الأحد، كانون(۱)/ديسمبر 22، 2024

من هي القوى المؤهلة لتحرير لبنان كـ "شبه مستعمرة" تحت الانتداب الفرنسي؟

  جوزيف عبدالله
رأي
في مطلع مئويته الثانية لبنان يعود أدراجه إلى عصر الانتداب الفرنسي بدون جنود احتلال. هو اليوم "شبه مستعمرة" فرنسية بمباركة أميركية. وليس أدل على ذلك من أن الرئيس الفرنسي ماكرون يجمع رموز الطبقة المسيطرة اللبنانية (جميع ممثلي الأحزاب والتيارات الحاكمة) في قصر الصنوبر، الرمز التراثي للاستعمار الفرنسي في لبنان، ويملي على هؤلاء "العضاريط" خطة عملهم تحت التهديد بالاقتصاص من المقصرين. بالطبع جميع قادة الطبقة المسيطرة غير ملتزمة كلياً فحسب، بل هي تبشر سعيدة بالإملاءات الفرنسية، وبعضها يتبختر زهواً بما يوهم به الناس بأنه انتصار.


ما الذي يجري في البلاد؟ أيعقل أن يأتينا زائر فرنسي، وفي جعبته مجموعة من "المحميين"، هم من "التراجمة" اللبنانيين- الفرنسيين، ليملي على الشعب اللبناني واحداً منهم رئيساً لحكومة لبنانية، وبمواصفات فرنسية كاملة لشكل حكومة مطلوب تشكيلها، ويحدد برنامجها، وليعين لهذا البرنامج شخصيات من "المحميين- التراجمة"، أو من الفرنسيين الصرف، لتنفيذ خطوات أساسية في المالية العامة اللبنانية (إدارة المصرف المركزي، وهيكلة المصارف) وفي إصلاح وإدارة مرفأ بيروت، وفي الكهرباء وفي ...! أيعقل أن يطأطأ الرأس "سمعاً وطاعة" كل هؤلاء القادة الشامخين سابقاً على الفضائيات والمتواضعين راهناً في حضرة المندوب الفرنسي؟!
عودة إلى مفهوم الاستعمار الرأسمالي: "الامبريالية"
لا بد من العودة إلى طرح مفهوم الاستعمار الحديث لنصل منه إلى توضيح مفهوم التحرر الوطني (أو القومي). إن الاستعمار الحديث ملازم في نشوئه وصيرورته للتطور الرأسمالي (أو معايش له أومندمج فيه)، منذ التراكم "الأولي" (أو "البدائي") للرأسمال حتى اكتماله في أعلى مراحله: "الامبريالة أعلى مراحل الرأسمالية". ولقد بلغت هذه الحركة ذروتها في العقود الثلاثة الأخيرة من القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين، عندما أصبحت "الكارتيلات أساساً من أسس الحياة الاقتصادية بأكملها، تحولت الرأسمالية إلى امبريالية" .
وإن شئنا تعريف الامبريالية (الاستعمار الحديث، أو الاستعمار الرأسمالي) لقلنا: "الامبريالية هي الرأسمالية في مرحلة من التطور تكونت فيها سيطرة الاحتكارات والرأسمال المالي ("الاقتران الشخصي" بين الرأسمال الصناعي والرأسمال البنكي) واكتسب تصدير الرأسمال أهمية كبرى وابتدأ تقاسم العالم بين التروستات العالمية وانتهى تقاسم الأرض كلها إقليمياً بين كبريات البلدان الرأسمالية" .
تقاسمت كبريات البلدان الرأسمالية مناطق العالم كمستعمرات (مناطق تم احتلالها مباشرة) من جهة أولى، ومن جهة ثانية، هناك بلدان لم يتم احتلالها مباشرة وكانت "مستقلة رسمياً من الناحية السياسية" ولكنها تابعة مالياً ودبلوماسياً للبلدان الامبريالية، وقد سماها لينين "البلدان شبه المستعمرة" كإيران والصين وتركيا. ولقد اعتمد لينين في تسميته هذه على أبحاث باحثين غربيين، واستشهد بكلام "شولتزه-غيفيرنيتز في مؤلفه عن الامبريالية البريطانية: "إن أميركا الجنوبية ولا سيما الأرجنتين في حالة تبعية مالية للندن لدرجة ينبغي نعتها بأنها تقريباً "مستعمرة تجارية بريطانية"... ويضيف لينين: استناداً إلى تقارير قنصل النمسا-المجر في بيونس آيرس في سنة 1919... "من اليسير على المرء أن يتصور مدى وثوق الصلات التي يكتسبها بحكم ذلك، الرأسمال المالي الانكليزي- و"صديقته" الحميمة، الدبلوماسية الإنكليزية- مع برجوازية الأرجنتين وأوساطها القائدة لكامل حياتها الاقتصادية والسياسية" .
تعميم انتشار أشباه المستعمرات
لم يعد في العالم اليوم استعمار عسكري- استيطاني غير في فلسطين مبدئياً، وفي الجولان السوري وبعض الأراضي اللبنانية، وبشكل موارب في الأردن. ولكن ثمة الكثير الكثير من أشباه المستعمرات، هي تلك البلدان الخاضعة لإملاءات البلدان الامبريالية اقتصادياً وسياسياً، خصوصاً عبر آليات صندوق النقد الدولي والبنك الدولي والكثير من مؤسسات الأمم المتحدة. فبعد نضالات حركات التحرر الوطني ضد الاستعمار الحديث (الامبريالية الرأسمالية)، زال الاستعمار الرأسمالي (الامبريالية)، وحصلت المستعمرات على استقلالها السياسي. وفي الكثير من البلدان حلًت مكان الامبريالية (الاستعمار الرأسمالي) "أشباه المستعمرات"، التابعة والخاضعة اقتصادياً ودبلوماسياً للمراكز الامبريالية. إن اشباه المستعمرات القديمة (البلدان التي لم تخضع لاحتلال عسكري وبقيت محافظة على استقلال سياسي، والتي كانت تابعة وخاضعة للامبريالية اقتصادياً، كمركز للمواد الأولية ولتصريف السلع الأجنبية) والحديثة (بعد زوال الاستعمار المباشر، وبقائها مزودة للمواد الأولية وسوقاً لتصريف سلع البلدان الامبريالية) تتمتع باستقلال سياسي شكلي ولكنها لا تسيطر على مصيرها الاجتماعي والاقتصادي.
معنى الامبريالية وهدف التحرر الوطني
إن لبنان اليوم، خاصة مع البرنامج الماكروني الفرنسي، هو "شبه مستعمرة" بكل معنى الكلمة. وهذا ما يدفعنا إلى التساؤل: أين قوى "حرية، سيادة، استقلال"؟ أين قوى "الحياد" اللبناني الأصيل؟ أين قوى الممانعة وفي صلبها المقاومة؟ باختصار أين قوى الطبقة المسيطرة في لبنان من المشروع الماكروني؟ قبل الشروع في الإجابة على هذه الأسئلة لا بدّ من التوقف أمام مفهوم الاستعمار الرأسمالي (الإمبريالية).
توقفنا مطولاً بعض الشيء حول مفهوم الاستعمار الحديث (الامبريالية) ومفهوم البلدان المستعمرة وأشباه المستعمرات، لنلقي الضوء الفعلي حول معنى حركات التحرر الوطني واهداف هذا التحرر وجوهر برنامجه. فكل حركة الاستعمار، قديمه وحديثه، إنما جوهرها ليس مجرد إخضاع مجاني لأبناء بلدان المستعمرات، بل هو السيطرة على مواردها وثرواتها (المواد الأولية) وجعل هذه البلدان مجالاً لتصريف السلع المنتجة في البلدان الامبريالية، اي إخضاع واستتباع اقتصاد المستعمرات لاقتصاد البلدان الامبريالية. وعليه لا تبلغ حركة التحرر الوطني مرادها الفعلي بمجرد التحرر السياسي وطرد المستعمرين، بل عليها تحرير الاقتصاد من التبعية للاستعمار الرأسمالي (الامبريالية).
إن الطبقة المسيطرة (البرجوازية اللبنانية)، وفي الطليعة منها الطغمة المالية، لا تخفي تبعيتها العضوية أو اندراجها الفعلي في المشروع الماكروني باعتباره من صلب مشاريع الهيمنة الامبريالية، عبر المؤسسات المالية العالمية الممثلة لهذه الامبريالية (البنك الدولي، صندوق النقد الدولي، مؤسسات الأمم المتحدة...). وفي هذا السياق يندرج سلوك التيار العوني وتيار الحريري والحزب الجنبلاطي وحركة أمل والقوات اللبنانية. ولا نستغرب مطلقاً ترحيبها بالمشروع الماكروني، لا سيما وأنه يتعمد حمايتها بتغييب مسؤولياتها المدمرة للاقتصاد اللبناني ونهبها للمال العام والخاص ومسؤوليتها الإهمالية على الأقل في جريمة انفجار مرفأ بيروت. وعليه ليست هذه القوى من طبيعة طبقية تدفعها للدفاع عن مصالح الوطن وسيادته الاقتصادية وحتى السياسية.
غير أن تساؤلنا حول موقف حزب الله ينطلق استناداً لدوره الكبير في مقاومة العدوان الصهيوني، وحجم تضحياته بشهدائه وجرحاه. أليس هو حزب المقاومة الإسلامية؟ وبالتالي هو المكون الأساسي في حركة مقاومة العدو الصهيوني. ولكن المشروع الماكروني ينطوي على جانب كبير مفيد لحزب الله. ففي الوقت الذي تشن فيه فئات لبنانية واسعة هجوماً متلاحقاً عليه، جاء ماكرون ليضفي على هذا الحزب موقعاً ممتازاً في لبنان، ما يشكل دفاعاً بل دعماً له. وذلك مقابل خذلان لقوى سياسية وروحية (مسيحية خصوصاً) معادية له. فهل في ذلك ما يُفسر تأييد حزب الله للتدخل الفرنسي؟ أم هناك احتمال لنوع من "مساومة" بين فرنسا وإيران، وقد تكون الولايات المتحدة غير بعيدة عنها، ما يجعل حزب الله بالضرورة يتصرف على ضوء هذه الحيثية، لا سيما وأن الأحادية الأميركية تتراجع فعلياً على المستوى العالمي، مفسحة في المجال لتعددية قطبية مركزية، منها الصعود الصيني والروسي، ومنها تعددية قطبية إقليمية، كالصعود التركي والإيراني. بالاضافة إلى انعكاس (أو استفادة) صعود التعددية القطبية في المشرق العربي، من شيوع الفراغ العربي الهائل، لا سيما في العراق وسورية...
بيد أن جوهر موقف حزب الله من المشروع الماكروني وتأييده، نقرأه استناداً إلى تحليل المفكر مهدي عامل لأزمة حركة التحرر الوطني العربية بقيادة البرجوازية. يرى مهدي عامل: "البرجوازية التي هي... في موقع القيادة (قيادة حركة التحرر الوطني) ليست مؤهلة لأن تكون فيه، أي أنها ليست فيه في مكانها الطبيعي، بسبب موقعها الطبقي في علاقات الإنتاج الكولونيالية، وبالتالي، بسبب التناقض القائم بين موقعها الطبقي هذا وبين موقعها في قيادة حركة التحرر. والتناقض هذا مأزقي لأن سيرورة التحرر الوطني هي، في ضرورتها التاريخية، سيرورة تحويل علاقات الإنتاج الكولونيالية" . ولكن هذه البرجوازية، وقيادة حزب الله منها، لا تقول ولا تعمل على تحويل علاقات الإنتاج الكولونيالية، بل تصر على المحافظة عليها. ولهذا فإن "البرجوازية وهي في موقع قيادة حركة التحرر تستبدل علاقة التناقض التناحري مع الإمبريالية بعلاقة تساوم معها، فتنحرف عن سيرورتها الثورية" . كما أن حزب الله حرصاً منه على تماسك "الطائفة" واستتباع فئاتها الكادحة خلف قيادته وقيادة حليفته حركة أمل، وحرصاً على التحالف مع قيادات جميع الأحزاب "الطائفية"، فهو يستبعد أي فكر يقول بالصراع الطبقي وبمواجهة الرأسمالية والامبريالية، ويكتفي في قضية التحرر الوطني بطرد المحتل، والبقاء على نظام التبعية للرأسمالية والامبريالية.
ولعل حزب الله يعمل وفق المشروع الإيراني في بناء اقتصاد رأسمالي مستقل يكون على غرار الرأسمالية الغربية. وفي ذلك استحالة. فلا يمكن للبرجوازية الإيرانية تطوير الرأسمالية الإيرانية إلى رأسمالية مستقلة متحررة من السيطرة الإمبريالية، دون العمل لبناء اقتصاد منتج في الزراعة والصناعة، وعدم الاعتماد على اقتصاد الريع والتوزيع. هذا دون أن نشير إلى أن الرأسمالية العالمية بحد ذاتها تعيش أزمة متجددة باستمرار، ورأسمالية إيران وغيرها من البلدان المستعمرة سابقاً نشأت مأزومة من الأصل، لأن الامبريالية التي أسستها، أنما أسستها وهي في زمن أزمتها بالذات. إن مثل هذا التصور يقوم بالطبع على "جهل تام بما هي الامبريالية". وهذا ما تتوهمه (أو تتذرع به) القيادة البرجوازية في حزب الله من تطوير الرأسمالية اللبنانية، وهي كولونيالية بالطبع. فالرأسمالية الكولونيالية "تجد مصلحتها الطبقية الأساسية في تأبيد علاقات الإنتاج الكولونيالية القائمة، وبالتالي، في تأبيد علاقة التبعية البنيوية بالإمبريالية..." . نختم بسؤال العنوان: لبنان اليوم "شبه مستعمرة" تحت الانتداب الفرنسي. فمن هي القوى المؤهلة لتحريره؟


الامبريالية أعلى مراحل الرأسمالية، لينين، المختارات في 10 مجلدات، المجلد 5، ترجمة الياس شاهين، دار التقدم ، موسكو، 1976. ص 439
المرجع السابق، ص 525.
3 المرجع السابق، ص 520-521.
4 مهدي عامل، النظرية في الممارسة السياسية- بحث في أسباب الحرب الأهلية في لبنان، ط. 3، 1990. ص 31.
المرجع السايق، نفس الصفحة.
المرجع السابق، ص 34.

# موسومة تحت : :