الأحد، أيار 11، 2025

بدايات الانهيار وموجبات التغيير السياسي

 
منذ أن قرّر الحزب الشيوعي النزول إلى الشارع بشكل كثيف بدءاً من 16 كانون الأول 2018، حدّد لنفسه شعاراً أساسيّاً هو الآتي: " إلى الشارع في سبيل الإنقاذ" بمواجهة سياسات الانهيار. وتوالت بعد هذا التاريخ، وتحت هذا الشعار بالذات، سلسلة من التحركات والتظاهرات الشعبية غير المسبوقة على امتداد النصف الأول من عام 2019، بمبادرة من الحزب أو بمشاركة واسعة منه. وكان الحزب يدرك آنذاك الحاجة الماسّة إلى تجميع قوى الاعتراض الشعبي بتلاوينها المتنوّعة للضغط على النواة الأساسية للتحالف الحاكم من أجل فرض إجراءات إنقاذية ذات طابع استثنائي تتلافى سيناريو الانهيار، وتكون من حيث جدّيتها وشمولها في مستوى الخطورة الداهمة للأزمة التي يتحمّل مسؤوليتها هذا التحالف وسياساته الاقتصادية والمالية والنقدية. كما كان الحزب يدرك أن عامل الوقت بات يلعب دوراً حاسماً في تسريع سيناريو الانهيار أو في إبعاد شبحه في المدى المنظور على الأقل، مع ما لذلك من تأثير على المصالح الحيوية للمواطنين، وأن الضغط الشعبي يجب أن يتكثّف بالتالي للحؤول دون استمرار القوى الحاكمة في تجاهل أهمية هذا العامل والتلهّي في التجاذبات والخلافات الفوقية والزبائنية بين أطرافها كما حصل غير مرّة في ظلّ الحكومة الحالية والحكومات التي سبقتها. ولكن عشرة أشهر انقضت على بدء التحركات الشعبية تحت شعار "الانقاذ"، وليس هناك من طلائع لعملية "إنقاذ" إلا في تكرار التصريحات النمطية والجوفاء من قِبل قادة التحالف الحاكم وبياناته المضلِّلة!! ووسط عجز وفساد وتحاصص وعدم أهلية القوى المتنفّذة في السلطة، ازداد تدهور كل المؤشرات الاقتصادية والمالية الأساسية في هذه الفترة إلى حدّ بلوغها مشارف الخطوط الحمراء، في وقت كانت الحكومة قد تعهّدت أمام "الأسرة الدولية" في مؤتمر سيدر (آذار 2018) بالعمل على دفع هذه المؤشرات في اتجاه إيجابي معاكس. غير أن مجريات الأمور ذهبت منذ ربيع عام 2018 في اتجاه نقيض: معدلات النمو الاقتصادي باتت شبه معدومة (عام 2019)، لا بل حتّى سلبية، الأمر الذي دفع ويدفع تدهور الأحوال المعيشية ومعدلات البطالة والافقار نحو مستويات قياسية جديدة؛ النفقات العامة الجارية، أي غير المنتجة، حطّمت عام 2018 كل الأرقام السابقة وتسبّبت بأعلى نسبة عجز في تاريخ البلاد الحديث (11.5% من الناتج المحلي)، ولا يبدو أن ثمّة من يعمل أو يقدر فعلاُ – من داخل الحكم - على ضبطها بالرغم من الوعود الورديّة التي حملتها أرقام موازنة عام 2019 (على الورق)؛ حجم الدين العام المعلن والفعلي واصل منحاه الصاعد من دون أي ارتداد، مترافقاً مع ارتفاع معدلات الفائدة إلى مستويات غير مسبوقة منذ التسعينيات، مع ما يعنيه هذا الارتفاع من تبعات سلبية على تكاليف خدمة الدين العام التي باتت تقتطع أكثر من 35% من إجمالي الإنفاق العام؛ شبكات المرافق والخدمات العامة الأساسية، لا سيما قطاع الكهرباء، استمرّت عرضة للتردّي والإهمال والتعطيل، ارتباطاً بمصالح زبائنية مشبوهة تخصّ حلقة ضيّقة من داخل السلطة وخارجها، ممّا انعكس سلباً على فرص النهوض بالاقتصاد وعلى الأوضاع الاجتماعية عموماً؛ إلى غير ذلك من مؤشرات... ولكن الأخطر من كل ذلك، أن جميع حسابات لبنان مع الخارج – والتي بموجبها يتمكّن لبنان من الحصول على حاجته من الدولار أو لا يتمكّن– قد سجّلت مؤخّراً، بالتزامن مع تدهور الأوضاع الاقتصادية والمالية الداخلية، عجوزات مقلقة وغير مسبوقة: بدءاً من العجز التجاري حيث لم تعد الصادرات السلعية تغطّي أكثر من 15% من فاتورة الاستيراد، مروراً بعجز ميزان المدفوعات الذي تجاوز عتبة الخمسة مليارات دولار في النصف الأول من العام الحالي، وانتهاءً بعجز الحساب الجاري الذي بات يقترب من نحو ربع الناتج المحلي. وإذ فشلت الهندسات المالية في الحدّ من حجم العجوزات في الحسابات الخارجية، فإن هذه الأخيرة قد انعكست بشكل مباشر في حقلين أساسيين يشكّلان راهناً مصدر قلق رئيسي لعموم اللبنانيين: الأول، التراجع العام في قيمة احتياطي مصرف لبنان من العملات الأجنبية (لا سيّما الاحتياط القابل للاستخدام)، وهو الأمر الذي يضعف قدرة البنك المركزي على التدخل في سوق القطع دفاعاً عن سياسة التثبيت النقدي التي يتّبعها منذ أواسط التسعينيات، أي تثبيت سعر صرف الليرة تجاه الدولار الأميركي؛ والثاني، التقلّص النسبي في قاعدة الودائع المصرفية المتاحة لدى الجهاز المصرفي والتي كانت تتغذّى في ما مضى من قنوات أساسية تتدفق عبرها العملات الأجنبية إلى لبنان، ولكن هذه القنوات اتجهت في معظمها نحو حالة من الانقباض والشحّ الصريحين منذ عام 2011. والمقصود بهذه القنوات بالتحديد: صادرات لبنان من الخدمات (سياحة واصطياف وتعليم وصحة وخدمات مالية... إلخ)، وتدفقات "الاستثمارات الأجنبية المباشرة" التي يرسلها في الغالب الرعايا العرب لشراء موجودات عقارية في لبنان، وتدفقات القروض الأجنبية الميسّرة والأمانات الخليجية عبر مؤتمرات باريس و"شقيقاتها"، وتحويلات اللبنانيين العاملين في الخارج الذين تحوّلوا إلى "السلعة" شبه الوحيدة القابلة للتصدير بسبب تقويض سياسات الحكم لقطاعات الانتاج الأساسية. وفي المحصلة النهائية، فإن هذا التراجع النسبي في قاعدة الودائع المصرفية قد قلّص إلى حدّ كبير من قدرة الدولة على مواصلة الاستعانة بالقطاع المصرفي من دون حساب، كما كانت تفعل في السابق، لتأمين تمويل عجزها المالي المتزايد. ومع هذا الخلل بين العرض والطلب على العملة الأميركية في السوق المحلية، بدأ الشعور العام يتزايد سواء في الدولة أم في القطاع الخاص بأن البلد يتجه بثبات نحو الطريق المسدود الذي يفضي إلى الانهيار. إن مجمل هذه الوقائع والتطورات المؤثّرة كانت تتوالى ويتعاظم أثرها على مصير البلد فيما تواصل أطراف الحكم، وبخاصة المتنفّذة منها، انشغالها الأرعن بالتنافس المتبادل على تحاصص وتقاسم المصالح الزبائنية الخاصة والسطو على الملك العام بأشكال معلنة ومستترة، كتعويض عمّا خسرته مؤخّراً من الهبات والمساعدات التي يقدّمها الراعي الأجنبي. ووسط هذه المناكفات، تجد تلك الأطراف نفسها عاجزة في الظرف الراهن عن مواجهة ما يمكن وصفه بطلائع بدايات مرحلة الانهيار التي باتت مؤشراتها تبرز وتتعاضد من خلال: الشحّ في الكميات المتاحة من العملات الصعبة كنتيجة لانقباض القنوات الخارجية وتحوّل المودعين من الليرة إلى الدولار وخروج ودائع بالعملات الأجنبية إلى الخارج؛ نشوء أزمة سعر صرف الدولار في بلد تصل نسبة الدولرة في اقتصاده إلى نحو70%، مع قيام سوقين للدولار أحدهما رسمي (مصرف لبنان) والثاني موازي (مكاتب الصيرفة) مع توقع ازدياد فوارق الأسعار بين هذين السوقين بالرغم من الاجراءات التي اتخذها مصرف لبنان حديثاً لتأمين استقرار أسعار المحروقات والدواء والطحين؛ تعاقب التلويح بالاضرابات في القطاعات المعنية باستيراد السلع من الخارج بالدولار وبيعها في الأسواق المحلية بالليرة اللبنانية؛ ارتفاع التوقعات بانعكاس أزمة سعر صرف الليرة زيادة في معدلات التضخم وعموم أسعار الاستهلاك في البلد كلما اتسعت الهوامش بين السوقين الرسمي والموازي للدولار تجاه الليرة اللبنانية؛ تعاظم المخاطر المحدقة بمصير الاحتياط المتراكم في فرع نهاية الخدمة في الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي وفي مجمل نظم التقاعد العامة وشبه العامة الأخرى؛ هذا بالطبع إلى جانب ازدياد تأثيرات القيود والضغوط والعقوبات التي تمارسها الإدارة الأميركية على لبنان تحت حجّة التضييق على مصادر تمويل حزب الله، مع الإشارة إلى تزامن هذه الضغوط مع تهديدات وكالات التصنيف الدولية ومع الاملاءات الصادرة عن الدول المعنية بمتابعة تنفيذ مقررات مؤتمر سيدر، وعلى رأسها الدولة الفرنسية. لقد كان الحزب الشيوعي أوّل وأكثر من شخّص وحلّل وحذّر من التداعيات الاقتصادية والمالية والاجتماعية الخطيرة التي يقود إليها التلازم الفجّ بين عجز المالية العامة والعجوزات الخارجية، محمّلاً تحالف القوى الحاكمة مسؤوليّة التفاقم الاستثنائي في حدّة الأزمة، مع إدراكه أنّ جذور هذه الأخيرة ليست طارئة بل تعود إلى ترسّخ النمط الاقتصادي التبعي الريعي الذي أُرسيَت قواعده بعد الحرب الأهليّة. والحزب لم يكتفِ بالتحليل والتشخيص وعقد المؤتمرات الصحافية والندوات فقط، بل بادر إلى التحرّك في الشارع ونظّم مع أطياف من الحراك الشعبي والمدني العديد من التظاهرات والتحركات الجماهيرية الحاشدة لهذا الغرض. ويعلن الحزب في هذا الإطار وبصوت عالٍ عن اتجاهه لتصعيد تحرّكه الشعبي في مواكبة انتقال الأزمة إلى مرحلة بدايات الانهيار وتحوّلها التدريجي إلى أزمة شبه عامة، حيث لا تعود المعالجات الانقاذية المبعثرة والموضعية كافية لإبعاد سيناريو الانهيار. وشعار الحزب في هذا التحرّك لن يكون كالذي سبقه – أي " إلى الشارع في سبيل الإنقاذ" - بل سيكون " إلى الشارع من أجل تغيير قواعد التمثيل السياسي" وبالتالي تغيير النظام السياسي الطائفي الذي شكّل ويشكّل المصدر الأول لإنتاج الأزمات.  

أية خطة مواجهة، ولأية أهداف؟

 
يعيش لبنان أزمة خطيرة على المستوى المالي والنقدي لم يسبق أن وصل إليها من قبل، نتيجة بنية نظامنا السياسي وتبعيته، واقتصاده الريعي وارتهان أطرافه السلطوية لقوى الرأسمال المعولم وسياساته. يكفي القول أن ديون الدولة وصلت إلى مئة مليار دولار، والبنك المركزي لم يعُد قادراً كما في السابق على التحكّم بسعر صرف الليرة اللبنانية، والمصارف عاجزة عن الاستمرار في إقراض الدولة بما تحتاجه لشراء مستورداتها بالدولار الأميركي كما درجت العادة منذ تسعينيات القرن الماضي بعد أن تراجع نمو ودائعها بالدولار الأميركي من نسبة (13– 14) % إلى حدود (3 - 4) %. عند هذه المحطة، دخلت البلاد بدايات الانهيار المالي والنقدي وهو ما كنّا نحذّر منه على مدى سنوات وسنوات والذي تتحمّل مسؤوليتة السلطة السياسية عبر حكوماتها ومجالسها النيابية المتعاقبة.اليوم تعترف هذه السلطة السياسية بالأزمة لكنها لا تزال تتمسك بنمط اقتصادها الريعي الذي أثبت فشله، فتستمر في سياساتها بتحميل أعبائها على الطبقة العاملة وعلى الشرائح الاجتماعية المتضرّرة، من خلال الاستمرار في سياسة الاستدانة وزيادة الفوائد وخدمة الدين العام وفرض الضرائب غير المباشرة على العمال وأصحاب الدخل المحدود وبخاصة الضريبة على القيمة المضافة ورفع فاتورة الكهرباء والمحروقات وبيع مؤسسات الدولة وخصخصتها، فضلاً عن تجميد الرواتب والأجور التي تتآكل قوتها الشرائية ويدفع تكاليفها كلّ من يتقاضى بالليرة اللبنانية من خلال فلتان الأسعار ورفع سعر الصرف للدولار الأميركي وإلغاء تغطية الدولة لنظام التقاعد عبر تحويله إلى نظام الرسملة القائم على الادخار في المصارف وضرب حقوق المتقاعدين والذي يترافق مع ضرب حقوق المستأجرين وتخفيض اعتمادات الخدمات الصحية والاستشفائية والتعليمية والتنموية وسوى ذلك. هكذا تمعن السلطة السياسية في تضليل اللبنانيين مدّعية أن هذه الإجراءات هي بنود إصلاحية بينما هي في حقيقة الأمر بنود مؤتمر سيدر المشتقة من بنود مؤتمرات باريس 1 و2 و3 والتي ساهمت في زيادة الدين العام من ملياري دولار في مستهلّ التسعينيات إلى 100 مليار دولار راهناً، وفي زيادة معدلات البطالة والهجرة والفقر وعدم المساواة.إنها بنود مطلوبة لقاء حفنة من الدولارات الموعودة من سيدر (12 مليار دولار على مدى عشر سنوات) من أجل شراء الوقت، التي لا حاجة لنا لها في ما لو تم اللجوء فقط إلى مكافحة التهرّب الضريبي الذي يؤمّن 12 مليار دولار للسنوات عينها. إن الاستمرار بتنفيذ إجراءات سيدر هو فعليّاً عملية تنفيذ لشروط البنك الدولي وصندوق النقد الدولي التي تشكّل الأذرع المالية والاقتصادية للامبريالية الأميركية، التي من خلالها تمارس الأخيرة ضغوطات السيطرة على السياسات الاقتصادية – الاجتماعية للدول، وما الموافقة عليها من قبل الحكومة اللبنانية إلّا خضوع لهذه الضغوط وارتهان لها وتعميق لتبعية نظامنا السياسي، فهذه الإجراءات ستزيد الدين العام وخدمته عبر القروض التي سيدفعها شعبنامن جهة، كما سيترتب عليه من جهة ثانية، تحمّل أعباء مالية إضافية جراء رفع الضريبة على القيمة المضافة وزيادة أسعار المحروقات ورفع فاتورة الكهرباء وترسيخ التعاقد الوظيفي وبيع المرافق العامة للدولة وخصخصتها بأبخس الأثمان، بما يخدم مصالح الاحتكارات ويمهّد الطريق أمام زيادة تعريفات هذه الخدمات. من هنا نعتبر أن مواجهة مقررات سيدر هي في آن معاً، مواجهة مباشرة للضغوط الأميركية، وهو ما يستوجب العمل على إسقاط بنودها الواردة في موازنة العام 2020، دفاعاً عن حقوق الطبقة العاملة وحقوق سائر الشرائح الاجتماعية التي يجري الانقضاض عليها وتصفيتها، وتحريراً لكلّ هذه الفئات المتضررة من نظام التبعية للرأسمال المعولم ومن السلطة السياسية المرتهنة له التي التزمت تنفيذ هذه البنود. لقد بدأت مواجهتنا للأزمة الاقتصادية – الاجتماعية، مع مبادرة الحزب بدعوته للتظاهر قبل تشكيل الحكومة في 16 كانون الأول من العام الماضي تحت شعار "إلى الشارع ".... للإنقاذ بمواجهة سياسات الانهيار، وتتالت خطوات التحرّك من اجل تغيير السياسات الاقتصادية – الاجتماعية والغاء إجراءات مؤتمر سيدر الواردة في موازنة العام 2019. وفي محصلة هذه المواجهة، تمكّنت التحركات الشعبية والنقابية من منع إقرار بعض هذه البنود ومن تخفيض قيمة ما تمّ إقراره منها، أما اليوم ومع استمرار السلطة السياسية في هجمتها والتنصّل في تحمّل مسؤولياتها بدون أي تغيير في سياساتها الاقتصادية والمالية، فهذا يعني أن كلّ البنود الإجرائية في مؤتمر سيدر التي لم تقرّ في موازنة العام 2019، ستعمد على إقرارها في موازنة العام 2020. أمام هذا الواقع وبعد أن دخلنا بدايات الانهيار، فإن استكمال المواجهة يستوجب تغيير شعارها باتجاه: "ان لا إنقاذ بدون تغيير، ولا تغيير بدون مواجهة هذه السلطة السياسية والعمل على إسقاطها".. فحلول الأزمة الاقتصادية – الاجتماعية هي حلول سياسية، والتغيير السياسي لن يصنعه هذا التحالف السلطوي الذي أوصلنا إلى ما نعيشه من خراب عظيم، إنما تصنعه القوى الاجتماعية المتضررة: عمالاً وأجراء ومزارعين ومتعطلين عن العمل ومياومين، وشباباً وطلاباً، ومستأجرين وسائقين وحرفيين، وسائر الفئات المهمّشة والمعرّضة للإقصاء، ومعهم الفئات الدنيا والمتوسطة من الموظفين والأساتذة والمعلمين والمتعاقدين والمتقاعدين. إن فرصة لبنان الوحيدة باتت تتجسّد اليوم في هذا التحدّي أي في انخراط جميع المتضرّرين في حركة شعبية تملأ الشوارع، بل تحتلها، وتكون محصّنة بإرادة صلبة وبعزم كفاحي يسمو على العصبيات المذهبية والطائفية الضيّقة.من هنا أهمية التجمّعات والاعتصامات والتظاهرات التي حصلت تحت وطأة الأزمة الاجتماعية في العديد من المناطق اللبنانية يومي الأحد الماضيين، والتي جاءت بفعل مبادرات شبابية وشعبية شاركنا بها بشكل أو بآخر، التي وإن تعدّدت شعاراتها والجهات التي حاولت الدخول إليها واستخدامها، لكنها لا تلغي حقيقتها الساطعة، باعتبارها تعبيراً صادقا وعفوياً عن معاناتها من حال الفقر والعوز الذي تعيشه، وإعلاناً واضحاً عن موقفها في تحميل السلطة السياسية مسؤوليتها السياسية عن تردّي أوضاعها المعيشية، والمشهد المخزي، أنه بدل أن تقوم السلطة السياسية بمحاكمة الفاسدين، تقوم بقمع المتظاهرين المطالبين بمحاكمة الفاسدين، الأمر الذي يدعونا إلى رفض وإدانة كلّ محاولات وإجراءات قمع الحريات العامة التي تقوم بها السلطة السياسية لمنع المواطنين من حرية التعبير والتظاهر رفضاً لسياسة إفقارهم وتهجيرهم والمس بكرامتهم وحرمانهم من لقمة عيشهم، فإلى استكمال المواجهة ضمن خطة تصعيدية متدرّجة بمختلف أشكال التحرك، وإلى إطلاق كلّ المبادرات السياسية والقطاعية والمناطقية، والمشاركة في كلّ النشاطات والتحركات الشعبية، ووضع القضية الاقتصادية – الاجتماعية في إطارها المطلوب كقضية سياسية تحت شعار سياسي واضح: "لا إنقاذ بدون تغيير، ولا تغيير بدون إسقاط السلطة السياسية"، مع ما يستتبع ذلك من مندرجات بناء الدولة الوطنية الديمقراطية: إقرار قانون انتخابات نيابية قائم على النسبية خارج القيد الطائفي والدائرة الانتخابية الواحدة وقانون وطني للأحزاب السياسية يلغي مقوّماتها الطائفية والمذهبية، وقانون موحّد للأحوال الشخصيّة ومحاربة الفساد السياسي، وسنّ التشريعات الضرورية لمكافحته بكلّ أوجهه، وملاحقة المرتكبين ومحاكمتهم وإصلاح القضاء وتدعيم استقلاليته، وإعادة بناء إدارات الدولة وأجهزتها ومؤسّساتها لتأمين احتياجات المواطن وحقوقه الأساسية في الحصول على الخدمات العامة بعيداً عن الاعتبارات الطائفية والمصلحية والزبائنية الضيّقة. وكذلك تصعيد المواجهة المباشرة على مستوى الأزمة المالية والنقدية نقابياً وشعبياً تحت شعار: استرجاع المال العام المنهوب ورفع السرية المصرفية عن كلّ الذين تولّوا مسؤولية الشأن العام وإسقاط بنود سيدر ومندرجاته في موازنة العام 2020، وتعديل النظام الضريبي بشكل تصاعدي ليطال أصحاب الثروات والريوع المصرفية والعقارية للحدّ من تركّز الثروة والدخل مع إلغاء الاعفاءات الضريبية لشركات الهولدينغ وشركة سوليدير وكذلك "الإعفاءات التأجيرية" الممنوحة للكثير من مستخدمي أملاك الدولة. وإلغاء صناديق الهدر والفساد والمحاصصة وحماية القوة الشرائية لليرة اللبنانية باعتماد السلم المتحرّك للأجور وزيادة الحدّ الأدنى للأجور، ودعم التحركات والمطالب النقابية المحقّة لكافة الشرائح الاجتماعية. فإلى توسيع دائرة المواجهة بكل الوسائل المتاحة كي تصبح القضية الاقتصادية – الاجتماعية من أولويات الحياة السياسية في لبنان ولنعمل معاً لتعبئة وتكتيل أوسع القوى الاجتماعية والشعبية المتضرّرة من الأزمة، وتأطيرها ضمن برنامج موحّد سياسي – اقتصادي واجتماعي واضح الأهداف، للتمكّن عبرها من خلق موازين قوى قادرة على فرض التغيير السياسي المطلوب، منطلقين مما توصّلنا إليه من خطوات على صعيد الحراك الشعبي، والذي ينبغي العمل على تطويره وتوسيعه مركزيّاً ومناطقيّاً وقطاعيّاً، وبالانفتاح على قوى أخرى من خارجه، انطلاقاً من تقييم التجربة السابقة، ومن عناوين برنامجية لا بدّ من بلورتها كي تشكّل قاعدة مشتركة للعمل في المرحلة المقبلة.

الدولة المتسوّلة، الفقراء المتسوّلون، ومشهد من فيلم أميركي

مدينة خيالية في الولايات المتحدة الأميركية، 1999 في المشهد النهائي لفيلم "فايت كلوب/ نادي القتال" (Fight Club,1999)، يدير لنا البطلان ظهرهما ويستمتعان بالمنظر، بينما نشاهد معهما من خلف الألواح الزجاجية لإحدى ناطحات السحاب، تفجير البنايات وتساقطها الواحدة تلو الأخرى في ظلّ تصاعد إيقاع الموسيقى. لم تكن هذه المباني عادية، بل هي المباني التي تُحفظ فيها سجلّات بطاقات الائتمان، فجّرها أعضاء العصابة لـ "محو الدّيْن"، كما تقول الشخصية الرئيسية. لم يكن للبطل حلّ آخر لمعالجة ما يعيشه هو وما يعيشه الناس من حوله، ذلك الفرد الوحيد في مطحنة الماكينة اليومية لرأس المال، العاطل عن العمل، المستهلِك المكبوت الذي لا يجد هدفاً لحياته فيحاول بشتى الأشكال الخروج من النظام. بيروت، 2019يدور رئيس الحكومة اللبنانية سعد الحريري في الفترة القادمة على عدّة عواصم، مادّاً يده لأمراء وملوك ورؤساء العالم، علّهم ينقذونه وينقذون النظام الذي دعموا نموّه.نقول "ينقذونه ونظامه"، لا "ينقذون الناس"، لا "ينقذون الشعب المحترق بنار الديْن"، لأن الودائع التي يأمل الحصول عليها تسعى إلى تأبيد حكم الطبقة الحاكمة التي تجد نفسها اليوم في أزمة موت البقرة التي اعتادت حلبها لسنين طويلة.رئيس الحكومة "يشحذ علينا"، وسندفع نحن القروض والفوائد التي ستنعش مؤسسات الطبقة الحاكمة وجيوبها. شوارع بيروت الحقيقية، 2019حين قرّرنا تصميم غلاف هذا العدد، وجدنا بأنه من الضروري أن تكون فكرة التسوّل في أساس الغلاف. لكن ما في الصورة مختلفٌ كل الاختلاف عن تسوّل سعد الحريري. ما في الصورة واقعٌ أصبحنا نراه في شوارعنا أكثر فأكثر، من أطفال وعائلات بكاملها أو عجائز فقدوا كل أملهم ببيت أو عمل. هذا ما صنعه النظام بنا، هذا ليس خطأ فردي أو تقاعص عن العمل، كما يريدوننا أن نظنّ. في الواقع، أنتج النظام اللبناني نوعين من التسوّل، تسوّل الناس في شوارع المدينة والقرى والمناطق لأن الطبقة الحاكمة نهبتهم وأنهكتهم، وتسوّل رئيس حكومة وطاقمه السياسي لضخّ المال في جيوب النظام الذي بدأت غيبوبته تنبئ بموت قريب. تسوّلنا وتسوّلهم أضداد، صورة عكسية لضحية وجلّاد، إفلاس شعب ومؤسسات ودولة وإرهاق الطبقة العاملة بمستقبل غير معلوم، وانتكاسة مؤسساتهم لأن من كان يدرّ عليهم بالمال لم يبق له ما يسد الرمق. والضدان هذان لا يلتقيان، إلّا للمواجهة.فجّر تايلر دردن وعصابته في "فايت كلوب" المباني التي تحوي الديْن. فهل نرى نحن مباني الطبقة الحاكمة ومراكزها ومصالحها، وننقضّ عليها؟ 

عامٌ دراسي مأزوم... والوزير يجمع "القروش"

 
ها هو العام الدراسي يطلّ على اللبنانيين بأزماته المتعدّدة والمتكرّرة لينذرنا بتفاقمها عاماً بعد عام. فحال القضايا التربوية في لبنان ليس بمنأى عن أزمات البلد، إذ بات وضع القطاع التربوي مشابهاً لأوضاع كافة الملفات والقضايا الاقتصادية والاجتماعية الناتجة عن سياسات الحكومات المتعاقبة وغياب الخطط الإصلاحية والجديّة في محاربة الهدر والفساد والمحسوبيات.

تحديات الصين في عامها السبعين

 
قبل سبعين عاماً، كان المستعمر البريطاني يكتب على مداخل الحدائق العامة في مدينة شنغهاي التي كان يحتلها: "لا يدخلها الكلاب والصينيون".قبل سبعين عاماً، ومن على شرفة أحد قصور المدينة التي كانت محرمة على الشعب، والمطلة على ساحة تيان آن مين في بكين، أعلن الزعيم ماو تسي تونغ تأسيس جمهورية الصين الشعبية، قائلاً "من أجل تحقيق حلم عظيم، يجب خوض نضال عظيم".