السبت، كانون(۱)/ديسمبر 21، 2024

انتفاضة يناير وكشف الحساب المفتوح

  محمد عثمان
رأي
دقت الساعة المتعَبَةرفعت أمه الطيبة عينها ..(دفعته كعوب البنادقِ في المركبة!)....دقت الساعةُ المتعَبَةنهضت، نسقت مكتبه ..(صفعته يدٌ ..-أدخلته يد اللهِ في التجربة-)أمل دنقل – الكعكة الحجرية


لجيلنا كعكته الحجرية أيضاً، كما كانت لجيل السبعينيات، وحين حل الخامسُ والعشرون من يناير 2011، أشرقت شمس جيلنا على ميدان التحرير، مبتسرة شديدة الابتسار لكنه أشرقت على أي حال! وتمادى جيل العيال في الحلم إلى أن دفعتنا كعوب البنادق في المركبة، إنها النهاية النموذجية لكل انتفاضة انتهت بتعزيز موازين القوى السائدة برغم عبثها سطحياً بالترتيبات السياسية القائمة.
اليوم، بعد ما يقارب اثني عشر عاماً، يناير القادم هو العيد الثاني عشر للانتفاضة، لا زالت جردة الحساب لم تتم، إن الكثير من الأثمان سوف تظل تُدفع وهذا حكم التاريخ على المهزومين، اليوم تقبع آلاف عديدة ممن أثموا بالاشتراك في أو حاولوا الاضطلاع بقيادة القيامة "الينايرجية"، إنه ثمن الفشل!


لدى الطبقة الحاكمة في مصر يقين بأنه لا يمكن السماح بتكرار يناير آخر، وإن كان لابد، فإنه يجب ألا يحدث في الأمد المنظور، وهو يقين راسخ بالرغم من أن يناير لم يهدد العلاقات الطبقية في المجتمع، ولم يتخطْ حدود شعارات سياسية تستهدف إسقاط مبارك لأجل إطلاق ديمقراطية برجوازية تم قطع الطريق عليها عبر استفتاء مارس 2011، كان ما أُطلق هو مسار أفضى لوصول الإسلام السياسي للحكم على دم بضع مئات من الشهداء سقط أولهم في السويس في مساء 25 يناير!
وبالرغم من أن الانتفاضة لم تمتلك فهماً حقيقياً ولا وعياً بجذر الصراع، ناتج عن طبيعة القوى الطبقية الممثلة فيها، حيث غلبت عليها قطاعات البرجوازية الصغيرة المدينية وشرائح دنيا من البرجوازية الوسطى وعطفاً من برجوازيين كبار مطرودين من جنة نفوذ لجنة السياسات وفلول أُضيرت من شكل ونتائج الانتخابات البرلمانية في 2010 والتي اتضح فيها أن البلد تجنح بقوة ناحية شلة جمال مبارك وأحمد عز وحلقة نفوذها الضيقة، وفي الأيام الأخيرة دخلت الطبقة العاملة على الخط بقوة، لا لتقود ولكن من باب مطالبها هي بالذات – الاقتصادية – أسهمت بعفوية في حسم أمر مبارك!


وقد كانت 18 يوماً في الشوارع أكثر من كافية لتقتنع قمم البرجوازية المصرية بخطورة الوضع، إن دخول الجماهير على خط الصراع هو الرعب الأكبر والتهديد الأخطر للمعبد. والجماهير التي تغلب العفوية على تحركها لغياب التنظيم ولطبيعة القوى الطبقية الداخلة في تركيب الانتفاضة، تلك الجماهير، عبر امتداد فترة تماسها وممارستها في الشارع تتجه يساراً أكثر فأكثر، بالغريزة العفوية حتى في ظل غياب يسار منظم وفاعل تتخذ العفوية طابعاً أكثر راديكالية، أو فوضوية!
كانت الفرصة الوحيدة لنجاح الانتفاضة هي امتداد وجود نقيضها المباشر، مبارك وشلته، ريثما تستطيع تلك الجموع تكوين وعي أعمق بالمهام المُلقاة على عاتقها، لقد كان رحيل مبارك بعد ثمانية عشر يوماً بمثابة قطع الطريق على جماهير منفلتة وخطيرة برغم افتقادها القيادة والخطة.


وبينما كانت الرأسمالية المصرية تخوض سجالاتها الداخلية وتستغل وتستخدم الشارع، كان هناك إجماعاً على خطورة تكرار تلك الصيغة، أن تبادر قطاعات ضخمة بعد ثلاثون عاماً من الصمت الثوري قطعته بعض زفرات هنا وهناك – انتفاضة الأمن المركزي، مظاهرات حربي الخليج ودعم الانتفاضة الفلسطينية، وانتفاضة المحلة – لتطرح على الطبقة الحاكمة سؤالاً يتعلق بشرعيتها الساقطة، لقد كان دخول الجماهير على الخط هو ما لا يجب السماح بتكراره.
لأجل هذا الهدف الاستراتيجي، ولأجل تأبيد دوران دولاب عمل البرجوازية المصرية، مورست تكتيكات مركبة لم تستهدف أقل من تجريس يناير باعتبارها خطيئة، يناير التي اعتبرها اليمين الحاكم واليسار الدولتي والقومي المسحوق عملاً شيطانياً تخريبياً سقط من جعبة الزمن العدو ليدمر بلداً يقف خمسون مليوناً على الأقل من أبنائه على عتبات الجوع. صارت يناير هدفاً لهجوم إعلامي مستمر وصار كل من شارك في يناير هدفاً للسجن أو المطاردة، وصار الجيل كله مطلوباً للعدالة باعتباره جيلٌ مجرم فاجأ البرجوازية الهرمة وخرج من قبضتها التي مسخته ليعكر صفو عيشها وينازعها و إن شكلياً.


اليوم بعد اثني عشر عاماً، تُحاكَم يناير في أشخاص، صاروا عِبرة، جرى تحويلهم إلى فئران تجارب كي تظل البلد خاضعة لابتزاز أن من يحاول سيلقى نفس المصير، اختيرت بعض النماذج لتتحول إلى فزاعة، في اطار سعار أمني محموم لأجل تنظيف الشارع المصري وما قد يكون مختمراً في أقبيته أولاً بأول كي لا تصحو السلطة من جديد على يناير آخر.


ليس الأمر متعلقاً فقط بسلطة يونيو، بل إن الإخوان المسلمين قد دشنوا عصر الفاشية بمواقع تاريخية كموقعة الاتحادية على خلفية إعلان المخلوع محمد مرسي إعلانه الدستوري الذي صادر كل ما تبقى من أوهام عن أي ممارسة ديمقراطية في بلد لم تفهم برجوازيتها أبداً أنها لن تستطيع حماية سلطتها عبر غلق المسار السياسي الديمقراطي، وأن إجراءات الأمن تستطيع فقط تأخير المد الجماهيري لا إلغائه، وأن معضلة حفاظها على السلطة كانت دوماً مرتبطة بمدى عمق التفاهم بين شرائحها المختلفة وأن دخول الجماهير على الخط هو حتمية تاريخية محكومة بتناقض كامن في علاقات الإنتاج والملكية، لا تناقض لا تستطيع ألف زنزانة إضافية كل عام، وألف حاجز أمني وألف كمين في وسط القاهرة كبح جماحه!
إن قضية الاعتقال السياسي في مصر هي تراث قديم قدم القهر الاجتماعي، وهي لا يجب أن تُثار اليوم على نطاق فردي ولا أن تدخل في نطاق نفوذ دول أجنبية تمارس نفوذها لصالح حملة جنسيتها بل إنها يجب أن تكون نواة للعمل الوطني، أن تُطرح القضية على أرضية الصراع الاجتماعي المفتوح في مصر، الصراع الذي لم ينتهْ مهما قيل عن تجميده، صحيح أن يناير ماتت، وأن جيلنا قد هُزم، لكنها ليست الهزيمة الأخيرة، ولا انتصار البرجوازية المصرية هو انتصارها النهائي، لأن التاريخ مفتوح على كل الاحتمالات، ولأن التناقض تستعر ناره بمضي التاريخ قدماً!


إننا أمام قضية تصفية لجيل تجاسر فخرج ساعياً لتغيير وجه مصر، جيلٌ رغم جسارته أعزل من كل بنية تنظيمية ونظرية تؤهله لمواجهة محنته، إنه الجيل الذي لا يمتلك وسيلة لصيانة حقه في الحياة سوى بموته، والهجوم الذي يشهده لا يستهدف قطاعاً دون آخر، بل إنه يستهدف وجوده المعنوي والبدني على أعتاب الذكرى الثانية عشر لانتفاضة يُنظر لها باعتبارها وقاحة لا يجوز الرد عليها بأقل من مواجهة مفتوحة يخوضها النظام ضد هذا الجيل!