تيموثي ميتشل: "لا مصانع، لا مشاكل. منطق النيوليبرالية في مصر"
في مصر، نظر ذلك الخطاب إلى عقد التسعينيات على أنه عقد من النجاح الملحوظ وانتصار المبادئ النيوليبرالية. هبط التوازن المالي والنقدي بمعدل التضخم إلى أقل من 5%، وخفَّض من عجز ميزانية الحكومة، 15% من إجمالي الناتج المحلي، ليصل إلى 3%، وفي بعض السنوات وصل إلى أقل من 1%، وهي من بين أكثر النسب انخفاضاً في العالم. نما الاقتصاد ليتخطى 5% في السنة و وصلت نسبة القطاع الخاص، بعد إعادة الاعتبار إليه، إلى ثُلثي حجم الاستثمار المحلي. رُبط الجنيه المصري بالدولار الأمريكي، ودُعم باحتياطيات من العملات الصعبة بلغت 20 مليار دولار. شكلت تلك الإحصاءات المالية، ذُكرت مراراً في الجرائد الحكومية ومطبوعات صندوق النقد الدولي، التحول الملحوظ في الاقتصاد الكلي لمصر في العقد الأخير لهذا القرن (صندوق النقد الدولي 1997).
ولكن، بجانب تلك الصورة من السيطرة النقدية والتوازن المالي، وُجدت صورة أخرى مناقضة حيث التوسع غير المُخَطَط والأحلام غير المحدودة. المثال الأكثر درامية هي عاصمة مصر شديدة النمو. في حين تقلصت ميزانية الحكومة، توسعت القاهرة. تَعَد إعلانات أكثر مشاريع التطوير العقاري طموحاً، "بأول مدينة كهربائية في العالم" في "أرض الأحلام". دُعي المُشتَرين لحجز فيلات فخمة ذات ألياف بصرية سلكية، وحيث ستقوم مراكز التسوق، المنتزهات، دورات الغولف، وملاعب البولو في الصحراء، غرب أهرامات الجيزة - على بعد دقائق فقط عن وسط القاهرة بفضل الجسور والطرق الدائرية المقامة حديثاً. أو يستطيع المرء سلوك الطريق الدائري في الاتجاه المعاكس، شرق هضبة المقطم، إلى صحراء "القاهرة الجديدة"، حيث يُسَوق المضاربون الوحدات السكنية للعاملين في بلدان الخليج. "سجل الآن، واحصل على قيمة تفوق الخيال"، وتكمل، "قبل فوات الأوان". يستطيع المشتري الدفع حالاً (بدون مقدم) في وكالات في جدة ودبي. "لا مصانع، لا تلوث، لا مشاكل"، هو تعهد الإعلان، يتخلله شعار المطور العقاري، "مصر كما أتمناها" (الأهرام، 1 يناير 1999).
شكلت مناطق التطوير العقاري الممتدة في الحقول والصحاري المحيطة بالقاهرة الكبرى أكبر انفجار عقاري لم تشهد مصر مثله من قبل. في خلال النصف الثاني من التسعينيات، قد تتضاعف منطقة العاصمة. ولكن، بسبب التوسع غير المُخطط، لا توجد خرائط متاحة تؤكد ذلك.
على الجانب الآخر، ساهمت الحكومة في ذلك التوسع. في حين ضاعف المقاولون من حجم القاهرة، عرضت الحكومة مضاعفة وادي النيل. في أكتوبر 1996، أعلن الرئيس مبارك إحياء خطط من الخمسينيات لبناء وادي موازي، عن طريق ضخ المياه من بحيرة ناصر في الجنوب في قناة ضخمة تتجه للشمال بهدف ري 2 مليون هكتار من الصحراء الغربية (الوفد، 12 يناير 1999).
على الرغم من عدم اقتناع البنك الدولي أو المستثمرين التجاريين بجدوى مشروع توشكى، كما يُطلق عليه، استمرت الحكومة في بناء محطات ضخ المياه وحفر 70 كيلومتر من القناة1. ومنحت أول مائة ألف هكتار من المزارع المُستقبلية إلى ثاني أغنى رجل في العالم، الأمير السعودي الوليد بن طلال. قامت شركة صن ورلد (Sun World)،شركة تابعة للشركة الملكية للتنمية الزراعية، بإنشاء أكبر مزرعة في العالم، تستهلك بمفردها 1% من مياه النيل2. لن تمول شركة صن ورلد بناء المزرعة، وذلك لقيام امتيازاتها العالمية على أكثر من 50 من السلالات التجارية بتوفير المدفوعات المستقبلية على كل محصول من العنب، الخوخ، النخيل، والنكتارين (نوع من الخوخ) سيزرعه المصريون هناك3. ساهمت الحكومة المصرية بنسبة 20% من رأس مال المزرعة، وقررت إعفاء المشروع من الضريبة لمدة 20 عاماً. ولكنها لا تزال تبحث عن مستثمرين راغبين في تَلَقي دعمها4.
تطور الِملكِية المدينية.
دعمت الدولة المطورين العقاريين في نفس الوقت أيضاً، عن طريق بيع الأراضي العامة بأسعار رخيصة، وبناء الطرق السريعة والجسور النيلية في وقت قياسي. اشتركت الدولة أيضاً كمُطور عقاري رئيسي. يُعد الجيش المصري أكبر مقاول للأحياء الجديدة للقاهرة، أكبر حتى من مقاولي أرض الأحلام. بنى العسكريون ألاف الهكتارات من الشقق في المحيط الشرقي للمدينة لإنشاء جيوب جديدة من الضواحي للنخبة من العسكريين.
لو أن الدهشة هي أول ما يُصيب المرء إزاء حجم وسرعة تلك التطويرات، سُرعان ما يتساءل المرء عن التناقضات. يتحدث البنك الدولي ووزارة الاقتصاد بثقة عن التوازن المالي والنمو الاقتصادي المُستَدام، بدون ذِكر التوسع المحموم للعاصمة، أو المخططات الواسعة في الصحراء. لا يُذكر دور الدولة في دعم تلك الاستثمارات المضاربية. كان مُتوَقعاً أن يولد التكيف الهيكلي طفرة في التصدير وليس التشييد، أن تزدهر مصر ببيع الفاكهة والخضراوات لأوروبا ودول الخليج، وليس بإزالة حقولها لبناء الطرق الدائرية. استبدل قطاع العقارات الآن قطاع الزراعة كثالث أكبر قطاع غير مُنتج للبترول، بعد التصنيع والسياحة. قد يكون بالفعل أكبر قطاع غير مُنِتِج للبترول، مُنذ كون الاستثمار السياحي يذهب لبناء القرى السياحية ومنازل العطلات، أيّ شكل آخر من العقارات.
كان مُتَوقعاً اندماج مصر في السوق العالمية.ولكن النقيض قد حدث. هبط مؤشر الانفتاح، الذي يقيس نسبة صادرات وواردات السلع والخدمات إلى إجمالي الناتج القومي، من 88 بالمائة عام 1985 إلى 47 بالمائة عام 1996-1997. في نفس الفترة، انخفض إسهام مصر في الصادرات العالمية لأكثر من النصف. تقلصت الصادرات غير البترولية عام 1995-1996، ثم هبطت مجدداً في عام 1996-1997، ما جعل المنتجات البترولية تُسهم بنسبة 52% من عوائد التصدير. أصبح الموقف أكثر سوءاً بحلول عام 1998، حيث أجبر انهيار أسعار البترول مصر على إبطاء صادرات البترول. في عام 1998-1999 شرعت حكومة الولايات المتحدة في إعادة بناء منظمة الأوبك سراً، بإقامة مفاوضات سرية مع إيران والسعودية وفنزويلا قدمت فيها تنازلات سياسية مقابل وعود بخفض الإنتاج. نجحت المفاوضات، ما ضاعف من أسعار البترول مجدداً في غضون ستة أشهر. ولكن تلك الإدارة السرية للتجارة العالمية كانت شديدة البطئ لحل أزمة المدفوعات والانقطاع المتكرر للعملة الأجنبية.
الجدير بالذكر أن أكثر العناصر بروزاً في قصة النجاح المالي مصر - تثبيت قيمة العملة - راجع لقدرة الحكومة على عزل العملة المحلية ضد التدفق المضاربي للأموال الدولية. لم تكن النتيجة نزع الرقابة، ولكن درجة أعلى من الحماية ضد الأسواق الدولية، أي سوق العملة العالمي في تلك المرحلة. اعتمدت السياسة الحمائية على 18 مليار دولار أو أكثر من الاحتياطات المُعلنَة، تعبر تلك الإحصائية عن كامل قوة الاقتصاد. ولذلك لم تنوي الحكومة لإنفاق احتياطياتها للدفاع عن العملة. نتيجة ذلك، ومع تدهور الميزان التجاري عام 1998-1999، اضطرت الحكومة للجوء إلى سلسلة من الإجراءات البديلة الحاذقة لإعاقة تدفق الواردات، أي خروج العملة الصعبة، ما عزل مصر أكثر عن السوق العالمية5.
السياسات المالية "الحكيمة".
كيف يفسر المرء تلك التطورات المتعارضة مع التقارير الرسمية؟ يزعم الخطاب التقليدي أنه بحلول عام 1990 عانى الاقتصاد المصري من أزمة. لم يعد قادراً على دعم صناعات القطاع العام الخاسرة، عانى من عملة ذات قيمة مبالغة، إنفاق حكومي "مسرف"، طباعة تضخمية للعملة تغطية لعجز الميزانية، ومستويات فلكية من الدين الأجنبي. بعد 15 عاماً من التباطؤ والإصلاحات الجزئية، أُجبرت الحكومة عام 1990-1991 على تبني برنامج صندوق النقد الدولي والذي سمح لقيمة العملة بالانخفاض أمام الدولار، قلص ميزانية الحكومة، قلص من عرض المال، أوقف دعم شركات القطاع العام، وأعاد تنظيمها ضمن شركات قابضة تهيئة للبيع أو الإغلاق. طُبقت السياسات "الحكيمة" تلك بمعايير أشد مما طالب به صندوق النقد الدولي، ما حقق انخفاضاً في عجز الحكومة علق عليه صندوق النقد الدولي: "لم يسبق له مثيل في السنوات الأخيرة".
تُقر بعض التفسيرات أن الأزمة أكثر تعقيداً من مجرد دولة مسرفة بدأت حياة جديدة من الحكمة. قد تضيف، على سبيل المثال، أن من بين أكثر نفقات الحكومة هي مُشتريات الأسلحة، من الولايات المتحدة - كجزء من نظامها لدعم الدولة. التعثر الوشيك عن سداد تلك القروض، تسبب في وقف معونة الولايات المتحدة، ساهم في انهيار 1990 (بدأت مصر بالتعثر منذ بدايات الثمانينيات، ولكن الولايات المتحدة، بشكل غير رسمي، وجهت مواردها لسداد ديون مصر، حتى تناهى إلى أسماع الكونجرس ما حدث). لا تقتصر أسباب الأزمة على الدولة المسرفة، ولكن تتضمن أيضاً هبوط أسعار البترول عام 1985 - أكبر مصادر الدخل للحكومة - وفقدان التحويلات ومصادر الدخل الأخرى نتيجة حرب الخليج 1990-1991. أقنعت أزمة العراق الولايات المتحدة والمُقرضين في أوروبا والخليج بإسقاط نصف دين مصر الخارجي، من 53 مليار دولار عام 1988 إلى 28 مليار دولار. ما تم ادخاره من مدفوعات الفائدة، 15.5 مليار دولار بحلول 1996-1997، كان المسئول عن زيادة احتياطات العملة. بالتالي، كان القرار السياسي للولايات المتحدة وحلفائها، وليس النيوليبرالية، هو أكبر مساهم في انعطافة مصر المالية.
يأتي أيضاً جزء هام من دخل الحكومة من ريع الثروات العامة، وليس فقط من فرض الضرائب على الأنشطة الإنتاجية. يأتي ثُلث الريع من مصدرين فقط، شركة البترول العامة الحكومية وهيئة قناة السويس. تُدفع تلك الأرباح بالعملة الصعبة، لذلك تسبب تخفيض العملة المصرية للثلث في زيادة مقدارها 50% في قيمة الأرباح. ساهمت تلك الزيادة بالجزء الأكبر في نمو أرباح الحكومة خلال فترة التثبيت. مرة أخرى، لا توجد علاقة بين مبادئ السوق الحرة والألاعيب المالية تلك. في تلك الحالة يعود الفضل لملكية الدولة لتلك الموارد.
تقع خلف كل ذلك قضية أكثر تعقيداً، تميل الحسابات الرسمية لإخفائها في الهوامش. لم تكن أزمة 1990-1991 مجرد شركات حكومية خاسرة أو حكومة مسرفة. نبعت الأزمة أيضاً من القطاع الخاص والفوضى الناتجة عن نزع القيود المالية عن التدفق الدولي للأموال المضاربية. لم تقلص الإصلاحات المالية اللاحقة من دعم الدولة، كما يخبرنا الخطاب النيوليبرالي، ولكنها بالأحرى غيرت من يتلقون الدعم. مثلت الإصلاحات المسماة إصلاحات السوق الحرة في مصر إعادة تكييف سياسية بين الطبقات للريع، والدعم، والموارد.
أولاً، لم تكن القضية المحورية هي القطاع الحكومي الخاسر! ففي العام 1989-1990، عشية تنفيذ تلك الإصلاحات، وصل عدد الشركات الخاسرة من القطاع العام إلى 54 شركة فقط من أصل 314 شركة. في حين خسرت تلك الشركات 300 مليون جنيه (110 مليار دولار)، ربحت الشركات الأخرى، 260 شركة، 1.5 مليار جنيه (550 مليون دولار) بعد اقتطاع الضرائب6.
وقع القطاع المالي في قلب أزمة 1990-1991، وهو من دفع النظام البنكي إلى هاوية الإفلاس، وليست الصناعات الحكومية. منذ العام 1974 زاد عدد البنوك التجارية، من 7 بنوك إلى 98 بنكاً، لتمويل الاستثمارات والاستيراد الاستهلاكي لسنوات الطفرة البترولية. أقرضت البنوك الحكومية الأربعة الرئيسية في الغالب شركات القطاع العام. وقُدر لحوالي 30% من تلك القروض بعدم الكفاءة. ولكن اشتركت تلك البنوك الحكومية أيضاً مع البنوك الخاصة، ما مكنها من توجيه الموارد العامة صوب مجموعة صغيرة من رواد الأعمال الأغنياء وذوي النفوذ. تعثر أولئك الرواد أيضاً.
بحلول عام 1989، تعثرت 26% من القروض الاستثمارية والخاصة، انتمى أكثر من نصفها إلى 3% فقط من المُقترضين. استطاع العديد من كبار المقترضين إبطاء الاجراءات القانونية ضدهم، وهرب العديد منهم خارج البلاد تجنباً للمحاكمة. جاء أكبر تعثر في يوليو عام 1991، عندما انهار بنك الائتمان والتجارة الدولي. أُنقذ المُودعين بواسطة نظام تأمين غير رسمي بين البنوك المصرية، اضطرت تلك البنوك لمشاركة 0.5% من ودائعها وتحمل تكلفة قرض بدون فائدة مقداره مليار جنيه مصري تعويضاً عن الأموال المفقودة.
تعكس تلك الصعوبات مشكلة دولة أصبحت تدريجاً رهينة للمصالح الضيقة لطبقة من المصرفيين ورواد الأعمال ذوي الأفعال غير المسؤولة اجتماعياً7. لا يمكن فصل مشاكل الرأسمالية غير المقيدة، مع قدوم الأزمة المالية العالمية عام 1997-1999، (أفضل من مصطلح رأسمالية "المحاسيب" المتوافق مع صندوق البنك الدولي، والذي يشير إلى صراع إخضاع الرأسماليين، داخل وخارج الدولة، إلى القانون والنظام) عن المشاكل الناجمة عن الرأسمال المضاربي العالمي، خصوصاً تجارة العملة. بعد رفع الرقابة العالمية عن العملات عام 1980، كانت الولايات المتحدة وكندا في الصدارة، ارتفع دوران العملة الأجنبية من 82.5 مليار دولار إلى 270 مليار دولار عام 1986 و590 مليار دولار عام 1989 (بحلول عام 1995 وصلت إلى 1.230 تريليون دولار). سحق ذلك الانفجار الكارثي للمضاربة كل محاولات الحكومات لإدارة العملات المحلية وفقاً للاحتياجات المحلية للصناعة والصادرات.
في مصر، توازى نزع القيود المالية العالمية مع فورة في تحويلات العملة الأجنبية المُرسلة من العاملين في بُلدان الخليج. شُكلت أكثر من مائة شركة إدارة مالية غير منظمة لتحويل واستثمار تلك الأموال، ونما ومن بينهم 5 أو 6 شركات بشكل كبير. استثمرت الشركات الإسلامية تلك (سُميت هكذا لاستخدامهم وصف حصة من الأرباح بدلاً من الفائدة) بنجاح في سوق العملة العالمي، وانتقلت لاحقاً للسياحة المحلية، العقارات، التصنيع، تجارة السلع، ودفعوا عوائد فاقت معدلات التضخم. لم تستطع البنوك التجارية الحكومية والخاصة المنافسة، لالتزامها بمعدلات أعلى من الاحتياطي النقدي ومعدلات فائدة أقل (الضرورية لتمويل الحكومة للصناعة)، وعانت بشدة من نقص العملات الصعبة.تأزم النظام آئنذاك.
في عام 1988-1989 أقنع المصرفيون الحكومة أخيراً بالحد من نشاط شركات الاستثمار. مررت الحكومة قانوناً يوقف أعمالهم لمدة عام، ثم أُغلق من تعثر منهم (أو أُجبروا على ذلك)، وأُجبر الباقي على إعادة التنظيم كشركات مساهمة، وإيداع أصولهم السائلة في البنوك. حمى ذلك الإجراء البنوك وعملائها ذوي النفوذ، ولكنه تسبب في كساد مالي عام لم تستطلع البنوك أو العملة المحلية التعافي منه. كما أكد تقرير للأمم المتحدة عن الأزمة المالية لعام 1998-1999، أن أفضل مؤشر عن الأزمة الاقتصادية في بُلدان الجنوب ليست التنمية بقيادة الدولة، بل رفع القيود عن الأنشطة المالية.
كان إنقاذ البنوك هو حجر الزاوية في إصلاحات 1990-1991 رداً على الأزمة المالية. بعد السماح للعملة بالانخفاض، وإيقاف مشاريع الاستثمار العامة، حولت الحكومة مساعدات مالية للبنوك وصلت نسبتها إلى 5.5% من إجمالي الناتج القومي، في شكل سندات . للإلمام بحجم تلك المعونة، في الولايات المتحدة، وفي نفس تلك الفترة، أنقذت الحكومة قطاع الإقراض والمدخرات بتحويلات وصلت إلى حوالي 3% من إجمالي الناتج القومي على مدار 10 سنوات. بلغت خطة الانقاذ المصرية الضعف، نسبة إلى إجمالي الناتج القومي، وفي خلال سنة واحدة فقط. علاوة على ذلك، أعلنت الحكومة إعفاء دخل البنوك من الضرائب، وتقديم دعم مالي يصل إلى 10% من إجمالي الناتج القومي بحلول 1996-1997. في عام 1998 حاولت الحكومة إنهاء الدعم بفرض الضرائب على أرباح البنوك، ولكن أحبطت البنوك تطبيق ذلك القانون8. ارتفعت معدلات ربح البنوك، ووصلت العوائد إلى 20% أو أكثر على رأس المال. كل تلك الأرباح نتيجة دعم الحكومة.
قُدمت مساعدة أخرى للقطاع البنكي عندما قلصت الحكومة الائتمان لرفع معدلات الفائدة، دافعة إياها لتصل إلى 14% أعلى من مستويات السوق الدولية. جُلبت اسعار الفائدة غير السوقية من الخارج وسط فيضان من الرأسمال المضاربي. نُظر لهذا كمؤشر على على نجاح النظام النيوليبرالي وعقيدة السوق. كل هذا لا علاقة له بالحقيقة. تكون رأس المال ذلك من أموال غير مستقرة تبحث عن معدلات فائدة مجزية ليس بسبب "أسس السوق" ولكن بسبب تدخل الدولة. بعد سنتين خُفضت الفائدة وخبت تلك الطفرة الصغيرة.
خططت الحكومة عام 1996 لطفرة صغيرة أخرى، بإعلانها عن برنامج جريء للخصخصة. بدأت ببيع أسهم شركات حكومية في سوق أسهم القاهرة، والتي أعادت تنظيمه ليستبعد صغار المضاربين ويحد من الفائدة على الأرباح. بحلول يونيو عام 1997 وصلت إيرادات الحكومة من الخصخصة إلى 5.2 مليار جنيه (1.5 مليار دولار). واستخدمت 40% دخل الخصخصة لتقديم دعم إضافي للقطاع البنكي، لدفع ديونها المتعثرة. امتدح صندوق النقد الدولي في مايو عام 1998 برنامج الخصخصة المصري "الاستثنائي"، مُصنفاً إياه الرابع عالمياً (بعد المجر، ماليزيا، وجمهورية التشيك) من حيث نسبة إسهام الخصخصة في إجمالي الدخل القومي.
أتخم دخل الخصخصة البنوك وميزانية الحكومة، ومول طفرة قصيرة الأجل في سوق الأسهم. ولكن نتائجها لم تكن تحولاً من القطاع العام للخاص. بل كانت تكييفاً معقداً لعلاقات موجودة بالفعل بين بارونات القطاع العام وشركائهم من القطاع الخاص. بحلول 30 يونيو عام 1999، باعت الحكومة أسهماً في 124 شركة من أصل 314 شركة حكومية غير مالية، ولكنها تخلصت فقط من قلة قليلة. صُفيت 27 شركة وظلت الحكومة أكبر حامل للأسهم في العديد من الشركات الأخرى9. امتلأت الصحف بقصص الخصخصة المزيفة، مثل بيع شركة النصر للمسبوكات، المُباعة حقيقة إلى بنوك القطاع العام. بعد عام أجبر مسئولي الدولة رئيس بورصة تداول الأوراق المالية على الاستقالة بعد محاولته تحسين الرقابة المالية وتجارة الأسهم.
استمرت طفرة سوق الأسهم لأقل من 18 شهراً، مع صعود مؤشر كبرى الشركات في سبتمبر 1997 ثم خسارة ثلث قيمتها خلال 12 شهراً لاحقاً10. مع انخفاض سوق الأسهم أوقفت الحكومة البيع، أوقفت معظم عمليات الخصخصة بعد صيف عام 1998 وماطلت في تنفيذ مطلب صندوق النقد الدولي لخصخصة القطاع المالي. بدلاً من ذلك، ولكبح انهيار السوق، استخدمت الحكومة مؤسساتها المالية للاستثمار في الأموال العامة. بين ديسمبر 1997 وأكتوبر 1998 ضخت كبرى البنوك الحكومية والصناديق التقاعدية وشركات التأمين ما لا يقل عن 2 مليار جنيه (600 مليون دولار)، متكبدة خسائر فادحة. أثناء ذلك، حازت الدولة من جديد على معظم أسهم الشركات التي زعمت خصخصتها. تعافى السوق ببطئ في شتاء عام 1998، عندما ظهرت مصر، بنظامها البنكي المدعوم من جانب الدولة، كملاذ آمن للرأسمال المضاربي العالمي بعد الأزمة المالية في شرق أسيا، وروسيا، والبرازيل. ولكن بعد فبراير 1999، تم استئناف الأزمة من جديد. مع مقدم الصيف اللاحق ركد السوق بشدة لدرجة تركز أكثر من 50% من المعاملات اليومية في يد شركة واحدة، شركة موبينيل، وغالبا ما وصلت النسبة إلى 70%11.
تُركت معظم أنشطة سوق الأسهم المتبقية، والخصخصة، لقطاع التشييد - صناعة الأسمنت، قضبان التسليح، شركات المقاولة - مثل مشروع توشكى والمشاريع الضخمة الأخرى للدولة، والتي، بالترابط مع طفرة قطاع العقارات والسياحة، قدمت المصدر الوحيد ذو الأهمية للنمو الاقتصادي. زاد مشروع توشكى والمشاريع الأخرى من الطلب على الأسمنت بشدة لدرجة تسارع أكبر ثلاث منتجين للأسمنت في العالم، هولدر بانك بسويسرا، مجموعة لافارج الفرنسية، سيمكس المكسيكية، لشراء مصانع الأسمنت الحكومية12. عكس ذلك التسارع أيضاً إعادة تنظيم عالمية لصناعة الأسمنت. في العقد المنصرم لم توجد شركات عالمية للأسمنت. ولكن تقلص الأسواق القومية لتلك الشركات دفعتها للتوسع حول العالم، باتباع أثر الأزمات المالية ( استحواذات رخيصة)، أولاً في أمريكا اللاتينية، ثم شرق أسيا، والشرق الأوسط وأفريقيا في نهاية التسعينيات، حيث المناطق النامية سكانياً، (صناعة الأسمنت تزدهر ديموغرافياً) تبشر بنمو طويل الأجل.
حولت طفرة التشييد مصر إلى بلد مستورد للأسمنت. لذلك، يمكن تصنيف تلك الاستثمارات الأجنبية كرجوع لسياسات إحلال الواردات غير الرائجة. من مشاريع التصنيع الأخرى الرئيسية لعقد التسعينيات، والتي وُصفت بأنها مثال رائد للتصنيع الخاص المُعَد للتصدير (وأول شراكة صناعية مصرية إسرائيلية)، هي شركة تكرير بترول الشرق الأوسط (ميدور). اتضح لاحقاً أنها مُمولة من قبل الدولة، ومُجدداً، مُوجهة للسوق الداخلية. هدف ذلك المشروع لبناء مصفاة نفط بقيمة 1.5 مليار دولار أُعلن عنها عام 1996 من قبل شركة ماساكا السويسرية، المملوكة لرجل الأعمال المصري حسين سالم، بالشراكة مع مجموعة مرهاف الإسرائيلية المملوكة ليوسف مايمان. فشل ذلك المشروع في جذب الاستثمارات. ما دفع الحكومة المصرية إلى زيادة تمويلها ليصل إلى 60%، وقلص الممولان، حسين سالم ويوسف مايمان، من حصتهما لتصل إلى 20% لكل منهما، ونقل الشريك المصري حصته، باستثناء 2% فقط، لشركات أخرى، معظمهم من شركات التمويل الحكومية. وأُعلن أنه بدلاً من تصدير المنتجات البترولية المكررة، سيذهب معظم الإنتاج للسوق المحلية13.
فشلت طفرة العقارات وتقلبات سوق الأسهم في حل مشكلة المستوى المتدني من الاستثمار المحلي. هبط إجمالي الاستثمار المحلي من 28% عام 1980 إلى 19% عام 1998، مقارنة بالبلدان ذات الدخول المتوسطة والمتدنية ذات النسب التي تصل إلى 25%. بين عام 1990 و1997، نما الاستثمار فقط بمعدل 2.7% في السنة، مقارنة ب7.2% لكل البلدان ذات الدخول المتوسطة و12.7% لبلدان شرق آسيا. بالاضافة إلى ذلك، تضاعف تقريباً بحلول يونيو 1996 عدد الشركات العامة الخاسرة منذ بداية الإصلاحات، لتصل من 54 شركة الى 100 شركة، وارتفعت الخسائر المتراكمة من 2 مليار جنيه إلى 12 مليار جنيه. أعادت الحكومة النظر في النُظم المالية لاستثناء شركات القطاع العام من الحسابات المالية، إلا أن ذلك الوضع المتفاقم أُخفي عن الأنظار. ومع ذلك تزعم النيوليبرالية بأنها تستبدل عجز الحكومة بميزانية متوازنة.
المصرفيين ضد المصانع
لم يُزِح البرنامج النيوليبرالي الدولة من السوق، أو يقلل من المساعدات الحكومية "المسرفة". تلك الانجازات مجرد خيال. النتيجة الرئيسية لذلك البرنامج كانت تركيز الأموال العامة في أيادي مختلفة، وقليلة. وجهت الدولة الموارد العامة بعيداً عن الزراعة والصناعة والتدريب والتوظيف. فهي تدعم الآن المصرفيين بدلاً من المصانع، مصانع الأسمنت بدلاً من المخابز، المُضاربين بدلاً من المدارس. بالرغم من عدم اهتمام صندوق النقد الدولي بتلك المشكلة، إلا أنه لم يكن من الصعب معرفة المنتفعين من تلك المساعدات المالية الجديدة. أقرضت البنوك التجارية المشتركة (الحكومية والخاصة) أموالها، المُعفاة من الضرائب، إلى كبار رجال الأعمال. تخطى أقل قرض مليون جنيه، وتطلب ضمانات ضخمة ومعارف واسعة. لذلك، تركزت تلك الأموال في أيدي قلة صغيرة عددياً من المصرفيين ورواد الأعمال ذوي النفوذ.
تربع في القمة أكثر من تكتل، مثل مجموعة عثمان، بهجت، سعودي، محمد محمود، وأوراسكوم. بدأت تلك الأعمال العائلية مسيرتها كشركات تشييد أو وكالات استيراد وتصدير، وانتقل معظمهم تدريجياً إلى قطاع السياحة، العقارات، الأغذية والمشروبات، خدمات الحواسيب والإنترنت، وفي بعض الحالات تصنيع مواد البناء، وفي حالات أخرى، التجميع المحلي للسلع الاستهلاكية مثل الإلكترونيات والسيارات، لو ثبت ربحيتها بفعل الحماية الجمركية. حظيت تلك المجموعات باحتكارات قوية، ومثلت الوكيل الحصري لسلع وخدمات الشركات الغربية.
على سبيل المثال، ترجع جذور مجموعة سعودي، إلى شركة تجارة محلية أُنشئت عام 1958 من قبل عبد المنعم سعودي بعد خروج الطبقة التجارية الأوروبية نتيجة حرب السويس. استوردت تلك الشركة في السبعينات، عقب الانفتاح الاستهلاكي، وبعد سنوات من حظر الاستيراد، المأكولات، البضائع العامة، سيارات سوزوكي التجارية. واستخدمت المناطق الحرة لتصنيع وتصدير غزل الاكريليك. ساهمت تلك العائلة أيضاً في تأسيس اثنان من البنوك الخاصة الجديدة هما المهندس ووطني. وتوسعوا في الثمانينات ليشملوا العمل الزراعي، مُنتجين الدجاج والبيض بمساعدة حبوب المساعدات الأمريكية، واستوردوا المبيدات، الأعلاف، والآلات الزراعية. قاموا أيضاً ببناء شركة التشييد الخاصة بهم لبناء منشأت شركاتهم النامية. بحلول التسعينيات أنشأوا خط تجميع سيارة سوزوكي، قاموا بصنع مقاعد السيارات والمبردات، أصبحوا المستوردين الوحيدين لعربات نيسان، والمستوردين الحصريين لحواسيب NCR.
ترجع مجموعة محمد محمود إلى عام 1895، حين ورث محمد محمود ورشة والده لصناعة الأحذية. أصبح بائعاً للأحذية في العشرينيات. ثم أصبح بحلول الخمسينات أكبر منتج للأحذية في الشرق الأوسط. في خلال العقدين اللاحقين تشعبت العائلة إلى الاستيراد وتوزيع السلع الاستهلاكية، وأصبحت أكبر منتج للورق المقوى في البلاد. أنشأوا في الثمانينات شركة الهندسة والتشييد الخاصة بهم، واستوردوا، ثم لاحقاً، قاموا بتجميع نوافذ الألمنيوم والأبواب، وأثاث المنزل والمكتب، والجرارات الأوكرانية ومواسير الري. بحلول التسعينيات ضمت مجموعة محمد محمود، ذات الثلاثة عشر شركة، سلسلة متاجر إم إم (MM) للملابس الفاخرة، يفيس سانت لورانت (Yves saint laurent)، تشيرشس (church's)، و فراتيلي روزيتي (Fratelli Rossetti)؛ ومصالح مالية في البنك المصري الخليجي والفرعونية للتأمين؛ شركة داتوم لخدمات الانترنت؛ الوكالة المصرية الوحيدة لسيارات جاكوار؛ ومعارض لسيارات رولز رويس وفيراري.
توقفت مجموعة بهجت، أكبر مُنتِج لأجهزة التلفاز في الشرق الأوسط وذات موقع مهيمن في السوق المصرية، في التسعينيات عن تجميع أجهزة التلفاز الكورية لتصنع الماركة الخاصة بها. من الأنشطة الأخرى لتلك المجموعة تجارة الجملة والتجزئة، الفنادق، برامج الحاسوب، والانترنت، بالإضافة لإنشاء أرض الأحلام. عُرف عن أحمد بهجت، رئيس العائلة، قربه من العائلة الرئاسية، ما يفسر البناء السريع للطرق السريعة المؤدية لأرض الأحلام.
تتحكم شركة أوراسكوم، شركة قابضة مملوكة بالكامل لعائلة ساويرس، في 11 شركة تابعة، من بينهم أكبر شركة تشييد خاصة في مصر، وشركات صناعة الأسمنت والغاز الطبيعي، وأكبر شركة تطوير سياحي في مصر، (يمولها جزئياً البنك الدولي)، ومكاتب استيراد أسلحة بفروع قريبة من البنتاجون خارج واشنطن، وحقوق حصرية في الهواتف المحمولة، مايكروسوفت، ماكدونالدز، والمزيد.
تركزت تلك الاحتكارات بحلول التسعينيات في إنتاج السلع والخدمات المُقتصرة على نسبة ضئيلة من السكان. وجبة في ماكدونالدز تكلف أكثر من أجر يوم عمل كامل لدى مُعظَم العمال. نزهة عائلية في دريم بارك، المجمع الترفيهي لأرض الأحلام، تكلف في المتوسط أجر شهر كامل. زوج من أحذية الأطفال من متاجر إم إم (MM stores) قد يتجاوز سعره أجر شهر كامل للمُعَلِم. قدرت شركة الأهرام للمشروبات، والتي تنتج المشروبات الغازية والمياه المعدنية والبيرة، سعة السوق المحتملة بخمسة أو ستة ملايين فرد في بلد يصل تعداد سكانه إلى 62 مليون نسمة. ذلك السوق المحدود من المُستَهلكين هو نفس السوق من السكان القادرين على، أو من ظنوا هكذا، اقتناء 1.3 مليون سيارة موجودة في البلاد - ذلك يفسر تركيز المنتجين المحليين على تجميع سيارات المرسيدس، بي إم دبليو، رنج روفر، جيب شيروكي، والسيارات الفارهة الأخرى. امتدت نسبة الطبقات المقتدرة، بخلاف الطبقة شديدة الثراء المدعومة من الدولة، في الغالب لتصل إلى 5% أو 10% من السكان.
ولكن ماذا عن ال90% أو ال95% الباقون من السكان؟ انخفضت الأجور الحقيقية في القطاع العام الصناعي بنسبة 8% من 1990-1991 إلى 1995-1996. ظلت بعض أجور القطاع العام ثابتة، فقط لأنها بالفعل أجور كفاف. تقاضى المُعَلِم أو موظف القطاع العام المُتَعلم أقل من دولارين في اليوم. واحدة من علامات تلك الفترة هو ظهور مطاعم الفقراء في القاهرة من جديد. وتفسير صحيفة محلية لتلك الظاهرة بعودة طيبة لنوع من الإحسان عند الأثرياء لم يَكَد يُرى منذ عهد المَلَكية.
أظهرت إحصاءات الإنفاق المعيشي للأسرة انخفاضاً حاداً في الاستهلاك اليومي للفرد بين 1990-1991 و1995-1996. زادت نسبة السكان تحت خط الفقر في تلك الفترة من 40% (المناطق الحضرية والريفية) إلى 45% في المناطق الحضرية و50% في المناطق الريفية. لا يوجد دليل يؤكد تغير نسبة استهلاك الطبقة الثرية، لفشل الاحصاءات في ذلك. لو اُكملت استطلاعات إنفاق الاسرة لعامي 1991-1992 استقرائياً بالنسبة للمستويات القومية، ستظهر الأرقام أن الإنفاق الكلي للسكان هو 51 مليار جنيه. إلا أن الحسابات القومية تقدر الإنفاق الكلي ب100 مليار جنيه. بكلمات أخرى، اختفي أكثر من نصف الإنفاق الاستهلاكي من الإحصاءات - بالرغم من هذا، لم يتحرك البنك الدولي والمؤسسات الأخرى لنشر تلك الأرقام كمؤشرات قوية على سوء توزيع الدخل. للعديد من الأسباب، من المنطقي انتماء الشريحة العظمى من ذلك الإنفاق المفقود للأسر الغنية. تمثل تلك الأسر، ذات إنفاق يتخطى 14000 جنيه في السنة (حوالي 4000$)، 1.6 مليون شخص أو 3% من السكان. تُقدر أحد الإحصاءات أن تلك النسبة من السكان مسؤولة عن نصف الإنفاق الاستهلاكي14.
اشتدت عدم المساواة في الريف، لبدء الإصلاحات النيوليبرالية مبكراً عام 1986. استهدفت تلك الإصلاحات مباشرة ذوي الموارد المحدودة. بالانقلاب على أهم إنجازين للإصلاح الاجتماعي لمصر بعد الاستقلال، وهما التحكم في إيجار الأرض الزراعية وتأمين المُستأجرين ضد الإخلاء. مع مراجعة العقد الأول للإصلاحات النيوليبرالية في الريف، أدرك المراقبون أن من ضمن عواقب الإصلاح "نمو البطالة"، انخفاض الأجور الحقيقية، ارتفاع أسعار السلع والخدمات الأساسية، والخسارة الواسعة للأمن الاقتصادي. يمكن إضافة بعض النتائج الأخرى للقائمة مثل: ركود النمو الزراعي، الأزمات المتكررة لنقص وزيادة الإنتاج، نمو الاحتكارات، تثبيت الأسعار، الابتعاد عن زراعة محاصيل التصدير مثل القطن، وتوجه معظم صغار المزارعين إلى زراعة الغذاء لاستهلاكهم الخاص بعيداً عن محاصيل السوق. النتيجة الأخيرة منطقية، لأنها تذكرنا لأي مدى خيالية إنجازات.
جانب آخر من جوانب الخطاب النيوليبرالي هو اختفاء البدائل السياسية من على الساحة. ومن أهمهم: الحقوق السياسية لسكان الريف، والحقوق السياسية والحريات للسكان ككل. في الثلث الأول والثاني من القرن العشرين، أُكدت حقوق سكان الريف مراراً وتكراراً بالبقاء في أراضيهم، و وُضع حد تدريجياً للمبدأ الجديد والعنيف للملكية الخاصة للأرض الذي ظهر في أواخر القرن التاسع عشر. في عام 1913 أُجبرت الإدارة البريطانية على تمرير قانون الخمس فدادين، على غرار قانون مماثل في البنجاب، منع القانون الدائنين من تجريد صغار الفلاحين من آخر خمسة فدادين. قُدمت المزيد من قوانين الحماية في نهاية الثلاثينيات والأربعينيات، وأول قانون للنظام العسكري الجديد بعد انقلاب 1952 كان إصلاح بسيط هدف إلى منع مطالب أكثر جذرية وُضعت أمام البرلمان. تلك الانجازات الهزيلة ،المتآكلة بالفعل مُنذ السبعينات، هي التي سعت النيوليبرالية في التسعينيات إلى محوها.
زعمت الحكومة الأمريكية، البنك الدولي، والمؤسسات الدولية الأخرى أن الحقوق، المحدودة، لصغار المزارعين" تخلق عقبات في سبيل الاستخدام الكفؤ للأراضي"، بالرغم من عدم تقديمهم دليل يدعم وجهة نظرهم15. من الصعب إيجاد نقد لتلك العقيدة الجديدة بين الأكاديميين الأمريكيين المتخصصين في الشأن المصري16. إلا أنه، مع ترك مسائل العدالة الاقتصادية والاجتماعية جانباً، هناك أدلة قوية تدعم الاتجاه المناقض، ألا وهو أن أمان المزارعين المستأجرين يحسن من كفاءة استخدام الموارد17. إن الواقع يدفع للسير في اتجاه مختلف، صوب إصلاح أكثر كثافة للأرض، على غرار البرامج المبكرة للإصلاح في شرق آسيا وأماكن أخرى. سيرفع إيقاف التملك الإضافي للأرض لمن يملكون أكثر من 5 أفدنة بالفعل، بالإضافة إلى التقليل التدريجي للملكية لتصل إلى ذلك الحد أو أدنى، من مستويات المعيشة والناتج الزراعي بشكل كبير18. تقدم شرق آسيا أيضا نموذجاً لتمويل ذلك النوع من إعادة التوزيع. في الإصلاح التايواني للأرض عام 1953، أعطت الحكومة تعويضات لكبار المُلاك من خلال برنامج خصخصة تزامن مع الإصلاحات. أعطتهم الحكومة التايوانية أسهماً في شركة تايوان للأسمنت والشركات الأخرى المملوكة للحكومة والموروثة عن الاحتلال الياباني. امتلكت الحكومة المصرية بحلول نهاية التسعينيات أصولاً وصلت قيمتها إلى العديد من مليارات الدولارات انتوت خصخصتها، لم تضم تلك الأصول شركات الأسمنت الناجحة فقط، ولكن المِلكيات العقارية عالية القيمة والتي قامت عليها المصانع المُبَاعة، والفنادق، والشركات الأخرى، احتفظت بها الدولة عند بيع الشركات. كان بإمكان الحكومة توزيع نسب صغيرة من تلك الملكية مقابل الأرض التي أعادت توزيعها في الريف.
تمنع إعادة توزيع الأرض الزراعية نمو طبقة المُلاك العقاريين والاحتكارات التجارية، والتي بدأت بالفعل بإعادة الريف إلى وضعه السابق في النصف الأول من القرن العشرين. وتقدم أيضا دافعاً قوياً للاستثمار المحلي ونمو الثروة. في الحاضر، ومع تركز استهلاك السلع غير الغذائية بين الطبقات شديدة الثراء والموسرة، يأتي العديد من احتياج البلد للسلع عن طريق الاستيراد من الخارج. ستخلق الثروة الجديدة للأسر المتوسطة طلباً فعالاً على الخدمات والمنتجات المحلية. ومع التسليم بأهمية تحويلات العاملين في بُلدان الخليج (في عام 1996-1997 وصلت إلى 3.26 مليار دولار، أكثر من ضعف مقدار الاستثمار الغربي، وأكثر من خمسة أضعاف مستوى الاستثمار الضئيل للشركات العابرة للقوميات)،تطلب الأمر مبادرات جذرية عند ذلك المستوى ، وكان مُقدراً لها أن تصنع تغييراً19.
تغاضت النيوليبرالية أيضاً في المسائل الأخرى المتعلقة بالحريات المدنية والسياسية. انتشرت النيوليبرالية في مصر بواسطة التضييق الشديد للحريات السياسية. ضمت معالمها برلماناً فيه أكثر من مائة عضو مُنتخب زوراً، عُد ذلك فوق القانون في تلك الحالة؛ ومنع نواب المعارضة من مساءلة الحكومة20. ضمت نظاماً يمنع تنظيم المعارضة السياسية أو عقد الاجتماعات السياسية، وحرمت الأحزاب السياسية المعارضة القليلة من أي حقوق للنشاط العام. ضمت إعادة عسكرة للسلطة، ولاسيما مع انتقال السلطة من الوزارات، أُدير العديد منها الآن من قبل التكنوقراط، إلى مستوى المحافظين، عُين أغلبهم من صفوف الرتب العليا في الجيش. ضمت الاعتداء المتكرر على العاملين في حقوق الإنسان وصحفيي المعارضة سواء بالإغلاق، أو المحاكمة، أو السجن. في عام 1999 مُرر قانون جديد للمنظمات غير الحكومية قام بحل كل المنظمات غير الحكومية المرخصة وفُرض عليهم إعادة التنظيم تحت قوانين جديدة أكثر تقييداً، من ضمنها منع أي نشاط تعتبره الدولة سياسياً. في نفس الوقت، رفضت الولايات المتحدة التحدث بشأن تلك القضايا، متغاضية بذلك عن "مبادرة الديموقراطية" التي أعلنت عنها في بداية التسعينيات عندما هددت التحولات السياسية في شرق أوروبا الحلفاء الأوتوقراطيين في الشرق الأوسط، ولم تهتم أكثر من بقاء النظام واصلاحاته النيوليبرالية21.
خاتمة
أود أن أختم بعلاقة تلك التطورات السياسية بالصورة الأكبر لمنطق العولمة الرأسمالية والسوق. ليس غريباً الآن، حتى بين أنصار النيوليبرالية، الاعتراف بأن ما يُدعى بإصلاحات السوق والعولمة قد يُصحب بقمع سياسي. إلا أن الهدف هو إدراك أن تلك نتيجة للأخرى. بُناءاً على وجهة نظر المرء، فالقمع هو إما عَرَض جانبي غير متوقع، مؤسف، ومؤقت على الأرجح نتيجة توسع السوق المعولمة، أو النتيجة المتوقعة والضرورية وطويلة الأجل على الأرجح لمنطق التطور الرأسمالي. سأعارض رؤية شيء كنتيجة بسيطة للأخرى. بوضع السياسة المعاصرة في قالب المنطق الحتمي والكوني للعولمة الرأسمالية، فإننا نلصق بالسوق ورأس المال أو العولمة تجانس وطاقة وعقلانية لا تستطيع أن تنسبها لنفسها. لمجابهة ذلك التيار، يجب أن نضع سوياً نتائج السياسات المعاصرة، مثلما حاولت هنا، والتي تجلب للضوء عدم التجانس، والتحولات، والتناقضات المصاحبة للعولمة. ليست الصراعات السياسية الشديدة الجارية في مناطق مثل مصر نتيجة عارضة لمنطق التوسع العالمي، ولكنها عملية تاريخية نشطة تُهمش أهميتها مراراً ويتم التغاضي عنها في إعادة إنتاج خطاب العولمة.
تيموثي ميتشل, قسم السياسة، جامعة نيويورك.
ملاحظات:-
نُشر بعضاً من تلك الدراسة مُبكراً في مقالات أخرى مثل "أرض الأحلام: نيوليبرالية كما تتمناها".
1- مشروع توشكى، سُمي بهذا الاسم نسبة للوادي الذي ستجري فيه المياه، أُعطي لاحقاً إسماً أكثر رسمية، وهو مشروع تطوير جنوب الوادي.
2- صنفت مجلة فورتشن الأمير الوليد بن طلال بن عبد العزيز آل سعود كثاني أغنى رجل في العالم بعد وليام غيتس. ضمت أملاكه، معظمها في شكل أسهم أمريكية، 5% من مِلكية سيتي جروب (Citi group)، ساكس فيفث أفينيو، TWA، أبل، نيوز كوربوريشن، دايو، وغير ذلك.
3- صن ورلد هي شركة تابعة لشركة كاديز. وافقت الشركة الأم على شراكة مع شركة كادكو للحصول على مشاريع مشابهة في المنطقة.
Economist Intelligence Unit (EIU), Country Report: Egypt, 3rd quarter 1999, p.25; http://www.sunw
4- تعهد البنك الأهلي المصري بالتمويل. كان من المتوقع للأمير وليد بن طلال أن يحتفظ بنسبة 20% من الأسهم، ولكن، لاحقاً، بعد عقد الاتفاق مع شركة صن ورلد واجه مصاعب مالية نتيجة فشل استثمارات رئيسية أخرى.
Economist Intelligence Unit (EIU), Country Report: Egypt, 3rd quarter 1999, p.25; 'Prince Alwaleed: Still Stellar?' The Economist, 2 October 1999, p. 74.
5- تضمنت القيود على الواردات حدوداً أكثر ضيقاً على الائتمان، إيقاف الواردات المعفاة من الرسوم الجمركية، وتقديم متطلبات جمركية جديدة ومُكلفة.
Economist Intelligence Unit (EIU), Country Report: Egypt, 1st quarter 1999, p. 33. Middle East Times - Egypt, 27 August 1999, from http://www.metimes.com.
6. Howard Handy and Staff Team, Egypt: Beyond Stabilization, Towards a Dynamic Market Economy, IMF Occasional Paper, no. 163 (Washington DC: IMF, 1998), table 21, p.5O. For this paper, the number of Egyptian pounds to the US dollar is calculated at the average rate of 2.74 for 1989-90, 3.34 for 1991/92-93/94, and 3.39 for 1994/95- 1997/98 (based on Handy et al.. Egypt: Beyond Stabilization, table 1, p. 2).
7. On similar problems faced by the Indian state in the same period, and the importance of discipline, see Prabhat Patnaik and C P Chandrasekhar, 'India: Dirigisme, Structural Adjustment, and the Radical Alternative', in Globalization and Progressive Economic Policy (ed.), Dean Baker, Gerald Epstein, and Robert Pollin (Cambridge, 1998), pp. 67-91.
8. IMF, 'Egyptian Stabilization', p 35; Economist Intelligence Unit, Country Report: Egypt, 3rd quarter 1998, pp. 19-20. Other benefits were transferred to the banks in 1991, including a reduction in reserve requirements (a source of fiscal income) from 25 per cent to 15 per cent. Mohieldin, 'State Intervention', p. 13.
9- من بين 97 شركة أخرى باعت الحكومة أسهماً لهم، احتفظت الحكومة بنسبة كبيرة من الأسهم في 18 شركة، وظلت أكبر حامل أسهم في 25 شركة أخرى، واحتفظت بحصة كبيرة في 12 شركة أخرى، وحولت 28 شركة أخرى إلى "جمعيات الموظفين حملة الأسهم"، ما يعني، عملياً، أنها ظلت المتحكمة بواسطة نفس المدراء. وبيعت 14 شركة مباشرة إلى "مؤسسات استثمارية".
EIU, Country Report: Egypt, 3rd quarter 1998, p.19; EIU, Country Report: Egypt, 3rd quarter 1999, p. 20.
10. EIU, Country Report: Egypt, 3rd quarter 1998, p. 21. Business Today: Egypt, November 1988, p. 29. The EFG index is at http://www.efg-hermes.com/docs/ market/home.
11- تعكس شعبية أسهم موبينيل الطلب الشديد على الهواتف الخلوية بين المشتركين في مصر (300 ألف). فقد استخدموا هواتفهم 4 أضعاف المتوسط العالمي من الدقائق الشهرية لكل مشترك. بعد خصخصة موبينيل (بيعت لمجموعة أوراسكوم، بالشراكة مع رائدي مشغلي التليفون من فرنسا وأمريكا)، أقامت الحكومة شركة هواتف أخرى، Click GSM، أي فودافون (المترجم)، لاستبدال مجموعة ألكان القوية، التي خسرت المزايدة على موبينيل.
See EIU, Egypt: Country report, 3rd Quarter 1999, pp. 29-30.
12- في عام 1997، اشترت شركة هولدر بانك، أكبر منتج للأسمنت في العالم وتتواجد في أكثر من 60 دولة، وتضم شركات تابعة في المغرب ولبنان، 25% من شركة الأسمنت المصرية ،وبدأت ببناء ثلاث مصانع جديدة للإسمنت في السويس. في يوليو 1990، اشترت شركة لافارج، أكبر منتج لمواد البناء وثاني أكبر منتج للأسمنت في العالم، المتواجدة أيضاً في 60 دولة، 76% من شركة أسمنت بني سويف، وزادت نسبتها إلى 95%. خططت شركة لافارج لبيع ممتلكاتها إلى شركة الأسمنت اليونانية تيتان، والتي امتلكت بالفعل مؤسستين لاستيراد الأسمنت في مصر بالشراكة مع مجموعة فور إم (4M) المحلية، أكبر مستورد لمواد البناء. في أواخر 1999، تفاوضت الحكومة المصرية على بيع شركة أسمنت أسيوط لشركة سيمكس المكسيكية، أكبر منتج للأسمنت في الأمريكتين مع تواجد في أمريكا الشمالية والجنوبية وأوروبا وشرق آسيا، وبيع شركة اسكندرية بورتلاند للأسمنت إلى شركة بلو سيركل (Blue Circle)، أكبر منتج بريطاني للأسمنت مع تواجد في أوروبا وأفريقيا وأماكن أخرى.
See EIU, Egypt: Country Report, 3rd Quarter 1999, pp. 20-21; http://www.holderbank.com; http:// www.lafarge.fr; http://www.cemex.com; http://www.titan.gr/en/news; http:// www.4mgroup.com.eg.
13- نقلت ماساكا 16% من أصل 20% من ممتلكاتها إلى شركة يُفترض أنها شركة خارج الحدود تابعة للبنك الأهلي المصري في جزر كايمان. نقلت 2% أخرى إلى بنك قناة السويس.
EIU, Egypt: Country Report, 3rd Quarter 1999, p. 27.
14- بُني التقدير على افتراض انتماء كل النفقات المفقودة إلى تلك المجموعة. تقوم صحة الافتراض على عوامل مثل نوعية النفقات المفقودة ونسب الدخول التي تنفقها تلك المجموعات المختلفة على الطعام.
Ulrich Bartsch, 'Interpreting Household Budget Surveys: Estimates for Poverty and Income Distribution in Egypt', Working Papers of the Economic Research Forum for the Arab Countries, Iran and Turkey, no. 9714. Cairo, 1997, pp. 17-19.
15. Ngozi Okonjo-Iweala (Chief of Agricultural Operations, World Bank) and Youssed Fuleihan, 'Structural Adjustment and Egyptian Agriculture: Some Preliminary Indication of the Impact of Economic Reforms', in Mohamed A Faris and Mahmood Hasan Khan (eds.), Sustainable Agriculture in Egypt, Boulder and London: Lynne Rienner, 1993, pp. 127-39; p. 134.
16. An exception is the work of Prosterman & Hanstead, who are neither Egypt specialists nor social scientists, but hold positions in a school of law. Roy Prosterman & Timothy Hanstead (1992), Egyptian Development and US Aid: A 25-Year Perspective, Seattle: Rural Development Institute.
17. See Nicholas S Hopkins (1993), 'Small Farmer Households and Agricultural Sustainability in Egypt', in Mohamed A Faris & Mahmood Hasan Khan (eds.), Sustainable Agriculture in Egypt, Boulder: Lynne Ryner, pp. 185-195; and M Z Moussa & T T Jones (1991), 'Efficiency and Farm Size in Egypt: A Unit Output Price Profit Function Approach', Applied Economics, vol. 23.
18. For a useful view of the arguments and evidence about landholding in development economics, see Debraj Ray (1988), Development Economics, Princeton: Princeton University Press, pp. 415-463.
19. EIU, Country Profile, table 28, p. 54. The World Bank and USAID have set up programs to provide loans to the small businesses and micro-enterprises denied access to the formal financial sector. But these programs ignore the question of redistributing wealth to create the demand for such enterprises.
20. Gamal Essam El-Din, 'MPs rage over erosion of parliamentary power', Al-Ahram Weekly, 7-13 January 1999:3.
21. For a discussion of the US democracy initiative, see Timothy Mitchell (1996), 'The 'Wrong Success': America's Fear of Democracy in the Middle East', (in Arabic), in Timothy Mitchell, Al-dimuqratiyya xva'l-dawla fi al-'alam al-'arabi, Cyprus: Dar "Iyba