الأحد، كانون(۱)/ديسمبر 22، 2024

الاقتصاد لخدمة مَن... تلك هي المسألة

لبنان
"إن النظام المصرفي (بنكوقراط) هو الذي يهدّد بتدمير النظام الاجتماعي... ومع الاحترام لكل الأسئلة المتعلقة بالحرب ومفاوضات السلام، هذا ما يجب أن نناقشه هنا" ويليام فولارتون 1797 – عضو في البرلمان البريطاني

التهويل بالانهيار الاقتصادي من قبل الطبقة الحاكمة، أصبح دينها وديدنها، والواقع أن هذه التصريحات التي تستحق أن يقال عنها "شعبوية" لا تهدف إلا إلى تأبيد واستمرار النهج الاقتصادي القائم، ولكن هذه المرة عن طريق تكبيد الفاتورة الإضافية -لسياساتٍ استمرت ثلاثة عقود من الزمن- للّذين دأبت هذه السلطة على استغلالهم، بوصفهم الطرف الأضعف في المعادلة، علماً أنّهم الفئة الأوسع والأقل دخلاً.
بادئ ذي بدء، يجب أن يكون واضحاً أن سيناريو الانهيار قائمٌ، وهو ليس مجرد تهويل، ولكن ما الذي تفعله السلطة الحالية لتجنبه؟ عمليّاً لا شيء. السياسات جلّها تتجه لحماية أصحاب الثروات الريعية، علماً أن الماكينة الموحدة للطبقة الحاكمة، تعتمد على أربع طرق للترويج لسياساتها؛ الأولى تتمثل في الترويج لسياسات ستواجه سخطاً شعبيّاً، وهي ليست المقصودة، بل تهدف من ورائها إلى فرض قبول واسع بسياسات مختلفة (تبدو) أقل إيلاماً، وثانيها؛ الترويج لسياسات ضريبية تبدو غير مؤذية (كرفع الضريبة على القيمة المضافة 1 في المئة) والإيحاء أن هذا الرفع البسيط سيسهم بشكل هائل في تعزيز الوفورات المالية، لكن عمليّاً ستكون هذه الإجراءات مدخلاً لسياسات أكثر إيلاماً، وثالثها الترويج لكون السلطة الآن فقط، وهي الحاكمة خلال عقود ثلاثة، تتجه لتغيير بنيوي في علاقاتها الاقتصادية (تغيير في البنية الضريبية –مع أنها تتحدث عن المزيد من الضرائب غير المباشرة- ومكافحة الفساد وتكبيد جناة الأرباح الريعية جزء من الفاتورة) وهذا أيضاً ليس المقصود، ورابعها فرض تنازلات إضافية في مجال السيادة الاقتصادية عن طريق خطط لخصخصة ما تبقّى من القطاع العام، وهذا المسار مستمرٌ ولكنه وحده لن يكون كافياً، إذ أن منسوب هذه السياسات سيصل إلى مرافق أساسية، وسبق وأفصح رئيس الحكومة سعد الحريري عن رغبته الجارفة بخصخصة إدارة مطار بيروت لصالح شركة فرنسية (وبعده سيكون المرفأ والطرق).
السلطة ليست في وارد (فرض) أي سياسات تقلّل من حصّة أرباح الريوع، ولكن هذه الأرباح تتجه للانخفاض بشكلٍ واضح، والسبب يرجع إلى أن الهندسات المالية التي نفذها البنك المركزي كانت الطلقة الأخيرة التي يمتلكها النظام لتعزيز الوضع المالي لهؤلاء، فالدولة أصبحت عاجزة عن سداد فوائد الدين، وهو ما يعني أن المصارف المتضخمة ستعاني من شح في السيولة. ما الذي يفعله البنك المركزي في موازاة ذلك؟ من أصل 183 مليار دولار مودعة في المصارف، ثمة 134.4 مليار دولار تودعها البنوك لدى مصرف لبنان مقابل فوائد، و50.4 مليار دولار تسليفات للقطاع الخاص المحلي (شباط 2019)، علماً أن التسليفات تراجعت بواقع 2.98 مليار دولار عام 2017. وهذا التراجع يضيء بوضوح على أزمة المصارف التي يستوعبها البنك المركزي، حيث تدفع الفوائد للمودعين وتجنيها من عموم اللبنانيين عن طريق الضرائب!
المدخل الأساسي للمسألة الحاليّة يكمن في أن الاقتصاد يدار لصالح من؟ طوال عقود مضت، تمت إدارته لصالح أرباح المصارف والمضاربين العقاريين، وهذا بشكله الحالي غير قابل للاستمرار، لكن الطبقة الحاكمة تدفع باتّجاه استمراره ولو لأشهر قليلة.
الإصلاح هنا يحتاج إلى تغييرات جذرية وبنيوية لتجنّب الانهيار، ونعني بذلك أن العلاج يحتاج إلى تدفيع أصحاب الريوع ثمن الفاتورة، عن طريق إعادة صياغة كاملة لشكل العلاقات الاقتصادية القائمة، ومن هنا يكون المدخل لمكافحة الفساد، الذي يتغنّى به الجميع.
التغيير البنيوي الممكن والضروري الأول يكمن في تدفيع الثمن لمن راكم الأموال السهلة من فوائد الخزينة طوال ربع قرن –أي المصارف وحملة الأسهم- ضرائب استثنائية على الأرباح تصل إلى 50 في المئة، وهذا التحول يعني أن المصارف تصبح شريكة في تحمّل العبء الاجتماعي، وليس مجرد أدوات طفيلية لمراكمة الأموال، لأن المصارف تحصل على ما يصل إلى 80 في المئة من أموال الضرائب، وهي بمعظمها ضرائب غير مباشرة أي على الاستهلاك.
الخطوة الثانية الملحّة هي فرض ضرائب على الفوائد المصرفية ورفعها إلى 15 في المئة، وهذا يعني أنّ استفادة هؤلاء من الأموال العامة يجب أن يتم وضع حد لها، والخطوة الثالثة هي تشطير الضرائب على الدخل والأرباح الرأسمالية باتّجاه تصاعدي، لتصل إلى 30 في المئة على الشطور العليا، فلبنان في المراتب الأولى عالميّاً من حيث تركز الثروة بالمقارنة مع الدخل، إذ يحوز 1 في المئة من المقيمين على 40 في المئة من الثروة و25 في المئة من الدخل.
التحول هذا يضمن تغييراً أساسيّاً في البنية الضريبية، من شريحة واسعة من الضرائب غير المباشرة التي تطال عموم المستهلكين، إلى شرائح ضيّقة تطال أصحاب الثروات الفعلية، الذين لا خوف من هربهم من البلاد كما تدّعي جمعية المصارف لأن وجودهم بالأصل غير نافع إن لم نقل ضارّاً.
هذه الإجراءات الضريبية الأساسية، ينبغي أن ترفقها السلطة بإقفال مزاريب الصناديق، ووقف دعم التعليم الخاص المجاني الذي يكبد الموازنة أكلافاً ضخمة لو استخدمته لتحديث وزيادة عديد الأساتذة لحصلت نقلة نوعية في التعليم، بالإضافة إلى إلغاء المنح للموظفين والأساتذة في القطاع العام لتعليم أولادهم في القطاع الخاص، ووقف الإعفاءات الضريبية للأعمال وللريوع العقارية المحققة للأوقاف الدينية، ومراجعة بنية الأجور في وظائف الدرجتين الأولى والثانية في القطاع العام والمصالح المستقلة، ووضع سقف لتعويضات نهاية الخدمة لهذه الفئات.
هذه الإجراءات قادرة وحدها (بدون إملاءات سيدر ولا هلوسات ماكنزي) أن توفّر فوائض مالية لدى السلطة من دون الاقتراض، تُستغل في إصلاح قطاع الكهرباء الذي يكبّد الدولة 800 مليون دولار سنويّاً، بينما إجراء إصلاح شامل وبناء معامل جديدة ومد خطوط نقل على كامل الجغرافيا اللبنانية لا يكلّف أكثر من 4 مليارات دولار، فضلاً عن أن الوضع القائم يكبّد لبنان أكثر من 1.5 مليار دولار بالعملات الصعبة. أمّا إصلاح الكهرباء يوفّر على المواطنين أكثر من 2.5 مليار دولار سنويّاً، ويمنع خروج أموال دولاريّة بقيمة مليار دولار تقريباً، وهذا بحد ذاته مكسب اقتصادي يسهم في تعزيز القطاعات المنتجة.
هذه الخطوات (الضريبية والإدارية) تنقل بندقية السلطة من كتف الفاسدين والناهبين للمال العام وعلى رأسهم المصارف والمتربّحين من الريوع العقارية، إلى كتف المنتجين الزراعيين والصناعيين. التغيير البنيوي في الضريبة كافٍ لوحده أن ينعش الإنتاج، وليس على السلطة أن توهم نفسها وتوهمنا معها أنها تحتاج إلى خطط ودراسات لكي تنعش الزراعة والصناعة. وصلت الأمور فعليّاً إلى هذا السوء، وهي بهذه البساطة، ولكنها تحتاج إلى قرار. قرارٌ مفصلي هو في أن يكون الاقتصاد في خدمة من؟