تحرير أم تغيير – في جدلية الصراع الاجتماعي!
تُطرح المسألة بهذه الصيغة، التغيير أم التحرير أولاً؟ طرح السؤال يعترف مسبقاً بوجود هيمنة تستدعي السعي نحو التحرير من جهة، ومن جهة أخرى يفترض انفصالاً بين المهمتين. تعاني البلاد الطرفية من الهيمنة، بلغة مدرسة التبعية، تعاني تخوم النظام العالمي – جنوبه – من هيمنة مركز النظام – شماله – وهي حالة تطورت ومرت بعدة مراحل تاريخية، كانت مسار تشكيل النظام الامبريالي العالمي وصولاً إلى الوضع الراهن. فقد جوبهت الرأسمالية بمسألتي السوق – التصريف – والمواد الخام، ووجدت الإجابة في بلدان الجنوب التاريخي وعبر عملية قرصنة استطاع الامبرياليون الإنجليز الاستيلاء على أمريكا اللاتينية عبر وسيط اسباني برتغالي كان يمثل جنوب الشمال، أي الشمال الأقل تطوراً الذي نزح الذهب والفضة من البلاد اللاتينية ليشتري بها منتجات مصنعة في شمال أوروبا، إلى أن نضبت مناجم المعدنين واستولت انجلترا مباشرة على القارة بعد أن أنجز الإسبان والبرتغاليين المهمة القذرة، إبادة الهنود ونزح المعادن. لتدخل انجلترا على الخط بتجارة العبيد الأفارقة الذين كانت تشتريهم مقابل السلاح والكحوليات لتدفع بهم إلى أمريكا اللاتينية وتستولى على المواد الخام – البن والقطن والتبغ وقصب السكر والمعادن والكاكاو – التي يتم تصنيعها لتعود إلى القارة منتجة ريوعاً امبريالية مهولة. كان هذا سلوك الرأسمالية قبل أن تصير احتكارية، أي قبل أن تنغلق أمامها الأسواق وتنشأ أزمات التصريف، وقد اشتد نهجها هذا تطرفاً بعد أن دخلت في أزمتها الهيكلية الأولى فيما بعد 1870 حين ردت الفعل بموجة التمركز الأولى والعسكرة الشاملة التي أنتجت مجزرة 1914-1918.
انتهجت الامبريالية نهجاً تدميرياً على المستعمرات ارتكز بالأساس على تدمير الهياكل الاقتصادية المحلية، الزراعات الموجهة لسد حاجة السوق المحلية من الغذاء، الصناعات الهامشية، تم تكسيح وسحق كل هذه الأشكال و أُعيد ترتيب الاقتصادات المحلية بما يخدم ماكينات مانشيستر ويوركشاير. ففي مصر تم اعتماد القطن كزراعة رئيسية ووحيدة على حساب زراعات الاحتياجات الغذائية كالقمح والذرة والشعير ليضرب كرومر – المندوب السامي البريطاني – عدة عصافير بذات الحجر، إمداد المصانع البريطانية بالقطن المصري الممتاز وبأسعار زهيدة ليتم تصنيعه وإغراق السوق المصرية به بأسعار مرتفعة هذا من جهة، من جهة أخرى يفرض على البلد استيراد احتياجاتها الغذائية بما أن الأرض تحت أمر زراعة القطن، وبما أن الخزانة مُفلسة جراء الدين المتراكم منذ أيام اسماعيل، الدين الذي في مقابله سقطت البلد برمتها في حجر الإنجليز، الدين الذي كانت أقساط خدمته تلتهم كل ما يعود من تصدير القطن، إذن فمزيد من القروض – القيود، وهكذا في دائرة تزداد وحشية واتساعاً.
إن بلدان الجنوب تُمثل للامبريالية شريان حياتها المأزومة أصلاً، فهي سوقاً واسعة للمنتجات المصنعة، وهي مصدر المواد الخام التي تدير ماكينة الاحتكارات وهي قبل كل ذلك مصدر قوة العمل الرخيصة والتي تزداد رخصاً تحت ضغط جيش العاطلين المتنامي. إن الشرط الأخير بالذات هو ما يفسر تواجد فروع الاحتكارات في البلدان النامية حيث التكنولوجيا تحت السيطرة وحيث تتمتع الاحتكارات بتكلفة عمل منخفضة للغاية يتم ترجمتها في مزيد من الربحية ومزيد من التراكم الذي ينساب في اتجاه واحد دوما : إلى الشمال!
كان فرض هذا النمط التابع – الخادم في البدء يستلزم تدخلاً عسكرياً مباشراً، مذبحة تقودها الضواري الاستعمارية لفرض خطة النهب تلك بقوة السلاح، لفرض هذا التشوه العميق على البنية الاقتصادية المحلية، وقد كان رد الفعل على كل محاولات الضحايا للفكاك عنيفاً، من أحمد عرابي إلى أرتيغاس وزاباتا. فقد كان التحدي مزدوجاً، الأسواق عاجزة عن استيعاب الفائض في السلع والتوظيفات الجديدة، وزيادة كُلفة العمل لتحريك الأسواق تعني خراباً محتوماً، ولا يوجد أدنى حيز للمناورة، فالطبقة العاملة في المركز الامبريالي تقبض ثمن سكوتها مباشرة من دم وعرق عمال ومضطهدي الأطراف.
لكن بحلول حرب النهب الثانية في أعقاب كساد 1929 الذي كان تعبيراً عن التناقض العميق الذي يعتري النظام، كان العالم قد تغيّر كثيراً، فموجة التحديث التي دفعها الاستعمار لتحسين جودة النهب عبر استحداث أجهزة محلية نظامية، شرطة وشبه جيش لحفظ أمن الاحتكارات والقيام بالأعمال التي لا تستدعي تحرك جيش الاحتلال من معسكراته، ادارات للضرائب والجمارك وما إلى ذلك، فعلى سبيل المثال قام كرومر في مصر بتعميم التعليم الابتدائي لحاجته إلى كتبة عموميين وموظفين صغار، من وسط هؤلاء خرجت بذور الحريق الذي جعل الوجود الاستعماري المباشر أمراً مكلفاً. مع بروز المعسكر الاشتراكي والخراب الذي لحق بقيادة الامبريالية القديمة – انجلترا وفرنسا – وبزوغ الولايات المتحدة، مع تنامي العمل الوطني ضد الاحتلال، كل هذا أدى إلى تطوير نوعي في شكل الهيمنة!
في البداية، كان الاستعمار يخفر مصالحه بوجوده العسكري المباشر، ومصالحه هي على وجه التحديد، توجيه مسار التطور الاقتصادي للمستعمرة في اطار واضح لا يقبل التأويل : ضرب أي إمكانية لنشوء صناعة محلية عبر منع كل أشكال الحمائية والتعاريف والجمركية بما يجعل المنتج المحلي في منافسة غير متكافئة مع المنتج الاستعماري ما يؤدي إلى خراب الصناعة المحلية وسيطرة الاحتكارات على أسواق المستعمرات وفتحها تماماً وتحميلها عبئ الأزمة الهيكلية. وحصر النشاط الزراعي للمستعمرة في الزراعات المعدة للتصدير، دون أدنى قدر من تكرير أوتصديرها نصف مصنعة، والاستيلاء على المواد الخام بأسعارلم تتوقف أبداً عن انهيار قيمتها الفعلية في مقابل المواد ذاتها بعد تصنيعها ما يخلق انسياباً معاكساً لفائض القيمة، يعد الخالق الأساسي للريوع الامبريالية. إن التبعية تعيد إنتاج التخلف في معادلة أُسية وكأن بلاد الأطراف تنحدر إلى قاع بئر لا قرار له. كان الوجود العسكري للاستعمار يؤمن هذه الشروط، جنباً إلى جنب، وارتكازاً إلى طبقة كلاسيكية من كبار ملاك الأراضي الذين قاموا بوظيفتين، تسيير السياسة الزراعية الخادمة للاستعمار، وحبس التطور الصناعي عبر احتجاز ما حققوه من فوائض.
في أعقاب الحرب العالمية الثانية، واشتداد المد الوطني، صار الحفاظ على الوجود العسكري الامبريالي في المستعمرات مكلفاً، فتتابعت موجات الخروج العسكري من المستعمرات دون أن تفقد الاحتكارات سطوتها عبر طبقة وكيلة تشكلت من كبار ملاك الأرض وكبار الصناعيين الذين نشطوا في الصناعات الاستهلاكية على هامش الاقتصاد الزراعي.
هنا كان التحدي الذي جابه حركات التحرر الوطني يتمثل في تناقض أساسي، بين الطبيعة الطبقية لهذه الحركات المنحدرة من البرجوازية الصغيرة والمتوسطة وطبيعة المهمة المنوط بها انجازها. لقد كانت مهمة تحديث البلاد الطرفية تتطلب الإجابة على سؤال : هل يمكن اللحاق بدول الشمال عبر عملية تنمية رأسمالية من خلال مصادرة كبار ملاك الأرض وتحويل الفوائض إلى التصنيع؟ لقد كان تصدر البرجوازية الصغيرة والمتوسطة لقيادة حركة التحرر ناتج أساساً عن التشوهات التي ألحقتها الهيمنة الامبريالية بالنمط الإنتاجي وبالتالي بالوعى الطبقي للطبقات العاملة في صناعات هزيلة تفتقر للتمركز وبالتالي فشلت في إمداد منظماتها الثورية بالطاقة اللازمة للاستيلاء على حركة التحرير وقيادتها. فلما صعدت البرجوازية الصغيرة للحكم، بعد نضال طويل خاضه عمال وفلاحين المستعمرات دون قدرة على تكليله بالاستيلاء الثوري على السلطة، عانت البرجوازية من تناقضات وضعيتها. وبالتالي جاءت إجابتها على سؤال إمكانية اللحاق في ظل الرأسمالية متوافقة تماماً مع برجوازية مزدوجة الطابع خاضعة لتقلبات الوضع الدولى والإقليمي والمحلي أي تقلبات الصراع الطبقي على كل نطاق جغرافي من النطاقات الثلاثة.
لم تقدم غالبية ماركسيي المستعمرات مساهمة حقيقية في قضية فك الارتباط أو اللحاق، وعلى عكس الخرافة التروتسكية السائدة فإن جريمة تذيل الماركسيين العرب لبرجوازياتهم لا يتحمل وزرها ستالين، بل إن الخروتشوفية هي التي نظَّرت لخرافة التطور اللارأسمالي الذي تقوده قطاعات البرجوازية "الوطنية"، وهي نظرية لاقت هوى لدى الماركسيين العرب الذين كانت تنحدر غالبية قياداتهم التنظيمية من مواقع برجوازية صغيرة. لقد قال ستالين بوضوح، في أعقاب مجزرة الكومينتانج ضد الحزب الشيوعي الصيني، إن "برجوازية المستعمرات قد ألقت راية الحريات في الوحل" وأضاف أنه على الشيوعيين أن ينتزعوا قيادة الثورة، هكذا بوضوح لا يقبل التأويل.
لقد لاقت خرافة الطريق الثالث أو التطور اللارأسمالي حتفها مع البرجوازيات العربية في 1967، لتعيد تلك الهزيمة التأكيد على عُقم برجوازيات المستعمرات التي وُلدت بهكذا تشوه مرتبطة بالاستعمار دونما إمكانية للفكاك. لم يعد الأفق التاريخي مفتوحاً أمام البرجوازيات الطرفية لتلعب ذلك الدور الذي لعبته برجوازيات الشمال، وباستثناء ضرب كبار ملاك الريف لتمويل مرحلة التصنيع القصيرة التي تلت استيلاء ثورات التحرر على الحم، فإن البرجوازية ظلت تدور حول نفسها، غير مدركة لمنطق التحرير وجوهره لأنه ببساطة يقضي عليها بالانتحار طبقيا.
إن الهيمنة في عصر الاحتكارات المعممة، لم تعد علاقة عسكرية مباشرة، أي أنه رغم عدوانية الامبريالية فإنها ترتكز في داخل مستعمراتها السابقة أو أشباه مستعمراتها الحالية على هيكل إنتاج وطبقة وكيلة وجيش محلي وشرطة قمع. لم يعد روكفيللر أو فورد يقفان بنفسهما ورجالهما على أرض المستعمرات ليؤمنوا سيل الفوائض المنزوحة من المنجم والبئر والمزرعة، بل إنهما عهدا إلى عملائهم بهذه المهمة وتبعاتها، والعميل ليس الفرد و إنما الطبقة. إنها الطبقة التي لم تستولْ على سوقها المحلية، ولم تعرف معنى النضال الوطني الذي جوهره الاستقلال الاقتصادي، بل وُلدت في أحضان الكارتيلات التي استباحت السوق المحلية وخربته واعتصرت قوة العمل. هذه الطبقة هى التي تقف ومن أمامها طبقة من المديرين الممتدين عبر بلاد الجنوب يحكمونها بقوة الشركات الاحتكارية عابرة القومية التي تتولى بالأمر المباشر وبالتنسيق مع مؤسسات الإئتمان وصندوق النقد الدولى وضع السياسات المالية والصناعية وسن قوانين العمل وتهيئة جهاز القمع لخدمة أقصى درجات النزح من الأطراف للمركز.
فبأي منطق يتم هكذا طرح السؤال : تحريرأم تغيير؟ إنه منطق يفصل الوطني عن الطبقي، وقد يكون منطقاً ينفي الطبقي من الأساس لصالح وطنية تحلق في فضاء الامبريالية. إنه ذات المنطق الذي فصل منذ أكثر من نصف قرن الثورة الوطنية عن الاشتراكية، فعلَّق آمالاً على برجوازية وطنية تقاتل من أجل سوقها وتنجز تراكماً رأسمالياً كما حدث في الشمال، وفي أي عصر؟ في عصر الامبريالية حيث تبحث الاحتكارات عن كل سوق محلية لتخنقها وتستولى عليها لتدفع إليها بفائض السلع ورؤس الأموال، عصر اشتداد الأزمة الهيكلية للرأسمالية وتعمقها! فكانت النتيجة أن برجوازية الاستعمار خانت الاستقلال الوطني وارتمت في أحضان سيدها ارتماءاً غير مشروط.
تحرير أم تغيير؟
إن هدف النضال هو فتح الطريق أمام تطور لا محدود للجنس البشري، وبالتالي فإن هذا النضال له هدف واضح ومحدد ودقيق، لأننا نتكلم هنا عن تشكيلة اقتصادية – اجتماعية بدأت بالميركانتلية منذ 500 عام تقريبا وآلت إلى أشد أشكال التمركز الرأسمالي الاحتكاري الذي لا يمكنه الاستمرار إلا بدماء المزيد من المفقرين والمسحوقين تحت تروس الاحتكارات، وهي تشكيلة أغرقت العالم بكل الشرور، الفاشية والنازية والتيارات الدينية، الفقر والبطالة والأوبئة، التغير المناخي الذي يفتح احتمالاً لهلاك الكوكب! لذا فإن هدف النضال هو الخلاص من هذه التشكيلة، لم يعد اللحاق بالغرب مطروحاً، منذ أن ساد تقسيم العمل الحالي بين الشمال والجنوب، وقطع طريق التطور أمام البرجوازيات الطرفية فإن اللحاق لم يعد مطروحاً والذين طرحوه طُرحوا أرضاً، إن الهدف الآن هو تخطي الرأسمالية نحو نظام لا يدوس الاحتياجات الإنسانية بل يقوم على إشباعها.
ما هو مقتل الامبريالية؟
إنه حرمانها من المواد الخام وقوة العمل والأسواق الكبيرة لبلاد الجنوب، إذن فالمهمة العاجلة هي حرمانها من هذه الروافد الثلاثة. لم تعد الرأسمالية تتحمل زيادة كُلفة الإنتاج، ولا انسداد أفق التصريف المسدود أساساً نتيجة تدهور الأجور واضمحلال القدرة الشرائية للملايين العاطلة. إن ضرب الهيمنة أي عملية التحرير تبدأ أساساً من تغيير هيكل الإنتاج في المستعمرات السابقة، فك ارتباط اقتصادات الأطراف بالمركز. إن الطبقات التي قادت هزيمة دولة التحرر وخانت الكفاح الشعبي، هي التي أعادت مد الجسور على آخرها مع الاقتصاد الامبريالي، ففي مصر، استوردت البرجوازية السفيهة 3000 سيارة فارهة فقط في السنوات الثلاث التي أعقبت هزيمة حزيران 1967 المروعة، استهلاكاً ترفياً في معمان أزمة الاقتصاد المصري الذي كان بحاجة للعملة الأجنبية لتمويل نفقات التسليح. وهي ذات الطبقات التي تحوصلت في مؤسسات القطاع فاستولت عليها وفككتها لإخلاء السوق المحلية لعودة الكارتيلات من جديد بعد أن أنهت موجات التمصير وجودها في البلد منذ أواخر الخمسينيات. إن قصة تصفية القطاع العام في كافة المستعمرات أكثر ترويعاً من جحيم دانتي، فتحت إشراف صندوق النقد الدولي تم تخريب المؤسسات الإنتاجية العامة وتحويل البلاد إلى أفنية خلفية لفروع الشركات متعددة الجنسيات الني صارت تحكم محل جيوش الغزو مع مطاياها البرجوازية العميلة.
هذا الوضع كله، يؤكد أن التحرير يبدأ بضرب الحلف الطبقي الساهر على حماية المصالح الامبريالية في المواد الخام والسوق، ضرب هذا الحلف الطبقي يعني بأشد التعبيرات وضوحاً تغييراً ثورياً لهيكل الملكية الاجتماعية، استيلاء تحالف بقيادة العمال والفلاحين مع الفئات الثورية من البرجوازية الصغيرة وكافة المعوزين، استيلاء هذا التحالف على المقدرات المادية، أي على السلطة والثروة المحلية، أي حرمان الامبريالية من سيل الفوائض الثلاثة السابق ذكرهم، عبر حرمان الامبريالية من البرجوازية الكمبرادورية التي أمنت لها خلال قرن من الزمن كل مقدرات بقائها المأزوم. هذا التغيير الثوري هو نقطة البدء في الحديث عن إنهاء الهيمنة التي لا معنى لها إلا بإنهاء هيمنة الاحتكارات الامبريالية على مقدرات الكوكب!
ماذا يتبقى من التحرير دون التغيير؟ أي خواء يحمله شعار التحرر من الهيمنة إن لم يكن يتضمن تغييراً ثورياً ينهي هيمنة ووجود المرتكز الطبقي الاستعماري في النطاقات المحلية؟ إن الذي أسقطنا في بئر 1967 كانت تلك التجمعات الطبقية المعادية في الجيش والمؤسسات المؤممة، تلك التجمعات التي من خلالها فشلت الخطة الخمسية الثانية نتيجة عدم القدرة على توفير الموارد في ظل هيمنة القطاع الخاص على 75 % من التجارة في مصر، كان سيد مرعي والقيسوني جزءاً من الحُكم الناصري وكانوا هم رموز الانفتاح الساداتي! كيف انتهى التحرير إلى الهيمنة ولماذا فشلت الوحدة في البقاء و انجاز التحرير؟ لأن الامبريالي كان يمتلك رأس الجسر المحلي الذي مكنه من العمل، والذي كانت تتسرب من خلاله الفوائض التي كان الاقتصاد المحلي بحاجة إليها للتنمية. إن التحرير بهذا المعني هو مشروع اجتماعي لمصلحة وبقيادة الطبقات الشعبية، و إن مقاومة الهيمنة هي في التحليل المباشر هزيمة المشروع الرأسمالي لصالح نقيضه الاشتراكي. أي أنه لم يعد هناك مجال لا لمقولة اللحاق في ظلال الرأسمالية ولا لمفهوم برجوازية وطنية ولا لثورة وطنية معزولة عن ثورة اشتراكية. ليس في هذا حرقاً للمراحل، فالاستعمار كان قد حرق كل المراحل مسبقاً حين ألزم الأطراف بالخضوع لمقتضيات نموه وأزمته. إن الحديث عن مستويات فعل اجتماعي معزولة لا يتنكر فقط لمادية التاريخ ولا يعيد الروح إلى التصورات القديمة عن مراحل التطور الخمسة بل إنه كذلك يصب مباشرة في صالح إعادة إنتاج شروط النهب لأنه ما لم تتجسد مقاومة الهيمنة في تدمير الرأسمالية فإنه لا مجال للحديث عن أي تحرر من أي نوع.
نظرة على الوضع العربي
ما سبق ينطبق تماماً على الظروف العربية، و إن كانت لدينا إشكالية خاصة هي وجود الكيان الصهيوني كقاعدة متقدمة للاستعمار تلعب دور الدركي في نسيج متجانس مع البرجوازية العربية لتسهيل دوران دولاب النهب. ويطرح وجود الكيان الصهيوني سؤالاً عن بأيهما نبدأ، الوحدة العربية أم تحرير فلسطين؟ وفي تقديري، فإن الاجابة على هذا السؤال تتطلب الاجابة على سؤال آخر: من هي الطبقات صاحبة المصلحة في تدمير الكيان الصهيوني؟ إنها بطبيعة الحال القوى الطبقية التي يحرمها الوجود الصهيوني المتضافر مع البرجوازية العربية من قوتها ومستقبلها، وبالتالي فإن تلك القوي الطبقية التي هي بالضبط تحالف العمال والفلاحين والمضطهَدين تحتاج، كي تستطيع مقارعة الوجود الصهيوني بفاعلية حقيقية تتجاوز السقوط البرجوازي في 1967، أقول تلك القوى تحتاج أن تتملك مصادر القوة، أي السلطة والثروة، أي أن تستولي على جهاز الدولة، أن تبني دولتها الثورية وتدمر هيكل الملكية الاجتماعية القديمة وتحسم التناقض المحلي لصالحها، أي أن تبني اقتصادها المستقل المقاتل، في ظل ميزان قوى يميل حتى الآن لصالح المعسكر العدو.
إذن يمكن القول أنه لن يطلق المعركة ضد الوجود الصهيوني في فلسطين سوى الجماهير الشعبية، هذا يعني أن التحرير لا يطلقه إلا التغيير الثوري، أي أن مشروع الوحدة العربية الذي هو وحدة الشعوب المقاتلة من أجل مستقبل لا فقر فيه ولا عوز، هذا المشروع يبدأ بمحو العقبة الأولى في وجه المستقبل الوحدوي الاشتراكي، البرجوازيات العربية التي ستتشابك المعركة من أجل محوها مع تصاعد المعركة من أجل الاستقلال الاقتصادي والبناء الاشتراكي وفي اشتباك حتمي مع الرجعية العربية والامبريالية. لن تندلع الوحدة العربية من العدم، كما لن يسقط تحرير فلسطين من السماء بل إن تلاحم المعركتين وجدلهما هو الذي يستطيع القول أنه لا وحدة عربية حقيقية إلا فوق جثة الرجعية العربية والصهيونية!
هذا هو عالمنا اليوم، وهذا هو عالم الغد الذي نتطلع إليه!
راجي مهدي
مصر