صلاة على الرمال
التأسيس
الشرق الأوسط، هو ذلك الحيز الذي يمتد من بلاد المغرب إلى آسيا الوسطى. هو منبع الديانات السماوية، وعليه كَثُرت الحروب، ومنه انطلقت أخرى. تموضع في قلب العالم جغرافياً، فسكن في كل الأحداث التي حصلت، فشكل بذلك مقصداً للغزوات، ما جعله دوماً في مخاض إعادة التدوير، وفق مصالح تستجد مع كل محطة تشعر فيها إمبريالية صاعدة بحاجتها إلى التوسع والحروب. الأديان كما المعتقدات، لطالما شكلت نماذجَ لحالات من الفرز تاريخياً، كان أساسها سفك الدماء؛ وبالرغم من كون المنطقة مهبط الديانات، إلّا أن الدم، كان هو من يحدد نمط تلك العلاقات وحدودها. الاعتراف بالآخر كان شكّلياً، لا بل كان في كثير من الأحيان، مصطنعاً لستر ممارسات، أقل ما يُقال فيها، إلغائية. هذا السلوك، لطالما امتُهن من داخل الأديان، أي بين المذاهب، أو من خارجها، أي من الآخرين. وما التوتر والحروب والقتل إلّا علامات تلك العلاقة الملتبسة، القائمة على التصفية بقصد الإمساك بالأرض والاستئثار بقوة السلطة الغيبية، كي تُستخدم في خدمة مشاريع سلطوية أو ممارسات حكم وحكّام أرادوا الدين معيناً لهم في أمور الدنيا لبسط نفوذهم وتأبيد هيمنتهم. وعلى ذلك "التأسيس الحاد" سارت أمور الرعية وانتظمت. قامت الدول وخُطّت المشاريع. اندلعت الحروب وأنجزت التفاهمات. المشترك الثابت كان سياسية الأرض المحروقة والقائمة على فالق زلزالي مؤسس لحالات من التبدل الدائم. التربة الحاضنة لنبات الطوائف والمذاهب والأعراق خصبة. وتلك الخصوبة، موروثة من تاريخ أوغل في الدم حتى ركبه، ومستندة إلى حاضر مبني فوق رمال متحركة.
الوظيفة
لقد جاء ذلك التأسيس – الأصل، أكثر رجعية ووضوحاً؛ قوافل الغزاة لم تتبدل مشاريعهم، بل كانت تتطور وتختلف أساليبها، فدخول مدينة القدس خلال الحروب الصليبية كان ثمنها ما يناهز الثمانين ألفاً من سكانها، بما يشبه الإبادة، تحت حجة حماية المقدّسات، ودخول الانتداب – الاحتلال الغربي، أحفاد الذين سبقوا، إلى منطقة الشرق الأوسط وبموجاته المتلاحقة، كانت كلفته أكثر من ذلك بأشواط. هو ذلك المشروع، المتبدلة أزمانه والثابتة أهدافه، والمرتبطة بموضوعَيْ الهيمنة والسيطرة، ولأهداف تخدمه هو بالذات. لقد وجد في ذلك التنوع "الفريد" لعاملي الدين والأعراق البيئة الحاضنة لنمو التطرف، فاستثمر فيها وغذى مصادرها وقوّى شوكتها. الاستثمار في الغرائز أجدى ومفعوله أسرع، فلا يصبح هناك فرق ساعتئذ بين "فرسان الهيكل" و"داعش"، إلّا في الزمان والتسمية، أمّا السلوك فهو واحد والنتائج هي نفسها. لم تكن تلك الممارسات إلّا ركائز لحكم متأصلة أساساته في التركيبة الاجتماعية الموروثة، وما العامل الغربي إلّا المغذي لتلك السلوكيات والمحرك لها والمستفيد منها. فالأرضية، المؤسِسة لذلك التناقض البنيوي بين المكونات الاجتماعية، جاهزة، لا بل متكئة على تاريخ طويل من الحروب والخلافات. فمرحلة "الحروب الصليبية" كانت التجربة – الابتدائية لنمط من حروب، قررت "امبرياليات – بدائية" في أوروبا خوضها خارج حدود جغرافيتها، ومع خصوم متناقضين معهم في الدين والعرق واللغة والتقاليد. وبذلك تكاملت "محاكم التفتيش"، وسجن العقل في مجاهل الغيبية و"الأسطرة"، وحرق العلم والمفكرون، مع نظام سياسي، بدأ بإقطاع مستبد صادر حقوق الناس وانتهى برأسمالية متحورة بخليط من النهب والعدوان والاستغلال، تنشر موبقاته فوق سطح المعمورة قاطبة
الثنائية
على تلك الحال استوى منطق تلك الثنائية التي قامت، بين الفكر الغيبي وعدته وعديده والمشروع الغربي الوافد بنسخاته المتعددة. لقد استخدم هذا النمط في عملية إلغاء الفكر المتنور، فتضافرت الجهود بين السلطات المستجدة، الناتجة من تقاطعات مصالح أصحاب السلطة ورجال الدين، فاستبدلت الامكانات لتوفير المناخ الملائم لولادة ذلك النظام السياسي والاقتصادي، الذي يحكم اليوم. استنساخ ذلك المزيج جرى تعميمه بالغزوات المتلاحقة والنظم المتوالدة، والتي عُممت بصيغ تراوحت بين الانتداب والاحتلال؛ فجاءت فلسطين لتشكل النموذج الواضح لذلك "النمط الدولتي" عندما وُعِد بها يهود العالم لتكون دولتهم المتوارثة من أساطير مشتبه فيها حدّ التزوير. فاكتمل بذلك عقد المصالح المتبادلة بين حكم المال وحكم الطوائف ليستولدا نظاماً مهجناً بعيداً كل البعد عن منطق الأنوار، الذي أرسى حكم الدولة الوطنية والقومية القائم على المؤسسات، والمستند إلى مسألة فصل الدين عن الدولة، وإطلاق العقل وتحريره من أي سطوة دينية كانت أم وضعية. لم تكتمل هذه النقلة، فكانت الحروب التي مزّقت النسيج الاجتماعي لمناطق كثيرة وأزهقت الأرواح، لتسقط "الأنوار" مجدداً تحت وطأة رأسمال متفلت ومتسلّط، مسخّراً العلم لمصلحة أصحاب النفوذ، ومراهناً على عنصر التوتر المتأصل في موروثات الدين والعرق والطائفة والمنطقة، فاجترح ذلك "المسخ" السياسي القائم على القهر والهيمنة وفرض التبعية.
المسار
لم تصمد الأنوار طويلاً بل تعثرت، فسَادَ منطق الرأسمالية الصاعدة، معممة جشعها، فاتجهت إلى حيث يتكامل باطن الأرض بما يختزنه مع سطحها ومع ساكنيه. لقد أتت "بوابير" الانتداب محملة بتعاليم "بطرس الناسك" وأحفاده إلى منطقة لم تشف بعد من أعراض التقسيمات وحروب الأخوة والأقرباء، ويسودها منطق سقيفة بني ساعدة، فأُنتجت نظم وأزيلت أخرى، وكان دوماً الاستثمار في الطوائف هو المعيار الوحيد والوصفة السحرية لسياسة تلك البلاد وعبادها، وكانت الطبيعة الإلغائية للدين أساس ذلك النمط من الحكم ومساره القائم على التقاء قوتين بمصالح متطابقة قائمة على التبادل المرتكز على مصالح فئوية ضيقة، يمكن من خلالها تدجين العامة في اتجاه واحد، وحشرهم في قمقم الانعزال والفئوية بانتظار الحساب في السماء، فتوزعوا شيعاً ومجموعات تعبث بعضها مع بعض، في منازلة تطول ولا تنتهي. لقد أعيد تشكيل المنطقة وفق ذلك المنظور، فلم تهدأ المسارات على وجهة واحدة. لم تبلغ معارك التحرر الوطني خواتيمها الصحيحة بل وقعت في فخ الانقسام الموروث، فتناست المعركة الأساس واتجهت نحو فرض خياراتها التاريخية المسجونة في فكر رجعي، استحضرته، فأعطت للمشاريع القادمة على المنطقة مبرراتها وأصبحت عدة العمل، وما فلسطين والعراق وسوريا واليمن ولبنان وبقية دول المنطقة إلّا النماذج التي جُرّبت فيها تلك العراضات. فالبناء الطائفي/المذهبي لشكل النظم كان كلمة السر التي نُطق بها حين تمت صياغة التركيبة الجغرافية للمنطقة، فكانت النتيجة هذه الأنظمة الموجودة. لقد حمى ذلك المنطق المقلوب على رأسه الفساد والعمالة والارتهان والتبعية والاستزلام وإلغاء الهوية الوطنية، القائمة على المواجهة المزدوجة بين تحديات الداخل وتدخلات الخارج. لقد وضع الحرم على كل مرتكب فحماه، دوماً باسم الطائفة والمذهب، فتلاقى الأخوة – الأعداء مجدداً ورقصوا رقصة المنتصرين فوق رماد الأوطان.
كلمة أخيرة لا بدّ منها
عقيم هو، ذلك الفكر الضيق المستند إلى حكايات متوارثة لا سند لها إلّا في مخيلته. عقيم، حدّ التفاهة، وهو المتكئ على ممارسة لم تتوان عن فعل كل شيء كي تحكم، تبقى وتستمر... هو ذلك التشوه الفكري القائم على ادعاءات جوفاء لا أساس لها إلّا في مخيلة مريضة، عبثاً تحاول التفتيش عن دور تؤديه، فتارة تتسلق على المناصب لتقتنص موقع وزير، وطوراً تتباهى بذيليتها لهذا المرجع أو ذاك، فتعمل مستشاراً، وتحتفي بذلك. هو ذلك الفكر الذي لا يستكين على موقف ثابت، فتجده يفتش بين أكوام القش عن إبرة كي يخيط لنفسه أدواراً افتقدها في مسار نادى بالتقسيم ومارسه... نعم، نحن ضد النظام السياسي الطائفي القائم ونمطه الاقتصادي الذي أوصل البلد إلى الانهيار، نحن ضد حكم الرأسمال المعولم، القاتل والظالم، وضد أصحابه ومؤسساته وحماته، من قوى سياسية وإقطاع وحيتان مال ورجال الطوائف المنحازين له والمعتاشين من خيراته، نحن ضد هذا النظام المحمي من هؤلاء، والذي لا يمس بمصالحهم بل يرعاها ويحميها ولو على حساب حياة كل الشعوب ومستقبل أبنائها، سنواجه هذا النظام ورعاته وقواه وداعميه مهما علا شأنهم؛ لقد نهب وأفقر وجوّع ونكّل، وقائمة إجرامه تطول، ولائحة حسابه أيضاً تطول. بناء عليه، إذا كان "الكابيتال كونترول"، هو من نتاج الشيوعية، وهو ليس كذلك، فنحن لن نطالب به فقط، بل سنستكمله بالعمل على زج كل من توالى على السلطتين السياسية والاقتصادية، ومن ضمنها المالية، المشتبه فيهم وزجهم في السجون، بعد محاكمة علنية وأمام الشعب اللبناني. بائس هو، ذلك الذي ينتظر على الطرق ممنناً النفس بدور ربما سيلعبه؛ نعم الشيوعية هي فكر وممارسة، منحازة الى كل فقراء العالم وعماله ومثقفيه ومضطهديه، منحازة ومنادية بالتحرر والتحرير والتصدي للعدوان. هي الفكر الثوري المنفتح الذي يكره الجمود ويحارب الظلم والجهل وينادي بالأوطان الحرّة والشعوب السعيدة. نظن بأن هذا ما يزعجك، ولذلك تحذّر من عودة شبح الشيوعية إلى لبنان؟