الأربعاء، كانون(۱)/ديسمبر 25، 2024

الصين والعولمة والحرب التكنولوجية

عربي دولي
استعرَتْ في الأشهر الأخيرة الهجمة الأميركية على جمهورية الصين الشعبية، وفق ما سُمّي بالحرب التجارية وهي في الواقع حربٌ تكنولوجيّة ذات أبعادٍ سياسية لأنّ لبّ الصراع على المستقبل يكمنُ اليوم في ريادة التفوق التكنولوجي في مجالات الاتصالات والذكاء الاصطناعي والعلوم التطبيقية. وقد لاحظ الأميركيون أنّ الصينيين، وخلافاً لتوقّعاتهم، قد بدأوا بالفعل بالتفوق في مجالات مستقبلية متعدّدة، آخرها البدء بالتصنيع العملي لتقنيات الجيل الخامس من الاتصالات (5G)، فيما لا يزال الأميركيون في مرحلة الأبحاث فيه.

ولمعرفة تداعيات إدخال الجيل الخامس إلى سوق الاتصالات تكفي ملاحظة كيف تغير العالم الذي نعرفه بين مرحلة جيل الاتصالات الذي كان يحمل فقط المكالمات الصوتية قبل الانترنت والجيل الثالث الذي حمل معه الانترنت ونقل كميات كبيرة من المعلومات. اليوم يُبشّر الجيل الخامس بزيادة قدرة نقل المعلومات بحوالي ألف ضعف عمّا نعرفه اليوم، وهذا سيثوّر التكنولوجيا السائدة، فعدا عن زيادة سعات الاستهلاك وتهافت المستهلكين والدول لاستخدامه وما سيجنيه من أرباحٍ لمن يدخله أوّلاً، ستظهر تطبيقات من نوع جديد مثل السيارات والطائرات ذات القيادة الذاتية التي ليست ممكنة اليوم بسبب محدودية القدرة على نقل الاحداثيات والصور والمعلومات وارتفاع هامش الخطأ، وكذلك القدرة الصفرية على توجيه الصواريخ والأسلحة، ناهيك عن إطلاق العنان للذكاء الاصطناعي في تطبيقات واسعة وبعضها غير متخيلة حتى الآن، كما كانت أنظمة "أوبر" و"سكايب" و"واتساب" و"نيتفليكس" وأنظمة تحديد المواقع وغيرها، غير متخيّلة قبل دخول الجيل الثالث والرابع من تقنيات الاتصالات. اليوم يدخل الجيل الخامس، بإمضاء شركة "هواواي" الصينية الرائدة التي تخطت منافستها الأميركية "أبل" في مجال تصنيع الهواتف وتتقدم باضطراد نحو صدارة سوق الهواتف في العالم بهدف تخطي شركة "سامسونغ"، مع ما سيعنيه ذلك من ريادة صينية استثنائية لثورة الاتصالات الجديدة، وفتح باب المستقبل أمام التفوق الصيني لأوّل مرّة.
النيوليبرالية في مواجهة الحمائية
سادت منذ ثلاثة عقود، وبشكل واسع ومعمم ومعولم، السياسات النيوليبرالية القائمة على مبادئ حريّة الأسواق ورؤوس الأموال وكبح دور الدولة والقطاع العام في الاقتصاد مصلحة إطلاق العنان لجموح رأس المال في معركته الدائمة لتعزيز أرباحه ومراكمتها وتوسيع نطاق استغلاله على المستوى العالمي. وكان من الطبيعي أن تكون فكرة "العولمة" من مرتكزات النيوليبرالية، بعد أن صار رأس المال بحاجة إلى نشر عملية الإنتاج ومن ثمّ التصريف والاستهلاك على مستوى الكوكب بأسره، ودائماً بحسب مصلحته وحسابات ربحه. وكي لا نقع في ظواهر الأمور، لم تكن هذه العولمة شاملةً إذ اقتصرت على فتح الحدود وكسر الحواجز أمام حركة السلع (استيراد وتصدير وفتح الأسواق وإلغاء الحمائية الوطنية) وحركة رؤوس الأموال (الاستثمارات الخارجية والأسهم والبورصات وتحويل الأموال) لكنّها ظلّت مغلقةً وبشكل محكم أمام حركة الإنسان والعمال تحديداً، إذ زادت من الحدود الفاصلة أمام البشر وصعّبت الهجرة واجترحت القوانين التي تعيق هذه الحركة. هذا الموضوع ليس تفصيلاً عابراً، بل هو مقياس واضح حول من هم المستفيدون من هذا الشكل من أشكال العولمة، ولمصلحة من صيغَتْ اتفاقيات التجارة الحرة وقوانين منظمة التجارة العالمية وما تلاها من تطويعٍ لقوانين وأنظمة الدول كي تكون جزءاً من هذا المشروع. وضعت العولمة النيوليبرالية جلّ سياساتها لمصلحة روؤس الأموال وحركة التجارة وحرية انتقالهم أينما يريدون وفتح الأسواق أمامهم وضدّ مصالح العمال وحقوقهم ومكتسباتهم وحرية حركتهم وإغلاق الحدود أمامهم. ورغم النتائج الجانبية الإيجابية التي أتت مع العولمة لناحية الانفتاح الثقافي والفكري وإمكانية الوصول إلى المعلومات، إلّا أنّ هذه النتائج أتَتْ أساساً بفعل التطور التكنولوجي والعلمي الحاصل في مجال تقنيات الاتصالات والمعلومات وهي التي ساهمت في تعزيز العولمة كما نعرفها اليوم وليس العكس.
الصين التي اختارت لنفسها مساراً تطوريّاً أسمَتْه الاشتراكية ذات الخصائص الصينية، وضعت نفسها في قلب اللعبة، إذ دخلت إلى منظمة التجارة العالمية وكيّفت إنتاجها بما يتيح لها الدخول في ركب العولمة كما هي، وذلك في سياق خطّتها القائمة منذ عقود لاكتساب المعرفة العلمية والتقنية وجذب الاستثمارات ورؤوس الأموال بهدف إمساك زمام المبادرة وامتلاك المعرفة وتوطين رؤوس الأموال خاصة العاملة في الصناعة والتكنولوجيا. وهي في مسار تطورها امتلكت أوّلاً الصناعات الخفيفة ومن ثمّ الصناعات المتوسطة وصولاً في السنوات الماضية إلى أن تصبحَ مصنعَ العالم لكلّ ما يحتاجه من أجهزة الكترونية وكهربائية ووسائل نقل وحواسيب، بالإضافة إلى كل الصناعات الخفيفة من أثاثٍ وألعابٍ وأدواتٍ منزلية، حتى صارت الدولة الأكثر تصديراً في العالم. وحتّى هذه المرحلة لم يكن لدى رأس المال الغربي مشكلة حقيقيّة مع الصعود الصيني، فهذا الدور لا يتخطى الحدود المسموحة طالما بقيت الصناعات المتقدمة والتكنولوجية العالية في أيدي "وادي السيليكون" في كاليفورنيا وبعض المجمعات التكنولوجية في الولايات المتحدة وقسم من أوروبا الغربية. ففي النهاية، تحتاج كل قطعة الكترونية أو كهربائية لشرائح معينة تعتبر هي عقلها المشغّل سواءً في التلفونات أو في الكومبيوترات وباقي الأجهزة، وهذه تنتج هناك وليس في الصين، وتدفع الدول لقاء استخدامها أيضاً رسوم حقوق الملكية الفكرية التي بلغت مدفوعات الصين منها في العام الماضي حوالي 40 مليار دولار. وبالتالي يعود جزءٌ وازنٌ من عائدات كل ما ينتج في الصين وفي العالم إلى المراكز الرأسمالية بسبب ملكيّتها للتكنولوجيا تحديداً. كذذلك تتقدّم تلك الدول في مجالاتٍ أساسية مثل صناعة الطائرات المدنية والمفاعلات النووية والبرمجيات وأنظمة التشغيل وغيرها من القطاعات ذات الانتاجية العالية. ونظر العديد من سياسيّي الولايات المتحدة إلى الصين كمركز للتصنيع بيدٍ عاملةٍ رخيصة تتيح تعظيم الأرباح وشكّكوا في قدرتها على كسر الحاجز التكنولوجي من جهة، والطموح السياسي من جهةٍ أخرى. فالكثير من دول العالم سلكت تجربة التصنيع الواسع وصارت من الدول الصاعدة والغنية أحياناً من اليابان إلى كوريا الجنوبية وغيرها، لكنّها لم تشكّل أي تهديد لمكانة وقيادة رأس المال الأميركي على مستوى العالم، بل تحوّلت فعليّاً إلى قوى حليفة ومساعدة له. وبالتالي كان يمكن، في التقسيم الدولي للعمل، أن يكون للصين دورها الذي ترتضيه الولايات المتحدة، كمصنع جبّار يلبي حاجات رخيصة لأسواق الغرب الاستهلاكية الواسعة ويؤمن الأرباح لرؤوس أمواله ويشتري منه التكنولوجيا الثمينة ويكتفي بدورٍ إقليمي محدود في شرقي آسيا وراء الدور الأميركي والياباني.
طريق المستقبل
لكنّ الحزب الشيوعي الصيني كان يرسم طريقاً آخر للتطور، هي الاشتراكية ذات الخصائص الصينية التي ستحد من الفقر في الصين وتكاد تقضي عليه بحلول العام المقبل، وستجعل من الصين قوة دولية منافسة وذات تأثير عالمي بحلول العام 2035 وستحقق الاشتراكية في الصين في منتصف القرن كما تقول خطة الحزب الشيوعي في مؤتمره الأخير. لن يأتي ذلك على دروب من الورد، ولا حتى على دروب الشوك. سوف يعني ذلك احتدام الصراع بكلّ أشكاله لوقف مسار التقدم التاريخي للشعب الصيني، والصين تعي ذلك وإن كانت لا تقوله علناً. المرحلة الأولى من المواجهة بدأت اليوم، وعنوانها التغيير الحاصل في قيادة المنظومة الرأسمالية والانكفاء عن النيوليبرالية لمصلحة التيّارات المحافظة التقليدية التي يمثلها "ترامب" والعودة إلى الحمائية والحروب التجارية ووأد التجارة الحرة بعد أن استنفذت دورها التاريخي وبدأت بإفادة الخصوم. الصراع اليوم يأخذ شكله التجاري، بهدف منع الصين بالقوة عن تصدر قطاع التكنولوجيا. محاولاتٌ حثيثة تجري لضرب شركة هواواي ومعها الاقتصاد الصيني وكذلك لعرقلة مشروع الحزام وطريق الحرير الذي يهدف لربط مسارات وطرق التجارة من الصين عبر آسيا وصولاً إلى أوروبا، بهدف تأخير مسار التطور أو لجمه إذا أمكن.
الامبراطورية اليوم تخسر خيوط اللعبة وتدخل مرحلة التراجع وتجهد كي تمدّد فترة تفوقّها التكنولوجي والاقتصادي لبضعة سنوات إضافية. تشعر بالضيق وتأخذ خيار المواجهة التجارية فتفرض العقوبات على خصومها خبط عشواء، وتستخدم عملتها المهيمنة لمنع الدول عن التجارة الدولية، وتلجأ إلى البلطجة لجمع الأموال من الحلفاء قبل الخصوم، وليس غريباً أن تلجأ إلى الحروب حيث تستطيع، لكنّ كلّ هذه الضوضاء هي من علامات القهقرة، فالخصم، وفي طليعته الصين، له من الملاءة الاقتصادية والمالية والعسكرية والسياسية ما يكفي لمنع مشروع كبح مسار تطوّر التاريخ من الوصول إلى غاياته، ولعلّ النجاح في اختبار الإمساك بورقة التفوّق التكنولوجي خلال السنوات المقبلة وسط العقوبات والتهويل هو ما سيرسم سكّة قطار المستقبل.
*مسؤول العلاقات الخارجية في المكتب السياسي للحزب الشيوعي اللبناني