كي لا تضيع البوصلة!
الذين يستغبون الناس ويحرفونهم باتجاه "الغامض" حيث "السعادة الأبدية" على حدّ زعمهم. وعلى ذلك الفالق المهدد دوماً لحياة ملايين البشر ستسير الأمور وستحدد أشكال التعارض وكيفية التعبير عنها.
اليوم، ونحن نواجه أخطر أزمة اقتصادية ومالية، وأبشع وباء يضرب العالم ــ بعد الرأسمالية طبعاً ــ وهو "الكورونا"، الذي فتك بجميع الدول، بغض النظر عن أحجامها أو مكانتها، إلّا أنه عرّى، بشكل خاص، النظام العالمي الحاكم منذ تسعينيات القرن الماضي باسم الانتصار "التاريخي" للرأسمالية والليبرالية، المتحكمة في السياسة والاقتصاد، على حساب قوى الطبقة العاملة وأحزابها، في نهايات مرحلة الانقسام الذي وسم العالم بطابعه بعد الحرب العالمية الثانية. مستجدات أرخت بثقلها على كاهل البشرية جمعاء، ما يدفعنا لطرح أسئلة مفصلية، المطلوب منّا التجرؤ عليها بإجابة واضحة، لا تحتمل التأويل أو التغيير أو الإلتباس: لماذا لم ننجح، نحن كأحزاب وقوى وطنية ــ عمْرُ بعضنا اليوم قارب القرن من الزمن ــ في بناء، أقله الدولة الوطنية القادرة على تحمل عبئي، التحرر الوطني وبناء البنى الاقتصادية المنتجة من جهة، وفك أواصر التبعية وكسر الهيمنة من جهة أخرى؟
لتنشيط إمكانيات خوض هذا الامتحان بالرد عن هذا السؤال الصعب والمعقد، لا بدّ لنا من الركون إلى ثوابت كي ننطلق منها لنستطيع بناء أجوبة مقنعة، وإذا التبس علينا، أو عند البعض منّا، فك رموزه أو فهمه، فلنذهب إلى سؤال آخر ــ مفتاح أشد وضوحاً وأسهل جواباً: أليست الولايات المتحدة الأميركية ومشروعها الإمبريالي، وبكل أدواته، هما الخصم والمشكلة التي علينا التصدي لها؟ هنا الإجابة واضحة وضوح الشمس، وإذا إلتبست عند البعض، فهذا يعني بأن خياره يصب إلى جانب المشروع السالف الذكر، سواء أكان يدري أم لا. وفي هذه الحالة سيكون في موقع المشتبه به.
إن تجهيل السبب كما الفاعل يساهم في الابتعاد عن مقاربة لبّ القضية واستكمالاً اختلالاً في المعالجة. ولكي لا نقع في فخ التجني أو الافتراء وسوء النيّة، فإننا سنعاود فكفكة أحداث مئة عام في منطقتنا بجملة واحدة: أليس ما جرى ويجري هو استعمار غربي لمنطقة، شتت كياناتها وسرق خيراتها وأورثها نظماً هجينة، وأوجد في قلبها نظاماً عنصرياً قاتلاً وعدوانياً، شكّل بوظيفته موقعاً متقدماً للمشروع الإمبريالي، الهادف لمنع شعوب المنطقة من التلاقي والوحدة؟ وأليست هذه بواكير الغزو الغربي لمنطقة الشرق الأوسط؟
هو، بالطبع والشكل والنتائج، غزو وقد اتخذ أشكالاً وشعارات متعددة، وحملت رايته دولاً متنوعة، وإن غلب عليها جميعاً الطابع الاستعماري القائم على الحروب والقتل والنهب. فالنتيجة المحققة، كانت هيمنة استعمارية وكيانات تابعة واستلاب اقتصادي، حوّلت الامكانات والموارد الطبيعية ومصادر الطاقة ومشتتقاتها والمياه بالإضافة إلى الموقع الجيوسياسي... إلى ميدان تتجاوز فيه الارتكابات الخارجية مصالح شعوبنا وتهدد مستقبلهم. فالبلاء هنا مزدوج؛ مشروع إمبريالي غربي مسكون بعقلية التعالي والفوقية والهيمنة، ونظم سياسية حاكمة، مسكونة بالدونية والعجز أمام كل قادم من جهة الغرب، وعليهما تكونت رذيلة الاستتباع وتبادل الخدمات ولو على حساب الشعوب، وهذا ما حصل.
على هذه الأرضية، لا تستوي الأمور على صراط قويم وواضح، فالعبور فوق نار المشروع، المتمادى فيه في منطقتنا حدّ الإجرام الموصوف، لن يكون بكثرة الدعاء عليه ولا بالتمني لو يعود من حيث أتى، بل بمشروع آخر نقيض، واضح الأهداف: تحرر وطني ناجز، بناء دول حقيقية بمضمونها السياسي والاقتصادي، وقطع يد التدخل الغربي بكل أوجهه، وخلق ديناميات محلية قادرة على المواجهة والتكامل بين شعوبها. هنا نستطيع أن نقول بأن خط انطلاق المواجهة سيصبح معقولاً ويمكن البناء عليه. لقد بدّلت دول الاستعمار أشكالها وسلوكياتها وطرقها وسياساتها بشكل يتلاءم مع المستجد الحاصل على الصعيد الدولي. فمسار النظام الرأسمالي، بشقّيه الاقتصادي والسياسي ــ العسكري والمتحالف مع منظومات مالية وغيبية، ومتسلحاَ بأمرّي الدنيا وما ورائها، لم يواجه بشكل جدّي طيلة القرن الماضي وبداية الحالي إلّا مرة واحدة أبان الحرب الباردة: عندما قدّم الاتحاد السوفياتي ومنظومته الاشتراكية أنفسهم كمشروع نقيض، وبديل جدّي أمام البشرية، معادي للرأسمال المعولم، ومن موقع إيديولوجي وطبقي مُعلن ومنصوص عليه.
لم ينجح ذلك البديل ثم سقط، لأن استشعار الغرب بخطورة طرحه المبدئي جعله يستنفر كل عدته وعديده، من دول تمتلك إمكانات كبرى، عسكرية واقتصادية ومالية، إضافة إلى نظم تخلف، خليط من ديكتاتوريات متوارثة أو انقلابية، بالتكافل والتضامن مع منظومات دينية، سخرت حاجة المواطن وفقره وسيطرت عليه بأمر السماء، وصولاً إلى الحروب المباشرة، السياسية والاقتصادية والعسكرية، والتي استنزفت مقدرات كبرى كانت بحاجة إليها الشعوب الفقيرة في معركة التحرر الوطني؛ لقد كانت منازلة غير متكافئة، أسقطت البديل لمصلحة مشروع الهيمنة والابتزاز، المدّعي الانتصار النهائي، مزيلاً بمقولة نهاية التاريخ ودخول العالم في أتون نظام أحادي النموذج.
من هنا نجد، بأن وضوح الأشياء يجعلها في متناول التحليل الصحيح والاستنتاج المؤكد؛ فالولايات المتحدة الأميركية لم تألو جهداً إلّا واستخدمته في سبيل تنفيذ مخططاتها، ما يهمها هي النتيجة، حتى ولو لم تكن من فعلها. فهي لم تتوان عن استخدام أيّ كان في سبيل تسهيل مهمتها وفتح الطرقات رحبة أمام تحقيق مبتغاها. الأمر هنا يتخطى المنطق الرياضي إلى المنطق المقلوب، القائم على أن الغاية من الشيء هي الهدف المفترض الوصول إليه. وعليه، تصبح الوسيلة أمراً ثانوياً؛ فما من إمكانية أو سلوك، ومن أي جهة أتى أو كان، يمكنه أن يقدم خطوة إضافية في مسار التنفيذ، فليُستخدم، بغض النظر عن اليد التي تشغّله. لقد أعلنت الولايات المتحدة الأميركية، جهاراً نهاراً بأن مصالحها هي الأبدى وأن هيمنتها هي الأبقى وما على العالم، بدوله وشعوبه وخيراته، إلّا أن يكون في خدمة ذلك اليانكي المتغطرس. أشعلوا الحروب بمختلف أنواعها والحصار والعقوبات والنهب والبلطجة... لم تردعهم رادعة أو توقفهم حدود. جاروا واستبدوا، صنعوا الإرهاب على شاكلتهم ومولوه ونشروه كوباء ابتيلت به البشرية، وها هم اليوم يبتزون، وبالأخص حلفائهم، من أجل كسب مال إضافي كانوا قد نهبوا جله آنفاً. على تلك الأرضية تصبح آلية المواجهة واضحة؛ كسر الإمبريالية الأميركية و"سلبطتها" على العالم هي فعل أمل لكل الشعوب. ومنع الهيمنة والسيطرة والتدخل ولجم السرقة الموصوفة، باسم "دولرة" اقتصادات العالم كي يسهل التحكم، أصبح بدوره ممراً إلزامياُ لوقف القهر والثورة عليه. وفتح أفق آخر أمام البشرية ــ مساراته تناقض ما هو سائد وتتعارض معه ــ أضحى ضرورة موضوعية تستوجبها حالة العالم المثقل بتداعيات أمراض الرأسمالية وآفاتها.
هو عالم موصوف بما يحدث فيه، وموسوم بنكهة استعمارية لا تزال تجدد نفسها عند كل استحقاق، تمارسها نظم وحكومات غربية، وعلى رأسها الولايات المتحدة الأميركية؛ الأفق المعقول أمام الشعوب هو دحر ذلك المشروع وعلى قاعدة كسر الهيمنة الامبريالية على العالم، وقطع يد السارق الممدودة إلى جيوبنا إذا أمكن، ومن ثم وضعه في الحجر. هو مسار حتمي عندما تكون الرؤية واضحة: نظام عالمي، معولم ببطشه وبقلة أخلاقه، معروف بانحيازه لرأس المال وعدائه المفرط لكل فقراء العالم... فليكن إذن السيل جارفاً في اتجاهه، وإن تغذى من روافد متعددة، نهاية المطاف سيكون كسر التبعية والاستبداد، نراه بهذا المعنى هدفاً مشروعاً... ويستحق...
أخيراً، ... وفي يوم النكبة، تحية للأرض التي تنجب زعتراً ومقاتلين.