الخميس، تموز/يوليو 18، 2024

مجد لبنان... لشعبه فقط

رأي
هو التاريخ الذي يكتب، يُنصف، يغالي، يجانب الحقيقة أو يجافيها. هو من ستتوارثه الأجيال أباً عن جدّ، يدّرس في الكتب، وتتناقله الألسن؛ فيه من الواقع والمتخيّل والمفترض والمدسوس ما لا يمكن فصل عراه، فقد كُتب من أقوياء انتصروا، قهروا شعوباً، فصاغوا لهم تاريخاً ليفتخروا به أمام آخرين، ولكم كانت في ذلك التاريخ مصائب، رُميت فوق رؤوس الورثة، أثقلت مستقبلهم بقضايا، سيحملون نوء أثقالها مدى الدهر.


لقد ابتليت شعوبنا العربية بمورثات ضاعت، ضاقت بين الثأر وسباق الهجن والتاريخ والسيف والقتل والفتوحات والشجاعة والفروسية وإغاثة الملهوف، وأيضاً بالبسوس وحربها، وداحس وغبرائها، وسقيفة بني ساعدة... هو مسار موغل في الرمال حتى الركب، وتحت أشعة شمس حارقة، تذيب العقل وتذهب به، فصيغ وفق مقاسات معينة وتحت أعين نظّار المواقف ورسم الأدوار، ليصبح ملتبساً متناقضاً، وإن بتوازن مدروس حدّ القسمة. وعليه لا يزال ذلك التاريخ، المتفق عليه توارثاً، مادة حاضرة لصراع لا يزال مستمراً، وقد تستلّمت راياته مكونات مختلفة، وليس الحاضر اليوم إلّا الشاهد الحي عن الذي كان.
لقد ابتُلي هذا "اللبنان"، الواقع على فالق التناقض القاتل بين وجهتين متناقضتين حدّ الاختلاف. لم يشأ بأن يكون عربياً خالصاً بل مزيجاً من تركيبة ملتبسة، فكان على حدّ الزعم المتوارث، كما لو أنه حقيقة دامغة، صلة الوصل بين عالمين مختلفين، لا تاريخ يجمعهما ولا ثقافة؛ هو الشرق من الغرب والعكس، لا صلة ولا اتصال بينهما، بل تاريخ من حروب، "دينية" بالشكل، استعمارية بالواقع، لقد كان الدم هو نمط العلاقة بين ذينك العالمين المتباعدين بُعدَ مشرق الشمس عن مغربها. فكيف لذلك الفتى الغرّ، الذي بالكاد بلغ عمر الحلم، في مئوية ملتبسة في كل مآلاتها، أن يكون تلك الوصلة القوية والمزعومة بين جبيلي المتناقضات المتكئة على تاريخ لم يُحسم تفسيره بعد.
وها هو لبنان اليوم، يعيش مخاض أزمة نظامه السياسي المتداعي، أزمة بنوية ناتجة من أساسه؛ فالأساس هو المعطوب بنتيجة التركيبة والوظيفة التي حيكت للبنان منذ ولادته. لم تكن تلك الصيغة نابعة من حاجة موضوعية مرتكزة على مصالح المواطنين، وتوقهم لبناء دولتهم واختيار نظامها السياسي، الذي يعكس أهدافهم ويحقق طموحاتهم وينجزها. لقد اختُرع هذا الكيان بطريقة استيلاد قيصرية، في التركيبة الجغرافية وأيضاً الطائفية، فجاء على صورة الارتجال المتسرع لولادته. لم يكن هذا الوليد – القادم من مخاض سايكس بيكو إلّا كما أقرانه: دول غير قابلة للحياة بمفردها، فهي بطبيعتها تنقصها المناعة، فحدود التقسيم، منعت قيام الأطر المستقرة والقادرة على القيام بما يترتب عليها اتجاه شعوبها، قاصرة وبحاجة إلى وصاية ورعاية مستدامة، عاهته مستدامة لا براء منها. أعطوه صفة الدولة من دون مرتكزات حقيقية، فضاع بين الأسطرة والمتخيل من المواصفات، فابتُدعت له الصيغ والمصطلحات، التي لا تشبع أو تغني من جوع. فصدّق ما قيل عنه ويُقال، وعليه بدأ مشواره بوهمٍ مستحكم بسلوكه على الدوام...
معركته اليوم هي حول مرجعيته السياسية وتموضعه في الصراعات المتكاثرة من حوله، وليس على المحاصّة فقط. هي ليست معركة دستورية، أي معركة تغيير أكثريات، بل أوسع من ذلك. فقوى النظام اليوم تتقاتل في ما بينها على آلية توزيع المكاسب وإنقاذ ما يمكن إنقاذه، من سلطة استنزفت مقدراتها فأصابها العجز المؤدي إلى الانهيار. تتقاتل، فيما بقية من بلدٍ تنحدر إلى القعر؛ فرز طبقي واضح بين أقلية مدعومة بسلطتي رأس المال وأصحاب الطوائف، وشعوب تتقاذفها الأهواء المذهبية، مستجيبة بمطواعية مفرطة للنعرات المذهبية، فتنقسم شيعاً وجماعات، مع العلم، بأن أكثريتهم لا تمتلك قوت يومها. هي "الأمم اللبنانية" الغارقة اليوم في نبش الأحقاد واستخدامها في لعبة نظام سياسي امتهن سلوك الضم والفرز، مستعيناً باحتياطه، من أصحاب الطوائف الجاهزين وغب الطلب، دوماً للمدد، متأهبين لوضع الحرم، مستنجدين بأمر الدين والسماء، ومن خارج يقف على الباب منتظراً، إن لم يكن قد أصبح في كل زوايا الغرف. هنا العلّة وعليه يجب أن يتحدد الترياق اللازم؛ نظام استنفد كل أوراقه، لم يبق له سوى الإجهاز على ما تبقى من مقدرات شحيحة. تمنطق بعدة "الشحاذة" وعديدها، ليدور بين الأمم والأقوام باسطاً يده إلى مزيد من الديون واستجلاب المزيد من الهيمنة، واستجابة طوعية للشروط ومهما كانت، في لعبة تبعية عمياء لم تهدأ ولم تستكين منذ الولادة، إلى اليوم، الذي يدخل فيه شيخوخته المبكرة.
أصل العلّة، إذن، هو النظام وأصحابه؛ من متزعمي السلطة، الأصليين والورثة والأبناء والأحفاد، وأصحاب المذاهب وأربابها، ورأس المال المتموضع على كل الطرق والمفترقات. إذ لا فرق هنا، بين الفاعل والساكت عنه، فكلاهما متواطئ ومشتبه فيه. لم تنفك عرى تحالفهما، لا بل تراها تتمكن أكثر فأكثر. لم يتركوا أحداً إلّا واستجلبوه، حتى العدو الصهيوني بخطره الدائم وخروقاته الأمنية، وأطماعه في لبنان التي لا تزال قائمة... لم يتوانوا عن إطاحة التركيبة متى بان منها وهن أو عجز ودوماً لمصلحتهم وأوليائهم. وها هم اليوم، مجدداً، والبلد في أتون مفرمة اقتصادية مالية وصحية، ومن على المنابر يتباهون بطلب الخارج ويجاهرون باستدعائه، متوسلين تدخّله لفرض مسار داخلي. هنا المشكلة وعليها وجب التصويب وبوضوح.
من هنا لا بد من تفويت الفرصة على النافخين بنار الفتنة أو التوترات الداخلية، أو المستعجلين وراء التدخل الأجنبي والتدويل، وذلك بالعمل عل تكوين تيار سياسي وشعبي رافض لكل تلك المحاولات، ومن خلال مشروع نضالي يهدف إلى التغيير الشامل، والانتقال بلبنان من نظام المحاصّة الطائفية إلى نظام وطني ديمقراطي حقيقي، يرسى بناء الدولة العلمانية الديمقراطية المقاومِة، القائمة على المواطنة والعدالة الاجتماعية وسيادة القانون والفصل الكامل بين السلطات. وللتأكيد أيضاً، بأن وطنية لبنان وعروبته هما هويته وعلّة وجوده، وخيار المقاومة بمختلف الأشكال هو خيار وطني يتعيّن الاستمرار به والحفاظ عليه وصونه، ما دام جزء من الأرض لا يزال محتلاً وخطر العدو قائماً، ولا يجب التفريط بهذا الخيار، بل صونه وجعله مهمة وطنية لكل اللبنانيين، وليس لاستخدامه في التناقضات المحلية لتغليب فريق على آخر. هذا المشروع يحتاج من قوى التغيير الديمقراطي خلق موازين قوى جديدة، عبر المبادرة والتفاعل مع المطالب الشعبية والقطاعية، وبناء الأدوات وصوغ البرامج السياسية والشعبية الموحّدة للجهود لإطلاق انتفاضة وطنية ديمقراطية تفرض الانتقال إلى مرحلة انتقالية تدير البلد، من خارج المنظومة الحاكمة.
أمّا الشعب اللبناني، الواقع اليوم بين حدّي الموت الناتجين من الجوع والمرض، فعليه أن يستعيد التفويض إلى يديه؛ لقد منح هذه المنظومة أصواته، وها هي تستخدمه للدفاع عن مصالحها، وتقدمه يومياً أضحية على مذبح سياساتها الانتحارية، حيث أودت بكل عناصر قوته. لقد صبر وتحمّل، سامح وغض النظر، فهو الذي قاوم ولبّى نداء السلاح عندما احُتلّت عاصمته بيروت، فرد الصاع صاعين: له يجب أن يُعطى مجد لبنان وليس لغيره... هو صانع هذا المجد ومستحقه.