الأحد، تشرين(۲)/نوفمبر 24، 2024

الإدارة الأميركية: نحو الهجمة الشاملة

عربي دولي
الإدارة الأميركية اليوم بقيادة ترامب في عزّ هجمتها على شعوب العالم، من أمريكا اللاتينية إلى منطقتنا، وصولاً إلى الشرق الأقصى وأوروبا الشرقية، لكنّ هجمتها هذه ليست نتيجةٌ لصعودها، واستعادة قوى المركز الرأسمالي لريادتها الشاملة على العالم. بل تأتي هذه الهجمة في إطار المنحى التراجعي العام للنظام العالمي الأحادي القطب، وسط انسداد أفق التطور الرأسمالي، في محاولةٍ لمنع تقدّم التاريخ ووقف حالة التراجع مع كلّ ما تحمله هذه الوضعية من مخاطر نتيجة تهوّر القوى المتراجعة واستعدادها لفتح كل المعارك وفق سياسة الأرض المحروقة لتثبيت سيطرتها.

عاشت أميركا اللاتينية خلال العقدين الماضيين مرحلةً سياسيةً واقتصادية نامية، وذلك بفضل الاستقرار والتفاف الناس حول المشاريع الوطنية الاستقلالية، والسياسات التي عملت على إعادة توزيع الثروة على المجتمع. ولعلّ تجربة الثورة البوليفارية بقيادة الرئيس الراحل تشافيز، وتزامنها مع تحوّلات كبيرة في بوليفيا والاكوادور والبرازيل وغيرها، كانت أبرز تلك الثورات الوطنية. ولذلك، تركّز الادارة الأميركية منذ بضع سنوات جهودها الحثيثة لتقويض كل الإنجازات المحققة، حيث تسعى من خلال الحصار الاقتصادي والمالي كما من خلال افتعال المشاكل الداخلية، الى دفع فنزويلا نحو الحرب الاهلية لتقويض سلطة الرئيس مادورو، مستفيدةً من الفساد الداخلي في أوساط النظام ومن الحالة الاجتماعية السيئة الناتجة عنها وعن العقوبات الصارمة. والطريقة الاستعمارية التي تدير من خلالها الادارة الأميركية علاقاتها مع العالم واضحةٌ من أسلوب «تعيين» رئيس بديل للبلاد دون أي يكون قد ترشّح أصلاً للانتخابات الرئاسية، بما يشبه تاريخها القائم على صناعة الانقلابات العسكرية في القارة، لكن بثياب مدنية هذه المرّة. لكنّ طريق الانقلاب تبدو مسدودةً أمام الادارة الأميركية وحلفائها حيث يلتفّ الشعب الفنزويلي بكثافة حول نظامه ورئيسه، وبخاصة الفئات الفقيرة وسكان البلاد الأصليين. وإن كانت موازين القوى الإقليمية قد اختلفت بوصول اليمين الفاشي إلى حكم البرازيل، إلى جانب كولومبيا التي هي أداة الأمريكيين في المنقطة، إلّا أنّ موازين القوى الدولية الجديدة تتيح للقيادة الفنزويلية ظهيراً هاماً لاستكمال المواجهة. فروسيا والصين تنقضان أي قرار أممي ينتهك السيادة الفنزويلية وتبادران إلى طرح الحلول السياسية للأزمة، وتستمران الى جانب دول كبيرة مثل تركيا وإيران وغيرها بشراء النفط الفنزويلي رغم العقوبات الأميركية، ما يكسر قرار العزلة وتجويع الشعب الفنزويلي كما حصل سابقاً في العراق، ويتيح للقيادة الشرعية المنتخبة هامشاً واسعاً من المبادرة للحلول كما للمواجهة.
ولا شكّ أن تصريحات القيادة الأميركية على لسان الرئيس ترامب ونائبه مايك بنس، حول ضرورة اجتثاث الأنظمة الاشتراكية من النصف الغربي من الكرة الأرضية، وتحديداً كوبا ونيكاراغوا وفنزويلا، تعكس خوفاً مبطناً من قوّة انتشار الأفكار الاشتراكية على امتداد القارة، وصولاً إلى الولايات المتحدة نفسها التي بدأت تبرز فيها تيارات اشتراكية متنوعة بين الشباب وطلاب الجامعات والنساء والعمال والمهاجرين والملونين. ويكاد الرئيس الأميركي يقول في تصريحاته أن هناك شبحاً يحوم فوق القارة الأميركية جمعاء، وهو شبح الاشتراكية، كنتيجة لخوفه من وضعية بلاده وتراجع قدرتها على ضبط الأمور في العالم كما في القارة الأميركية!
وفي حين تستعمل الادارة الأميركية سطوتها السياسية والاقتصادية كما العسكرية في حديقتها الخلفية، تحاول أيضاً محاصرة خصومها الأقوياء عبر العقوبات والتعريفات الجمركية ومنع شركاتهم من العمل على أراضيها كما يحصل مع الصين وروسيا. إلّا أنّ خطواتها هذه تواجه عثرات كبيرة، إذ نجحت روسيا في التخلص من سنداتها المدولرة نحو احتياطات الذهب وتنويع الاحتياطي النقدي من العملات الأخرى، فيما تعمل الى جانب الصين - التي تعطي الأولوية اليوم لإمتلاك المعرفة العلمية والتكنولوجية العالية - ودول كبيرة أخرى على تكريس مبدأ التعامل بالعملات المحلية دون الدولار، في خطوةٍ تشير الى مشروع فعلي وواقعي على المدى البعيد لكسر الهيمنة النقدية الأميركية على العالم. ولعلّ هذا ما يثير المخاوف عند الولايات المتحدة التي صارت ترى أنها لن تستطيع إعادة عقارب الساعة الى الوراء.
أما في منطقتنا، فالخطة الأساسية هي لتصفية القضية الفلسطينية من خلال صفقة القرن التي تمضي فيها الإدارة الأميركية متسلحةً بدعم الأنظمة العربية التابعة والتي تطلق مساراً تطبيعياً مفضوحاً مع العدو الصهيوني بعد أن كان يجري سراً لعقود خلت. وبدأت تتكشف خطة ترامب التي تقدم للفلسطينيين أراضي حكم ذاتي مع إغراءات بالمال والاقتصاد، وذلك على أراضي غزة وجزء صغير من الضفة الغربية دون القدس والكتل الاستيطانية المتمددة في الضفة، ودون أي شكل من أشكال الدولة المستقلة، مع الاعتراف بحق العودة لمن ولد على أرض فلسطين من دون أولادهم وأحفادهم ما يغيّر من تعريف اللاجئ ويجعل عددهم المعترف به لا يتجاوز 60 ألفاً من أصل ملايين الفلسطينيين. وينطوي هذا المشروع على تراجع كبير حتى عن الاقتراحات السابقة المرفوضة بحل الدولتين، وصولا الى تصفية القضية الفلسطينية وإلغاء حق العودة وإزالة وجود الدولة الفلسطينية على الإطلاق عن وجه الكرة الأرضية!
وفيما تعلن السلطة الفلسطينية عن رفضها للمشروع، فان الخطوات المتخذة لمجابهته تبقى قاصرةً وضعيفةً من قبل فصائل منظمة التحرير كما من قبل حماس والجهاد، إذ تستمر حالة الانقسام السياسي بين غزة والضفة فيضيع القرار الوطني الفلسطيني ويصبح حجةً أمام الأنظمة العربية للتخلي عن القضية وتسليم شؤون إدارتها للقيادة الأميركية. إن مواجهة هذا المشروع التاريخي الخطير لا تكون إلّا بوحدة الشعب الفلسطيني وقواه وفصائله، على قاعدة المواجهة والمقاومة، لمنع وصول هذا المشروع التصفوي إلى غاياته. كما تقع مسؤولية كبرى على الدول والشعوب العربية في احتضان القضية الفلسطينية ومقاومة هذه الهجمة الأميركية المتجددة، لكن كل المؤشرات تدلّ عكس ذلك من خلال استمرار الانقسام الفلسطيني من جهة، وسير الأنظمة العربية في مسار التطبيع والخيانة من جهة أخرى.
فخلال الشهر الماضي اجتمع حلفاء الولايات المتحدة في مدينة وارسو في محاولة لتأسيس حلف وارسو جديد، ولكن من الموقع الأميركي، من أجل حشد الطاقات لمواجهة إيران. وقد جلس جنباً إلى جنب قادة دول الخليج وبعض الدول العربية الأخرى إلى جانب قادة العدو، ليعلنوا، دون تردد، تحالفهم واصطفافهم معاً، رغم أن مصير هذا التحالف هو الفشل في تغيير وجهة الصراع وتحييد فلسطين عن كونها القضية المركزية لشعوب منطقتنا، أما المؤتمر الثاني، فقد إنعقد في موسكو من أجل المصالحة الفلسطينية وصياغة ورقة مبادئ مشتركة بين كافة الفصائل داخل منظمة التحرير وخارجها، ولكن الاعتبارات الفئوية لطرفي الصراع وعدم رغبتهما مع حلفائهما بإنهاء الانقسام وتوحيد الموقف الوطني الفلسطيني، أفشل أعمال المؤتمر وأهدافه، إذ لم تتوصّل الفصائل الى اتفاق على مشروع الحد الأدنى من البرنامج، في مواجهة العدو المشترك وسياساته التوسعية والتصفوية. ومع هذا المسار الانقسامي والتراجعي في الصف الفلسطيني جاء مؤتمر الاتحاد البرلماني العربي في عمان لتمعن جهارا كل من مصر والسعودية والأمارات في الاستمرار بنهج التطبيع مع العدو الصهيوني.
لبنانياً، أقرت الحكومة بيانها الوزاري الذي تقوم فلسفته على ما نتج عن مؤتمر سيدر وخطة ماكينزي، إذ تؤكد في مقدمة البيان أنّها تعمل لتنفيذ البنود الواردة فيهما. وفي تفاصيل البيان تؤكد الحكومة على مشروعها القاضي بتحرير أسعار الكهرباء ورفع الضرائب، وضرب مكتسبات المتقاعدين وتعويضاتهم في القطاعين العام والخاص، وعلى تخفيض النفقات على حساب المواطنين في سياق هدفها لتقليص العجز في الخزينة بقيمة 1% من الناتج المحلي على مدى 5 سنوات، بما يصل الى أكثر من 3 مليار دولار سيدفعها اللبنانيون من جيوبهم اذا نجحت الحكومة في تمرير خططها. ومن الملفت ألّا يتضمّن البيان الوزاري أية إشارة إلى موضوع خدمة الدين العام وكيفية تقليص الدين، كما تغيب عنه أية ملاحظة حول خططها لتخفيض عجز ميزان المدفوعات وسط اتجاه معظم المؤشرات سلباً، حيث يلوح شبح الانهيار المالي في الأفق بالتزامن مع مؤشرات الانهيار الاقتصادي والاجتماعي والصحي والبيئي. إنّ هذه الحكومة هي حكومة رأس المال بقيادة رأس المال الريعي الذي لا يريد أن يتحمل حصته من المسؤولية الاجتماعية، ويعمل على تدفيعنا تكاليف الانهيار وزيادة حصته من الثروة. وأمام هذا الواقع، أطلقنا الحراك الشعبي للإنقاذ، الذي يتحضّر اليوم للمرحلة الثانية من المواجهة، لمنع الحكومة من سلب 3 مليار دولار من جيوب الطبقة العاملة والفئات الفقيرة والمتوسطة، مع سعينا الحثيث لبناء كتلة شعبية وازنة وجامعة تؤدّي الى تعديل موازين القوى والى فرض إصلاحات جذرية في بنية النظام الضريبي عبر استحداث رزمة من الضرائب التصاعدية التي تطال الريوع والأرباح والثروة.
واليوم تزداد الضغوط والتدخلات الأميركية السافرة على لبنان من زيارة ديفيد هيل وصولاً إلى زيارة ساترفيلد لنقل تعليمات الإدارة الأميركية للمسؤولين اللبنانيين تنفيذاً لشروطها السياسية في سياق مشروعها العام في المنطقة. وبين الزيارتين تسجّل الحكومة اللبنانية سابقة خطيرة والتفريط بسيادة لبنان ولا سيما عبر قبولها في مؤتمر سيدر بتعيين سفير فرنسي ينوب عن الرئيس ماكرون لمراقبة أعمال الحكومة والمجلس، ضمانا لتطبيق بنود مؤتمر سيدر ولتسريع فرض الضرائب والخصخصة، كشرط لإعطاء القروض الجديدة، حتى أصبح هذا السفير بمثابة مندوب سامي يعيد البلاد إلى مرحلة ما قبل الاستقلال، ويملي عليها سياساتها الوطنية. إنّ هذا الاعتداء الخطير على سيادة لبنان واستقلاله هو عمل مدان بشدّة، وتتحمل مسؤوليته كل القوى المنضوية في الحكومة التي تشرّع بلدنا أمام كل أنواع التدخلات الخارجية فهل يعقل أن يحلّ موظف فرنسي مكان مؤسسة الرئاسة في السهر على تطبيق الدستور والقوانين والأنظمة في لبنان؟