أمام حتمية الانهيار: أيُّ ممرّ آمن؟
وها هو البنيان نفسه، اليوم، وبعد قرن من الزمن مليء بالحروب والتوترات والاقتتال والضياع، يتداعى وتضيق عليه الاتجاهات؛ هو تائه، بين موجبات الكينونة والماهية وتقديم فروض الطاعة المطلوبة منه نتيجة تبعيته. لم تتبلور تلك الجمهورية المنتظرة إلّا على شكل مأساة دورية، تنخر في جسد فاقد للحيوية، وتقتات على نزاعات بينية بين أطراف مكوّنة للنظام؛ جمعتهم الجغرافيا، لكن لم تجمعهم المنطلقات. هي تلك الدروب التي تفرقت على معابر متعددة، فنسجت لها متاهات لا يمكن الوصول من خلالها إلى نهايات معقولة، وآمنة. فعامل الاستثمار في عدم الاستقرار هو علّة وجودها وأساسه، وعليها كانت تنتقل من تحريض إلى توتير إلى تقتيل إلى تصالح، لتعاود الأمر من جديد وبشكل مأسوي أكثر من السابق.
هي تلك الدولة المسلوبة والمنهوبة، لم تجد عامتها نظاماً يحكمها، بل مشاعات موزّعة على إقطاعيات سياسية وعائلية موروثة ومتدثرة برداء الطوائف والمذاهب ومحميةً منها، لتنتج نظامها السياسي، القائم على "ظلاميات" تاريخية مشتبه فيها، كان أسودها أحمرَ من كثرة الدماء التي سُفكت فوق تلك الدرب التي يُرجعها كتّاب التاريخ إلى "لعبة كلة" بين أطفال، أو إلى خلاف على قطعة أرض أو مشاع. هو ذلك التاريخ الخارج من عباءة الأسطرة والتفاهة والقائم على توارث حكايات ملتبسة ومتخيلة. لم تخرج تلك الرواية إلّا من سردية هجينة، تخلط بين الوهم والمرتجى لتصوغ مساراً يحمل في طياته كل عوامل الاختلاف والتفرقة والتناقض، مبنياً على نص قاصر كُتب بارتباك كبير، وخارج وجد ضالته في ربوع الفتنة والمجازر، يدونها ويقترفها ويجعل لها تاريخاً وسبباً ونتائجاً، ومن ثم يبني عليها كي يستثمرها في مشاريعه كأدوات جاهزة رهن الطلب ووفق الحاجة.
لم تنته تلك الجلجلة بحروبها ومنعطفاتها الدورية، فبعد كل مواجهة كان ثمة خارج – متكئ على بعض في الداخل – يُخرج من أكمامه أرانب كي يُعيد صوغ اتفاق الشركاء في بيعة النظام. فيتنقل ذلك المسار بين الحروب والفتن والاتفاقات والفرادة والكذب والادعاء والتفريط والولاءات المتباينة... فمن محطة إلى أخرى؛ كان الثابت فيها هو جوهر النظام، والمتحرك هو الحصص وبعض أصحابها. وعليه جاءت موقعة "الطائف"، التي أنهت أطول فصول الاشتباك اللبناني وأكثرها دموية في عهده المعاصر. لم ينجح ذلك المسار، إلّا في تثبيت مرجعية السلطة الخارجية، وتكوين نظام التحاصص المشترك بين أمراء الجبل والساحل والأطراف، الذين توزعوا على مشارق الأرض ومغاربها، بعدتهم وعديدهم، وها هم اليوم يبحثون عن الممر الآمن لاستمرار بث الحياة في جسد نظامهم المتهالك. هو مأزق الهوية والانتماء والوظيفة والمهام، هي إشكالية الولاء المرتبكة بين الواقع والمرتجى ومتطلبات أولياء الأمر ومصالحهم. لم تنفع المعالجات القاصرة في ترقيع البدن المتهرّئ ولم تعد صالحة المعالجات السطحية؛ فالمشكلة أصبحت في الأساس التكويني وليس في الأعراض الناتجة منه. لقد وصل التأزم إلى حدّ الإطاحة بالكيان الواقع بين فخيّ التكوين المتكرر والتدوير الناتج من تبدلات سياسية خارجية تطيح السابق وتحدد الآتي، لكن من دون الوصول إلى أصل القضية وماهيتها.
وبناء على ذلك فإن العمل على الخروج من مأزق اتفاق الطائف، المنتهية صلاحيته أصلاً، والتمهيد لبديل تاريخي يتمثّل في إقامة الدولة الوطنية الديمقراطية المقاومة، أصبح المرتكز الأول الذي يجب أن تبدأ انطلاقاً منه المعالجة وتقديم الطروحات المناسبة لذلك. إن منطق "التلزيم"، الذي كان معتمداً منذ قيام الكيان ومواكباً له لم يعد بذي قيمة. لقد أودى به إلى التهلكة مرات عديدة حين بلغ فيه الاقتتال الداخلي مراحل خطرة، ودوماً كان المخرج هو الانتقال من وصاية إلى أخرى. لقد ارتضت مكونات النظام السياسية منها والطائفية واستسهلت "التعليق" على خطوط التوتر الخارجي كي تستمد بقاءها في جنة السلطة لتقيم محمياتها، وعليه كانت تتبدل تلك الولاءات، الخالية من أي مبدئية، بين وصاية آفلة وأخرى وافدة، فتُبدّل حمل البندقية وتنقلها من كتف إلى أخرى، غير آبهة فوق أي أرض ستقف. لقد وقع البلد في مأزق التلزيم المتكرر والذي قضى على أي إمكانية للتراكم المطلوب البناء عليه وبالتحديد في مسألة بناء الدولة. وعليه، تصبح عملية إيجاد الأرضية الصلبة لتجميع مزيج من القوى الديمقراطية والعلمانية، لصوغ برنامجها وتوحيد قواها من أجل الضغط لإقرار القوانين الاصلاحية التي يُفترض أن تشكّل الركائز الأساسية للدولة المنشودة، ولترسي أسس ثابتة لبنيان مستدام.
إن النظام السياسي القائم – الناتج الطبيعي للدولة الطائفية – وأزمته، يستوجبان تغييراً فعلياً في أسس تشكيل السلطة والمؤسسات السياسية المكونة لها، والمدخل الطبيعي لذلك، وبالدرجة الأولى، اعتماد، أقله، أربعة قوانين عصرية: قانون للانتخابات النيابية والبلدية قائم على النسبية وخارج القيد الطائفي والدوائر الكبرى، وقانون مدني موّحد للأحوال الشخصية، وقانون وطني للأحزاب السياسية، فضلاً عن قانون ينظم موضوع الإقامة ويحرّرها من قيد سجلات النفوس. ربما هذه القوانين ليست كل شيء، إنما يمكنها أن تبني المدماك – الأساس لإعادة تكوين النظام السياسي المتحرر من ممارسات "قروسطية" لمّا تزل تفعل فعلها، منذ ما قبل "مرج دابق" وحتى اليوم. فأمراء الجبل والساحل والداخل والعشيرة والقبيلة والجماعة... مستمرّون بكامل لياقتهم المتوارثة والممتدة بالتناسل. لقد آن أوان الخروج من سجن التخلف إلى فضاء أكثر اتساعاً ووضوحاً، لا تكون الرؤية فيه مغشية، وتحرير المواطن أيضاً من أسر الطوائف إلى رحاب المواطنة، وبذلك يتشكّل المرتكز الثاني في المسار المنشود.
إن أزمة "الرأسمالية اللبنانية"، والتي تشكل الوجه الآخر لأزمة النظام السياسي، لا تخرج عن كونها باباً من أبواب استنساخ الاقتصاد المهجّن، فلا هو منتج ولا هو عاجز، بل مزيج من تراكمات لتجارب واستنساخ لأخرى، لم يستطع معها بناء قطاعات تشكل بإنتاجها سبيلاً لاستيلاد استقلالية ما، تخفف من وطأة التبعية وتكسر سلوك الهيمنة وسياساتها القائمة على الابتزاز والإكراه وتسهيل فرض الشروط. إن فرض نظام بديل كمشروع شامل، مدخله تغيير السياسات الاقتصادية والاجتماعية وتحقيق المطالب النقابية والشعبية للقطاعات كافة، وإقرار نظام ضريبي تصاعدي يطاول الثروات وعائدات رأس المال، وتصحيح سياسات الإنفاق العام ومحاربة الهدر والفساد والإفساد ومعالجة مشكلة النفايات ووقف السطو على الأملاك العامة، وإقرار التغطية الصحية الشاملة، ووقف استخدام إدارة الدين العام كأداة للاستمرار في نهب الشعب اللبناني... والاستثمار في الرأسمال البشري المنتج إلى غيره من الخيارات، يمكنها أن تُعيد التوازن إلى مسألتي الانتاج والاستهلاك، والخروج من ذهنية الولاء المطلق والدونية أمام اصحاب رأس المال، دولاً كانوا أم مؤسسات، باتجاه أفق تحرري قائم على مبدأي الشراكة والتبادل، بين قوى صاعدة وافق تنموي غير خاضع لمبدأ الهيمنة والاستغلال وفرض الشروط والاستزلام. إنه المرتكز الثالث الذي يجب أن يشكل الرافعة الجدية لبناء اقتصاد وطني منتج يتمتع بكفاءة وبرشاقة، يؤمن الاستقلال ويخفف من التداعيات والشروط، ومنفتح على التكامل عربياً، والتقاطع مع اقتصادات صاعدة وأسواق مشتركة، ومناعة ذاتية في مواجهة تسلط قوى الهيمنة ورأس المال من دول ومؤسسات.
لبنان ليس جزيرة منعزلة، بل هو امتداد لمنطقة واسعة وجزء منها. لقد عجزت دول سايكس بيكو من إحداث الفرق المطلوب في الصراعات الموجودة في المنطقة، وذلك بسبب العطب التكويني الموجود فيها كما الوظيفي؛ فحدود التقسيم المدروسة منعت هذه الدول من صوغ موقف مشترك على همّ مشترك أو على قضية مشتركة، فوقعت في الشلل المستدام وفقدان الحركة والمبادرة، فاختلّت قيمها وسقطت في حفرة الاستتباع الملزم لها، ولجأت إلى الاستظلال بفيء دول المركز الرأسمالي، طلباً للحماية وصوناً لنماذجها، فخسرت في كل المجالات. وعليه يصبح كسر حدود التقسيم والدعوة إلى وحدة عربية جدّية تكون مصالح الشعوب وقضاياها أساساً لها، وبالتحديد قضية فلسطين، وبها ومن خلالها يتكّون الموقف من قضية التحرر الوطني بأبعاده كافة. فمن المؤكد بأن إعادة الحياة إلى العلاقات الملتبسة والمتوارثة مع التيار القومي العربي سيكون محطة لا يجب القفز فوقها بل النظر إليها كمسألة طالت غربتها، واستكمالاً، ولو استلزم الأمر – وعلى طريق تأمين أفضل شروط المواجهة المزدوجة صوب الأنظمة وصوب رعاتها – بأن ننظر أبعد من ذلك، إلى تيارات أخرى آمنت بتحرير فلسطين وهي جدّية في مواجهة المشروع الأميركي، وعليه يصبح التقاطع معها أفضل من القطيعة، وبذلك يتشكل المرتكز الرابع.
هي إذن مرتكزات أربعة، معها تتضح ممرات الخروج من ذلك الوهم المتمادى فيه، بفئويته وعنصريته، وبسجون الطوائف ومعتقلات المذاهب، بجشع رأس المال وتسلطه، وبؤس سلطته المتفلتة من كل قيد والفالتة على غاربها. هو ذلك التوجه البديل المطلوب اليوم لخط مسار نضالي، يحفظ الأساس ويفتح أفقاً على خيارات قد تبدو اليوم ضرورية أكثر من أي وقت. فهل من أمل في خوض ذلك الاستحقاق والفوز به؟ هو سؤال ابتدائي برسم كل من يجد في قضيتي التحرير والتغيير مدخلاً إلزامياً لبناء دولته الوطنية.