الأربعاء، تشرين(۲)/نوفمبر 20، 2024

موقف الحزب الشيوعي اللبناني من خطة الحكومة الإقتصادية

  الحزب الشيوعي اللبناني
وثائق الحزب
أصدرت الحكومة برنامجها الذي وصفته بـ "الإنقاذي" وسعت إلى كسب التأييد له، مدّعية أنه أول وثيقة من نوعها تصارح اللبنانيين بشكل مباشر وشفّاف حول حقيقة الفجوة المالية التي يتوزّع المتسبّبون بها ما بين تحالف سلطة الرأسمال والقوى الطائفية والمصارف التجارية والبنك المركزي. إن الحزب الشيوعي اللبناني يعتبر، وبصرف النظر عن المواصفات الشخصية والأخلاقية للوزراء الجدد، أن هذه الحكومة التي جاءت من داخل المنظومة الحاكمة ومن دون صلاحيات استثنائية ــ بل تشريعية ــ تبقى في المطاف الأخير الإبنة الشرعية للنظام السياسي الطائفي القائم الذي يتحمّل مسؤولية الانهيار الاقتصادي والمالي غير المسبوق، والذي ينبغي أن يحتلّ تفكيكه صدارة الأولويات.

وبالنظر إلى أن هذا النظام، كنظام، لم يعد مؤهلاً ولا قادراً على تأمين الحدّ الأدنى من متطلبات الانتظام العام في البلاد، فإن الحزب الشيوعي يؤكّد أن السلطة السياسية الحاكمة والمتنفذة باتت مكشوفة بفسادها وعاجزة عن تجديد سلطتها، وهو يتمسّك بوجوب محاسبتها عبر تثوير الانتفاضة وتعبئة كل أطياف الحركة الشعبية وقوى الانتفاضة عبر أوسع ائتلاف سياسي وطني من أجل تغيير موازين القوى لفرض انتقال سلمي للسلطة وبناء الدولة العلمانية المدنية والديمقراطية التي تؤمّن مصالح الشعب وتحقّق تطلعاته المشروعة نحو التنمية الاقتصادية والعدالة الاجتماعية والتحرّر من الطائفية.
ومن هذا الموقع يؤكد الحزب الشيوعي على موقفه بإن الحلول للأزمة الاقتصادية – الاجتماعية هي في الأساس حلول سياسية تقضي بتغيير جذري في السياسات الاقتصادية – الاجتماعية التي أوصلت البلاد إلى الانهيار والتي تتحمّل هذه السلطة مسؤوليتها ولا بدّ من محاسبتها وتغييرها في المقام الأوّل.
وبالرغم من قناعة الحزب الشيوعي بأن الكثير من الوعود الواردة في خطة الحكومة لن ترى النور في ظل التركيبة الراهنة للسلطة وآليات إتخاذ القرار في هيئاتها السيادية ومجلسها النيابي، فانه سوف يسعي إلى التمييز النسبي بين كون هذه الحكومة مستنسخة من رحم النظام السياسي القائم من جهة، وبين الهجوم المركّز الذي تشنّه من جهة أخرى القوى اليمينية ورأس المال المالي والمصارف عليها والذي يحظى بدعم أطراف خارجية وبخاصة أميركية. ومع ضعف بل انعدام الأمل بتحقيق خروقات ايجابية وازنة على أيدي هذه الحكومة، فإن تمكّن هذه الأخيرة من إحداث خرق في ظرف معيّن في واحد أو أكثر من الملفّات الساخنة المعلنة في برنامجها (مواجهة لوبي المصارف ومصرف لبنان، الشروع في استرداد الأموال المنهوبة، تحقيق استقلالية القضاء، فتح ملفات الفساد...)، سوف ينظر إليه الحزب بصفته في الدرجة الأولى تعبيراً عن الثمرة والنتاج الطبيعي للانتفاضة الشعبية.

حول حل أزمة الاقتصاد الحقيقي
يرى الحزب الشيوعي أن الجانب المالي والمحاسباتي قد طغى على برنامج الحكومة الاقتصادي، مما جعل الحلول التي يقترحها تندرج أساساً ضمن إطار الحيّز المالي. وهذا ما يفسّر توجّه البرنامج، في مقدّماته الأولى، إلى طرفين أساسيين معنيين بصورة مباشرة بالجانب المالي، هما: صندوق النقد الدولي المعني بتوفير التسهيلات الخارجية المباشرة، والدائنون بالعملة الأجنبية الذين توقفت الدولة عن تسديد ديونهم – أصلاً وفائدة – منذ الثامن من شهر آذار الماضي. وكان حريّا بالبرنامج، بدل أن يغرق في "تمرينه الحسابي" المتعلّق بالجانب المالي، أن يضع في رأس سلم أولوياته معالجة الأسباب العميقة للركود الذي يعاني منه الاقتصاد الحقيقي منذ عام 2011، أي قبل الأزمة المالية الحالية وقبل جائحة الكورونا. وكان هذا الركود يتجلى في انحفاض معدّلات النمو وتفاقم العجوزات المالية والاختلال القياسي والمتراكم في الحسابات الخارجية وميزان المدفوعات، وذلك بالتزامن مع فقدان الوظائف وارتفاع معدّلات البطالة والفقر والخفض المتواصل للأجور. وكان حريّاً بهذا البرنامج أيضاً، بدل أن يأسر البلد في دائرة التقشّف، أن يستحدث خطة حكومية انفاقية تركّز على دعم أجور العمال في المؤسسات المتعثرة وفي القطاع غير النظامي (كما جاء في خطة الحزب الشيوعي للإنقاذ والصمود الشعبي)، وحماية القوّة الشرائية للأجور والحدّ الأدنى للأجور ومعاشات التقاعد في مواجهة التضخم الذي تقدّر الحكومة أن يصل إلى 53% في عام 2021، هذا بالإضافة إلى تدعيم وتطوير كل مقوّمات نظم الحماية الاجتماعية، بما فيها خصوصاً إقرار التغطية الصحية الشاملة والنهوض الفعلي بنوعية التعليم الرسمي.
إن الحزب الشيوعي يحذّر من أن سياسة التقشف التي تعتمدها الخطة مرشّحة لأن تزداد حدّة في حال الخضوع لشروط صندوق النقد الدولي، التي تدعو صراحة إلى زيادة الضرائب غير المباشرة ورفع الدعم عن المواد الأساسية وتسريح الموظفين المتعاقدين في القطاع العام وخفض العطاءات التقاعدية وغيرها من إجراءات، مما سيؤدي إلى تعميق الركود وزيادة البطالة والإفقار بحسب ما أكّدته تجارب العديد من الدول التي خضعت لبرامج الصندوق.
ويرى الحزب الشيوعي اللبناني أن خفض الدين العام ــ كما هو مطروح في الخطّة ــ من مستواه الحالي المقدّر بأكثر من 175% من الناتج المحلّي إلى نحو 103% منه عام 2020 (وهذا يعتبر من ضمن الإيجابيات النظرية للخطة)، وكذلك خفض الفوائد وبالتالي خدمة الدين العام التي تستأثر الآن بنحو 10% من الناتج المحلي، سيتيحا كما هو مفترض للحكومة القدرة على زيادة الإنفاق الاقتصادي المجدي والإنقاذي. غير أن البرنامج الحكومي تغاضى عن التوسّع في تناول هذه الأبعاد مركّزاً في الأساس على الجانب المحاسبي والمالي فقط. فالخطة لم تطرح "الاستفادة" من شطب الديون بطريقة اقتصادية أي عبر تحفيز تفعيل النمو الاقتصادي وتحرير عشرات الآلاف من المواطنين من أسر البطالة. والأثر الايجابي المتأتي عن وضع ديناميكية الدين العام على سكة الاستدامة ــ عبر الفوائد المتدنية ومعدلات النمو العالية ــ كان ينبغي أن يكون حافزاً للمزيد من النمو لا لمفاقمة التقشّف.
حول صندوق النقد الدولي
تطرح خطة الحكومة برنامج صندوق النقد الدولي كإنه الحل الوحيد لأزمة الاقتصاد اللبناني المتعددة الاوجه. والقول إن لا حل إلّا عن طريق العودة إلى صندوق النقد الدولي أمر مرفوض. فهذه العودة هي سياسية في الدرجة الأولى وترسّخ تبعية القرار السيادي اللبناني للقيمين على سياسات الصندوق الذي لن تكون شروطه لصالح لبنان بل ستكون خاضعة لمصالح خارجية. إن عدم التنازل أمام الانتفاضة والاستقواء بالخارج على الداخل للتهرب من المحاسبة لا يعنيان سوى التمسك باستمرار السياسات الاقتصادية والمالية القائمة على الاستدانة التي أوصلتنا إلى الانهيار. إن الحزب الشيوعي اللبناني يرى أن معضلة التعامل مع صندوق النقد الدولي ــ المعني أساسا بتوفير السيولة للبلدان التي تشكو من فقدان العملة الصعبة ومن خلل في ميزان مدفوعاتها (كما يحصل في لبنان اليوم) ــ تكمن في ميله نحو فرض وصفات جاهزة وشروط تعجيزية ومؤذية للاقتصاد اللبناني، كما للاقتصادات الأخرى حيث برزت آخر تجليات الهيمنة الأميركية على قراراته في احباط ادارة ترامب قيام الصندوق بخطة انقاذ عالمية لمواجهة نتائج جائحة كورونا. ويحذّر الحزب من أن تشمل الشروط السياسية غير المعلنة تحت ضغط الادارة الأميركية، تدخلات سافرة في شؤون لبنان الداخلية، وبخاصة في مسائل ترسيم الحدود الشرقية والحدود البحرية مع العدو الاسرائيلي والنزاع مع هذه الأخير حول "تداخل" البلوكات النفطية الجنوبية وممارسة الرقابة على السياسة المالية اللبنانية والمرافق العامة وغيرها من مسائل.
ومن الناحية المالية، تطالب الحكومة اللبنانية بتدفقات مالية من الخارج بقيمة عشرة مليارات دولار من الصندوق و11 مليار دولار من سيدر في شكل قروض خارجية، وهو يدعي حاجته إلى 28 مليار دولار كي يوقف البلد على قدميه ويتفادى الانهيار. وحتى لو كان لبنان بحاجة فعلا لتدفقات مالية بالعملة الصعبة من الخارج فان ذلك لا يجب أن يشكّل حجّة أو عذراً لتجاهل ما سبق للحزب أن طرحه في مشروعه الرامي إلى استرداد فروقات الفوائد التي دفعت على تسديد كلفة خدمة الدين العام والتي قدّرها الحزب بنحو 27 مليار دولار، يمكن تأمينها من الداخل وبنسبة معيّنة من الخارج (راجع المؤتمر الصحافي للأمين العام بتاريخ 15-4- 2020)، وباختصار إننا نرفض سياسات العودة للاستدانة بدون محاسبة الذين استدانوا وهم مستمرون في ذلك. وفي هذا الإطار، فإن تحرير القيود المفروضة على الرأسمال بدءاً من عام 2021 كما جاء في الخطة سيؤدي إلى هروب رؤوس الأموال المتأتية من الخارج كما حصل في الأرجنتين بعد برنامج الصندوق في عام 2018.
إن الحزب الشيوعي يرى أن هذه الحكومة هي أضعف من أن تتمكّن من التفاوض الندّي مع صندوق النقد حول شروطه، مع العلم أنها استبقت تضمين خطتها الكثير من الإجراءات التي يفرضها الصندوق في العادة، مثل الاعلان عن نيتّها زيادة الضريبة على البنزين ورفع الدعم عن السلع الأساسية والكهرباء واعتماد الخصخصة وخفض العطاءات التقاعدية وتجميد التوظيف في القطاع العام. والخوف كل الخوف أن تنطوي المفاوضات مع الصندوق عملياً على تنفيذ كل هذه الإجراءات السلبية، فيما يتم التغاضي أو التخلي عن الإجراءات القليلة ذات الطبيعة الإصلاحية كشطب الديون وإعادة هيكلة القطاع المصرفي وزيادة بعض الضرائب على الأرباح والريوع وإخضاعها لمعدّلات تصاعدية. ويرجّح أن تتعزّز هذه الاحتمالات السلبية مع لجوء تحالف القوى اليمينية ورأس المال المالي والمصارف إلى تنظيم هجوم مضاد ضد بعض هذه الإجراءات بذريعة الدفاع "عن الملكية الخاصة والفردية وحماية الهوية الاقتصادية للبنان".
ويذكّر الحزب أن تدخلات الصندوق غالباً ما أفضت إلى كوارث اقتصادية منذ ثمانينيات القرن الماضي وحتى الأزمة الأخيرة في أوروبا. فتجارب الصندوق مع الدول التي دخلت معه في برامج ليست مشجعة، بدءاً من برامجه في أميركا اللاتينية خلال الثمانينيات والتي أدت إلى نتائج اقتصادية واجتماعية سلبية بسبب فرض التقشف والضرائب على الاستهلاك ورفع الدعم عن المواد الأساسية. هذا من دون أن ننسى أن الصندوق كان على الدوام جزءاً لا يتجزأ من هجوم رأس المال على المستوى العالمي ضد دولة الرفاه الاجتماعي والتجارب الإشتراكية بمختلف أشكالها. وفي تجربته الأخيرة بعد الربيع العربي في كلّ من تونس ومصر وغيرها، جاءت برامج الصندوق ووصفاته الجاهزة لتعرقل متطلبات ترسيخ الديمقراطية، وأخفقت في تحفيز اقتصادات هذه الدول خلال المرحلة الانتقالية. ولذلك، إن ثمّة مخاوف كبيرة اليوم في لبنان من النتائج المحتملة لبرنامج الصندوق على أوضاع الطبقة العاملة والفئات المتوسطة. من هنا يرى الحزب الشيوعي أن لجوء الحكومة إلى صندوق النقد، بتأييد غير مشروط من جانب أطراف المنظومة الحاكمة غير المشاركة في الحكومة، سيجعلها تستسلم لشروطه بشكل يعرّض الأمن الاجتماعي ومصالح الطبقات الأقل دخلاً لمخاطر جمة في ظل الأعباء الكبيرة التي ستترتب عن ذلك.
وفي هذا الإطار، يدعو الحزب الشيوعي اللبناني إلى الاستفادة من تجربة البرتغال التي استطاعت بعد عام 2015 أن توقف تدهور الاقتصاد البرتغالي الناجم عن التقشف التي فرضته الترويكا (صندوق النقد، المفوضية الاوروبية، المصرف المركزي الاوروبي) بدءاً من 2011. وكانت البرتغال قد حصلت على 78 مليار دولار من صندوق النقد، ولكنها مع ذلك دخلت في أكبر ركود اقتصادي، مما يدحض مقولة أن القروض المالية من الصندوق هي بمثابة الحل السحري لكل المشكلات. وفقط عندما تصدّت السياسة الاقتصادية للتقشف إثر الاتفاقية الموقّعة بين الأحزاب اليسارية منذ 2015، تمكّنت البرتغال من استعادة نموّها الاقتصادي (باعتراف من صندوق النقد الدولي نفسه) وعمدت إلى زيادة الحد الأدنى للأجور وأوقفت تعديل النظم التقاعدية ومشاريع الخصخصة.
حول الصندوق المخصص لاسترداد الودائع
احتسبت الحكومة في خطتها أن الخسائر المالية التي ستطال القطاع المصرفي سوف تكون محكومة بثلاثة عوامل: شطب الديون العامة، وتعثّر سداد القروض من قبل المؤسسات والأفراد، والخسائر المتراكمة على مصرف لبنان، وقد بلغ المجموع الصافي لهذه الخسائر 154 تريليون ليرة لبنانية. وبما أن هذه الخسائر سيكون لها أثر على الودائع في المصارف، فقد اقترح برنامج الحكومة استحداث "الصندوق المخصص لاسترداد الودائع". وبموجب الخطة، سيستفيد هذا الصندوق من عائدات الأصول المملوكة من الدولة، ما يعني أنه سيكون غطاء لخصخصة القطاع العام ورهن عوائد مؤسسات هذا القطاع لمدة طويلة لصالح أصحاب الثروات المالية، بدلاً من استعمال هذه العوائد في الاستثمار الحكومي في الاقتصاد المنتج. ويرى الحزب الشيوعي أن هذا التوجه هو بمثابة تراجع عن "قصة الشعر" التي كان ينبغي أن تتركّز على كبار المودعين في المصارف، مما يزيد الضغط في اتجاه التصرّف بالأصول العامة وبيعها.
كما يعتبر الحزب الشيوعي إن استعمال الخطة لمفهوم "المودعين" يشكّل تجهيلاً لحقيقة أن المودعين ليسوا سواسية، إذ أن هناك أقلية نسبتها 1% من المودعين تمتلك أكثر من 50% من الودائع وقد راكمت ثرواتها عبر الفوائد المصطنعة المتحقّقة من الاستدانة العامة. لذلك يؤكد الحزب على ضرورة فرض ضريبة استثنائية تصاعدية على الثروة وتحديداً على الودائع التي تزيد عن نصف مليون دولار، ويرفض منطق توزيع الخسائر خاصة على الفئات الاجتماعية التي لم تحقق أصلاً أية مكتسبات من السياسات المالية والنقدية الريعية التي أتاحت للقلّة الاستئثار بالثروات خلال العقود الثلاثة الماضية، وهذه الفئة هي التي يجب أن تتحمل اليوم تكاليف الخسائر وأعباء الإنقاذ.
حول بناء الدولة العلمانية الديمقراطية لا تدمير الدولة
لقد طرح الحزب الشيوعي اللبناني منذ أكثر من سنة شعار لا إنقاذ من دون تغيير، حيث أثبتت كل التطورات والأحداث أن قوى المنظومة الحاكمة التي أوصلت البلاد إلى الانهيار هي أبعد ما يكون عن مسار التصحيح والإنقاذ. ولذلك استكمل الحزب طرحه بالدعوة إلى تشكيل حكومة إنقاذية من خارج المنظومة الحاكمة للقيام بالإنقاذ الاقتصادي وحماية الطبقات الاجتماعية الأقل دخلاً، وإطلاق عملية إصلاح سياسي تبدأ بإقرار قانون انتخابي خارج القيد الطائفي. وفي هذا الإطار يأتي تشديد الحزب على ضرورة بناء الدولة العلمانية الديمقراطية التي تقوم على تعاضد اللبنانيين وتضامنهم، وقد شهدنا مؤخراً نماذج عن هذا التضامن في عمليات إطفاء الحرائق وفي انتفاضة 17 أكتوبر، حين أثبت اللبنانيون أنهم ليسوا أفراداً انانيين، أو رعايا في دويلات مذهبية، بل يستطيعون فعلاً بناء دولة متقدمة وعصرية تضع الصالح العام فوق الانقسامات، وتعيد توزيع الثروة والدخل المتركزين الآن بأيدي القلة، وتصيغ أسس العدالة الاجتماعية في الصحة والتعليم وضمان البطالة ومكافحة الفقر وغيرها من مجالات التضامن الاجتماعي.
كما إن الحزب الشيوعي يرى أن الخصخصة تطرح دائماً في لبنان كحلّ سهل لمواجهة الأزمات المالية عبر بيع أصول الدولة، بينما هي لا تطرح كأداة ووسيلة "إصلاحية" هدفها زيادة كفاءة المرافق والمؤسسات العامة. إن هذه الأخيرة يمكنها أن تكون أكثر كفاءة في كنف القطاع العام لأن الأخير يستطيع أن يرسم سياسات قطاعية تُعَظّم الاستفادة الاقتصادية والرفاه الاجتماعي في آن، بينما القطاع الخاص يفشل في ذلك. وكمثال على ذلك، يطرح حزب العمال البريطاني اليوم تأميم ال broadband من أجل إيصال هذه التقنية ومنافعها كبنية تحتية اساسية إلى عموم الشعب البريطاني. بالتالي، لا مبررا اقتصاديا للخصخصة، كما أن تجربة تشيلي وغيرها في هذا الإطار ماثلة للدراسة.
وفي هذا الإطار أيضاً، يستمر البرنامج الحكومي في التعاطي مع عجز الكهرباء بطريقة محاسباتية ومالية بحتة، مع الاصرار على تحييد هذا الملف عن مجمل السياسات النقدية والمالية المتّبعة منذ عام 1992. هذا مع العلم أن العجز في الكهرباء يقابله فائض في الاتصالات يكاد يكون مساوياً له، أي أن ثمّة أسعارا متدنية هنا تقابلها أسعار عالية هناك. من هنا يرى الحزب الشيوعي أهمية أن تقوم الدولة بالاستثمار العام بدلاً من انتظار سيدر والمبادرة إلى وضع السياسات الاجتماعية كالتغطية الصحية الشاملة في سلم أولوياتها.

حول الضرائب
على الرغم من شمول خطة الحكومة بعض الإجراءات الضريبية الإيجابية في الشكل، إلّا أنها تبقى خجولة وغير كافية خصوصاً لناحية الحاجة في هذه المرحلة إلى استحداث ضريبة على الثروة. فالاقتصاد اللبناني بحاجة إلى استحداث نظام ضرائبي جديد يركّز العبء الضريبي أساساً على الثروات والأرباح والريوع، ويؤمن للدولة المداخيل التي تسمح لها بتمويل وظائفها الأساسية وخدماتها العامة، بدل التخلي عن هذه الوظائف لكبار الرأسماليين الذين يحتكرون معظم الأسواق أو يتهيّأون لقطف ثمار مشاريع الخصخصة او ما يسمى "الشراكة بين القطاع العام والقطاع الخاص"، التي تخفي مطامع الاستيلاء على الأملاك والأصول العامة التي ينبغي أن تبقى ملكيتها للشعب. وعلى الحكومة اللبنانية بالتالي أن تقوم بتعديل النظام الضرائبي الحالي باتجاه اعتماد الضريبة التصاعدية لتحقيق عدالة ضريبية أكبر وتوسيع الوعاء الضريبي. والمدماك الأساسي للنظام الضريبي الجديد يجب أن يتضمّن:
• رفع معدل الضريبة على شركات الأموال إلى 30%
• وضع ضريبة تصاعدية على الفوائد المصرفية بدءاً من 7% وصولاً إلى 20%
• وضع ضريبة 2% على الثروة الصافية للأفراد فوق المليون دولار
• تعديل ضريبة الانتقال بحيث تصبح ذات معدل مسطح واحد يبلغ 45% (مع شطر إعفاء يبلغ 1 مليون دولار، بما يعفي عملياً الاكثرية الساحقة من الفئات الاجتماعية المتوسطة وما دون المتوسطة خصوصاً في الأرياف من هذه الضريبة بخلاف ما هو قائم اليوم.
• فرض ضرائب على الربح العقاري وعلى مداخيل العاملين في الخارج وإخضاع الأوقاف العائدة للمؤسسات الدينية للضريبة وإلغاء الإعفاءات الضريبية لشركات الهولدينغ وشركة سوليدير وكذلك "الإعفاءات التأجيرية" الممنوحة للكثير من مستخدمي أملاك الدولة ووقف قنوات التهرب الضريبي عبر الشركات القابضة وغيرها.
إنّ هذا الإصلاح الضريبي لن يؤدي فقط إلى زيادة حصة الضرائب على الثروة والمداخيل العالية والأرباح، إنما أيضاً سيتيح تحصيل واردات متراكمة للدولة في السنوات العشر المقبلة بما يقدّر بعشرات المليارات من الدولارات التي يمكن استعمالها في الاستثمار في البنى التحتية وتحديث بنى الانتاج التي تشكو من التقادم أو الانهيار حالياً. إن هذا الاقتطاع الضريبي لن يكون له تأثير سلبي على الاقتصاد، كونه يتمّ على حساب الشطور العالية من المداخيل والثروة التي تتكدس أو تنفق على الاستهلاك الكمالي المستورد، وبالتالي فإن اقتطاعها ثم استخدامها في الاستثمار العام سيكون له تأثير مضاعف في تفعيل الاقتصاد وخلق فرص العمل ورفع الانتاجية بالإضافة إلى خفض الفائدة كنتيجة للخفض الاضافي في الدين العام، مما سيكون له أيضاً وقع إيجابي على الاستثمار الخاص.

حول الانتقال إلى الاقتصاد المنتج
إن الاقتصاد اللبناني أصبح اقتصاداً يعاني من الشلل على المستوى الإنتاجي. ولحل هذه المعضلة لا يمكن الاعتماد على "تحسين بيئة الأعمال" ولا على قوى السوق الحرة لأن هذه القوى نفسها هي التي تعيد انتاج الاقتصاد نفسه عاماً بعد عام من دون أي تغيير في بنيته. المطلوب اليوم إذا تدخل "أداة" من خارج الأسواق وذلك من أجل تحويل جزء من الفائض في الاقتصاد الذي يذهب اليوم إلى القطاعات المالية والخدماتية والتجارية ولتكديس الثروة لدى القلة، نحو إعادة بناء البنى التحتية من كهرباء وطرقات ومياه واتصالات بالإضافة إلى المحافظة على البيئة الطبيعية وإلى دعم القطاعات الإنتاجية وتحفيز الشركات المنتجة التي توظف المهارات العالية وخريجي الجامعات. هذا الأمر يجب أن يتم عبر سياسة صناعية حديثة تُمَوّل عبر "استغلال" القطاعات الريعية باستعمال النظام الضريبي ووضع ضرائب ذات معدلات عالية على المصارف والفوائد والريع العقاري وعلى مداخيل اللبنانيين في الخارج فضلاً عن استحداث ضرائب جديدة على الثروة كما على توريث الثروات الكبرى. في هذا الإطار، فإن الضريبة على الثروة ستساعد ليس فقط على زيادة "جرعات ذات مضمون اشتراكي" في الاقتصاد اللبناني وإنما ستساعد أيضا على تعزيز جرعات الابتكار. ففي الدول الرأسمالية المتقدمة أدى تركز الثروة إلى كبح جماح نمو الإنتاجية والابتكار، وبالتالي فإن المزيد من المساواة ستعني المزيد من الابتكار وزيادة الإنتاجية. إننا إذاً أمام الحاجة الماسّة إلى سياسات جديدة تعزز الاتجاه نحو بناء وتعبئة الفائض الاقتصادي وتوجيهه نحو تشييد بنية اقتصادية جديدة؛ وفي الوقت الذي يجري فيه هذا التحوّل، يتمّ التحضير بشكل بنيوي لمرحلة يمكن أن نطلق عليها مرحلة "تغيير البنية الاقتصادية" التي تلقى جانباً النموذج الاقتصادي القديم وتستبدله باقتصاد ديناميكي إنتاجي وعصري يؤسّس لتطوير القوى المنتجة بشكل كبير. أما البديل فهو البقاء في اقتصاد خدماتي وريعي يعيد انتاج نفسه سنة بعد سنة.

خلاصة
إن البرنامج الحكومي يكاد يغيّب أي مقاربة للمقومات الأساسية الكلّية للمسألة الاجتماعية، باستثناء ما يتعلّق ببرنامج مكافحة الفقر (البنك الدولي) وبعض الطروحات الانشائية العامة التي تتكرّر في كل البيانات الوزارية من دون أي التزام فعلي بتنفيذها. وينطوي هذا التغييب على مخاطر جمّة وغير مسبوقة، في وقت لم يخسر فيه عموم اللبنانيين ادخاراتهم وودائعهم المصرفية فقط، بل هم خسروا أيضاً أو على وشك أن يخسروا مصدر دخلهم من العمل بسبب تداعيات الانهيار الاقتصادي التي جاءت أزمة كورونا لتزيدها سوءاً على سوء. ويفتقد البرنامج الحكومي بشكل خاص إلى أيّ آليات محدّدة وملموسة ومزمّنة تتصل بكيفية حماية ديمومة العمل ونظام الأجر والحدّ الأدنى للأجور ومعاشات التقاعد وتعويضات نهاية الخدمة وتقديمات الضمان الاجتماعي ومشروع التغطية الصحية الشاملة ومكافحة الغلاء والتضخم والبطالة فضلا عن كبح جماح الهجرات الخارجية المتوقعة، في وقت يتهاوى فيه سعر صرف الليرة تجاه الدولار الأميركي يوما بعد يوم.
إنّ ظواهر الأزمة متعددة، ولكن جذورها العميقة تكمن في كونها أزمة مزدوجة: فشل الرأسمالية اللبنانية، وفشل النظام السياسي الطائفي. ومن أجل إنهاء هذه الأزمة المزدوجة، نحن بحاجة إلى تغيير سياسي واقتصادي جذري يؤدي إلى تفكيك النموذج الاقتصادي القديم وإلقائه جانبا وبناء اقتصاد ديناميكي عصري إنتاجي يخرج لبنان من أزماته البنيوية. ويشكّل قيام الدولة العلمانية الديمقراطية التي تنهي دولة المحاصصة المذهبية أولوية على المستوى الاقتصادي لفك الارتباط بين الرأسمال الريعي والدولة، كمل يشكل أولوية على المستوى السياسي والاجتماعي من أجل قيام دولة ديمقراطية تقدمية تضع لبنان على سكة التطور، والديمقراطية والتقدم.
بيروت في 12/5/2020
المكتب السياسي في الحزب الشيوعي اللبناني