاقة الناس بالمساحات العامة، فاعتبر الناس أن خصخصتها أفضل حتى من وجودها، تماماً كمؤسّسات الدولة. من الدور الأساسي في الحياة اليومية لأهل القرى والمدن، تضاءل وجود المساحة العامة في الحياة اليومية –خاصة في بيروت- وأصبحت، كما يريدها رأس المال أن تكون، غير ضرورية وفي بعض الأحيان مؤذية. تحت حجج خدش الحياء العام وإيواء تجمّعات مشبوهة، تمّ تغريب الناس عن المساحة العامة. بالتحديد، تمّ وصم المساحة العامة بأنها مكان الفقراء: تمّ استخدام المكان كدالّ على التموضع الطبقي. والانتماء لهذه الطبقة، من منظور الجماعات في لبنان، هو أمر يجب إخفاؤه. بمعنى أن الثقافة البرجوازية المسيطرة على المنظار الاجتماعي للجماعات، استطاعت أن تفرض نفسها حتى على المكان، إذ حوّلته – بعدما حوّلت الأحياء التي نسكن، والمدارس والجامعات التي يرتادها الطلاب، والمطاعم وأماكن الترفيه، والسيارات والثياب وقصة الشعر- إلى أداة لتحديد الطبقة ورفع قيمة صاحبتها وصاحبها أو التقليل من أهميتهما. تحتاج الطبقة البرجوازية إذاً لمنع استخدام المساحات العامة من قبل الجميع. هي بحاجة لأن تكون هذه المساحات ليست فقط حكراً عليها، بل أداة لإظهار موقعها الاقتصادي السياسي، أداة لتجديد إعلانها كالطبقة المهيمنة في المجتمع.
لذلك، أصبحت اليوم إمكانية الوصول إلى الشاطئ في هذه المنطقة أو تلك ترفاً وامتيازاً باهى به الأفراد، ويستخدمونه كدالٍّ على موقعهم الطبقي، بدلاً من أن تكون حقاً للناس، للـ"شعب" باختلاف هوياته وطبقاته.
مقابل هذا الإقصاء الطبقي الذي تطلبه البرجوازية، ظهر مفهوم "العدالة المكانية" الذي طوّره إدوارد سوجا- وهو بحسب قول سوجا، جزء من رؤية المعركة من أجل العدالة الاجتماعية "كمعركة حول الجغرافيا" أيضاً - في حديثه عن تمظهر الظلم السياسي والاجتماعي في المكان، وذلك من خلال السياسات التقشفية و"عمليات إعادة البناء التي وجّهت تخطيط المدن الكبيرة في الأربعين سنة الاخيرة". وهو يخصّ بالتحديد، التمدّد العمراني الجديد الذي "يشهد لا مساواة اقتصادية وقطبية اجتماعية متزايدة". و"تتضمّن العدالة الاجتماعية التوزيع العادل والمحقّ في المكان، لموارد ذات قيمة اجتماعية، ولإمكانية استخدامها" ، أي أنّنا نطرح من خلال هذا المفهوم ليس فقط "ما هو عدد المرافق العامة؟" بل "أين تتمركز هذه المرافق؟ ومن يستطيع استخدامها؟"، يمكننا عندها أن نرى أين تتوزّع المستشفيات والمدارس والجامعات ومن يستطيع الحصول على خدماتها، ومن المحرومون منها. بالطريقة ذاتها، يمكننا أن نرى بأن الشاطئ اللبناني الذي يمتدّ على الجهة الأطول من الحدود، ممنوع استخدامه على العامّة على امتداد مساحات كبيرة. من جهة أخرى، فإن طرح مفهوم العدالة المكانية بما تحويه من مقاربة للـ"مكان" كساحة صراع طبقي، إعادة طرح استخدام المساحة العامة كحق للطبقة العاملة والمهمشة في لبنان. بمعنى أن هذه الطبقة اليوم غير قادرة حتى على تخيّل حقها في استخدام المساحة العامة، وهذا نتيجة لوصم المساحة العامة واعتبارها أصلاً مساحة مهملة. في مفهوم العدالة المكانية إذاً احتمال لتصويب الصراع حول المكان، حول المساحة العامة، كحق مسلوب.
لنعود إلى السؤال الذي طرحناه في بداية النقاش: "مَن المستفيد من قضم الشاطئ وخصخصته؟"، بينما نزيد أسئلة أخرى: "من المتضرّر من قضم الشاطئ وخصخصته؟ من المقصيّ عن كتابة السياسات الحضرية في الدولة؟" من الضروري الخوض في هذه الأسئلة، لأن علاقات السلطة والقوة التي تحكم السياسات الحضرية وقوانين الأملاك العامة وغيرها، هي التي تملي توجّهات الدولة في موقفها من الأملاك العامة. وما يشهده لبنان بالنسبة لهذه الأملاك، أكبر مثال على تغوّل الطبقة المهيمنة. هنا، الشاطئ ليس للجميع، لأن فائض القيمة ليس للجميع.

1. Rancière, Jacques. "The politics of literature." SubStance 33.1 (2004): 10-24.
“Politics is first of all a way of framing, among sensory data, a specific sphere of experience. It is a partition of the sensible, of the visible and the sayable, which allows (or does not allow) some specific data to appear; which allows or does not allow some specific subjects to designate them and speak about them.”
2. Castells, Manuel. "City, class and power." City, class and power. Palgrave, London, 1978. 167-173.
"The city and its problems appear to have increasing importance in the practice of power.”
3. Castells, Manuel. "City, class and power." City, class and power. Palgrave, London, 1978. 167-173.
4. Low, Setha, and Neil Smith, eds. The politics of public space. Routledge, 2013.
5. Lefebvre, Henri. State, space, world: Selected essays. U of Minnesota Press, 2009.
“Capitalism and neo-capitalism have produced an abstract space that is a reflection of the world of business on both a national and international level, as well as the power of money and the politique of the state. This abstract space depends on vast networks of banks, businesses, and great centers of production. There also is the spatial intervention of highways, airports, and information networks. In this space, the cradle of accumulation, the place of richness, the subject of history, the center of historical space-in other words, the city-has exploded.
Space as a whole enters into the modernized mode of capitalist production: it is utilized to produce surplus value. The ground, the underground, the air, and even the light enter into both the productive forces and the products. The urban fabric, with its multiple networks of communication and exchange, is part of the means of production. The city and its various installations (ports, train stations, etc.) are part of capital.”
6. Soja, Edward W. Seeking spatial justice. Vol. 16. U of Minnesota Press, 2013.
7. Soja, Edward W. Seeking spatial justice. Vol. 16. U of Minnesota Press, 2013.
"As a starting point, this involves the fair and equitable distribution in space of socially valued resources and the opportunities to use them."