الثلاثاء، كانون(۱)/ديسمبر 24، 2024

صيدا ... بين خيار المفاوضات والمقاومة

رأي
  شكّل الغزو الصهيوني للبنان عام 1982 محطّةً تاريخيةً مفصلية في استراتيجية الصراع العربي الإسرائيلي، بما حمله من أهداف دولية وإقليمية ومحلية لتصفية القضية الفلسطينية، ولتعميم نهج الاستسلام الذي أسست له اتفاقيات كامب ديفيد الخيانية بين مصر والكيان الصهيوني، ولتحقيق هذا الهدف كان لا بدّ من سحق المقاومة الفلسطينية وضرب الحركة الوطنية اللبنانية وفرض انسحاب القوات السورية وتعطيل قدراتها على الساحة اللبنانية،

في المقابل كان الموقف العربي منقسماً إلى ثلاثة محاور، الأول: مصر المنسلخة عن الإجماع العربي وارتكاب نظامها الساداتي جريمة الخيانة المستمرة إلى يومنا هذا، والثاني: قوى الرجعية العربية والخليجية التي تبنت مبادرة (الأمير فهد) للسلام والتي قدّمها عام 1981 قبل سنة من الغزو، والتي تلتها (مبادرة الأمير عبدالله في قمة بيروت عام 2000) وجوهر المبادرتين، الأرض مقابل السلام، أي أراضي 67 مقابل الإعتراف العربي بالكيان المُغتَصب، والتي نشهد اليوم إنضمام أركان هذا النهج إلى محور الخيانة المباشرة في التطبيع المجاني مع العدو تمهيداً لتنفيذ (صفقة العصر)، أما المحور الثالث: قوى الصمود والتصدّي ورأس حربته الثورة الفلسطينية والحركة الوطنية اللبنانية والجمهورية العربية السورية.
أعود إلى صيدا عشية الغزو، خاصة وإن صيدا بين السادس من حزيران عام 82 والثامن منه، كانت محور النقاش حتى الاختلاف في تقدير الموقف والاستنتاجات داخل قيادة القوات المشتركة المركزية، حيث كان ياسر عرفات مطمئناً للوعود الغربية والسعودية التي تحدّثت عن عملية عسكرية لا تتجاوز الأربعين كلم، أي أن حدودها النهر الأولي في صيدا، فيما البلاغ الصادر عن دورة اجتماعات اللجنة المركزية لحزبنا الشيوعي اللبناني في شهر آذار 1982 أعلن بوضوح أن الغزو الصهيوني هو الاحتمال المرجّح، وسيصل إلى بيروت ليكون الصوت والناخب الرئيسي في تنصيب بشير الجميل رئيساً للجمهورية اللبنانية، بين هذين الاستنتاجين والتناقض في تقدير نوايا العدو والموقف المستجد بعد بدء عمليات الإنزال البحري على شاطئ نهر الأولي لحصار المدينة وتطويقها من مختلف الجهات، دخلت صيدا وقواها اللبنانية والفلسطينية المشتركة في مواجهة بطولية أسطورية متصدّية لتقدّم العدو على كافة محاورها، من تلّة شرحبيل حتى مخيم المية ومية مروراً بشوارعها، فيما سطّر أشبال الآر بي جي من أطفال مخيم عين الحلوة معارك بطولية استمرّت لأكثر من عشرة أيام متتالية ولم يسقط المخيم إلاّ بعد تدميره، في حين كانت القيادة العسكرية للقوات المشتركة منهمكة في تنظيم انسحابها باتجاه الشوف للوصول إلى البقاع عِوضاً عن تنظيم الدفاع عن مدينة صيدا كما حصل في بيروت، وتحمّل آنذاك الحاج اسماعيل تبعات قرار الإنسحاب وخروج قوات القسطل من صيدا دون ما قتال.
ما يطرح السؤال البديهي، هل كانت الإمكانيات متوفرة لتأمين وتنظيم صمود صيداً وتحويلها قلعة دفاعية كما حصل في بيروت، ما يصعّب على العدو تحقيق أهدافه في بيروت أو تأخيرها على أبعد تقدير...!!؟
لقد تسنّى لي مؤخراً الإطلاع على مذكرات القيادي السابق في الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين والمستشار السياسي السابق لأبي عمّار، بسام أبو شريف، في كتابه "بيروت مدينتي"، وأهمية ما كتبه أبو شريف تكمن في تقديمه بين سطور مذكّراته أجوبة على العديد من الأسئلة التي رافقت تلك المرحلة المهمة من تاريخ الصراع مع العدو، كما تقدّم للمتابع الاستنتاجات التي يريدها على عكس ما أراد أبو شريف من ربط أحداثها بشخصه فقط، وهذا ليس انتقاصاً من موقعه في صناعة القرار الفلسطيني أو من دوره إلى جانب الشهيد ياسر عرفات، لكنه أفصح في مذكراته عن حدثين أتوقف قليلاً عندهما، الأول، يقول أبو شريف في الصفحة 12 من مذكراته "بيروت مدينتي": أن زائراً غامضاً زاره في يوم من أيام نيسان 1982 في مكاتب مجلة "الهدف"، وعرّف عن نفسه، أنه لبناني ويدعم النضال الفلسطيني، وأسرّ له أن إسرائيل تخطُط لغزو لبنان...!! وأنه اطلع "صدفة" على مخطط الغزو لتحطيم المقاومة الفلسطينية بالتعاون مع القوات اللبنانية وتابع الزائر الغامض: سيصل الغزو إلى بيروت لقتل أو اعتقال كلّ القادة الفلسطينيين. (الزيارة حصلت في نيسان، إلاّ أن حزبنا حذّر في آذار من العدوان).
ويتابع أبو شريف في الصفحة 18: أبلغني صديق لي مقرّب من البيت الأبيض وقبل أسابيع من زيارة "الرجل الغامض"، بأن ارييل شارون التقى بالرئيس ريغان وشكا له الفلسطينيين و"أعمالهم الإرهابية" وأن الصواريخ الفلسطينية تطال البلدات الإسرائيلية في الشمال، وطلب شارون من الرئيس الأميركي الموافقة على عملية عسكرية تصل إلى قلعة الشقيف، وأبدى ريغان تفهمّه وأعطى موافقته على عملية عسكرية واسعة تصل إلى حدود 40 كلم من شمال "إسرائيل".
فقال شارون مبتسماً: لن تأخذ العملية أكثر من 48 ساعة.
فأجابه ريغان: " إفعل ذلك، وإذا فشلتم يجب أن تدركوا أن عليكم التفاوض معهم".
يستكمل أبو شريف في مذكراته: حملت معلومات الزائر الغامض، (والذي يبقى غامضاً) إضافة إلى ما وصلني من واشنطن من معلومات وأبلغتها للرئيس ياسر عرفات، فنظر إليّ ابو عمار مليّاً وكرّر قول ريغان "إفعل، ولكن إن فشلتم عليكم التفاوض معهم".
أمّا الحدث الثاني، والذي كشف عنه بسام أبو شريف، وهو الأهم ميدانياً، إذ أوضح وبما لا يحمل الشك، أن ياسر عرفات وباقتراح من أبي شريف شخصياً، أعطى أوامره الصريحة للحاج اسماعيل للإنسحاب من صيدا "لإنقاذ قواته"، يقول أبو شريف في الصفحة 55 من مذكراته "بيروت مدينتي": قال لي أبو عمار هامساً: "يريدون القضاء على قواتي في صيدا، وعليّ أن أفوّت الفرصة عليهم، وسألني ما هو رأيك؟"، يجاوب أبو شريف: حاولت أن أفكّر بسرعة، ثم قلت: الانسحاب قد ينقذ القوة وليس ذلك مؤكداً. لكن (الانسحاب)، بعد أن تنتشر أخباره قد يهزّ من معنويات أهل الجنوب.
ردّ أبو عمار: هذا صحيح،
ويتابع أبو شريف: وخطرت لي على بالي فكرة فقلت له: المعركة لن تنتهي عند صيدا. وجوهرها بيروت ورأس القيادة. والناس سيركّزون أنظارهم هنا بعد رحيل قواتنا من صيدا، وإذا كنت تفكّر بإصدار الأمر بانسحابها فافعل ذلك الآن كي لا يضيع الوقت منهم قبل حلول الظلام.
هبّ أبو عمار واقفاً (كأنه يتوقع اقتراحي) وقال للضابط الشاب الذي يتابع العمليات في صيدا: "أصدر لهم أمري بالانسحاب المنظم نحو البقاع". وأسرع الضابط لتنفيذ الأمر. بعد قليل عاد الضابط ليقول له: قائد القوة يصرّ على التحدّث معك ليسمع منك الأمر.
كان على الطرف الآخر قائد منطقة صيدا والجنوب الحاج إسماعيل - أعطاه أبو عمار الأمر بإنقاذ قواته على خير وجه.
ما لم يذكره أبو شريف، أن قوات القطاع الغربي في صور قاتلت بضراوة في برج الشمالي والبصّ بقيادة عزمي الصغير حتى استشهاد الأخير، كما قاتلت قوات القطاع الأوسط بشراسة دفاعاً عن قلعة الشقيف حتى استشهاد جميع مقاتليها وفي بقعة انتشارها وصولاً إلى الجرمق كما استشهد قائد القطاع الأوسط بلال، ما يطرح الأسئلة مجدّداً، هل قاتلت تلك القوات بمبادرة منها؟ أم لم يصلها أمر الإنسحاب من الحاج اسماعيل؟ أم لم يكن هناك أصلاً خطة دفاعية شاملة مناطق انتشار القوات المشتركة؟
إن ما ذكره أبو شريف يشير وبوضوح إلى أن قرار التصدّي للغزو الصهيوني كانت تحكمه رغبة سياسية في الخروج من لبنان بأقل ما يمكن من خسائر تمهيداً للدخول في خيار التفاوض مع العدو من خلال عرابّي اتفاقية كامب دايفيد، استناداً إلى الشرط الذي وضعه ريغان أمام شارون حين قال له "إفعل، ولكن إن فشلتم في القضاء عليهم، عليكم التفاوض معهم"، وهذا ما أكدته الوقائع السياسية التي تلت الإنسحاب من لبنان، هذا الخيار دفع بالقيادة السياسية المتنفّذة في منظمة التحرير الفلسطينية أن تخرج من بيروت في 21 آب 1982، إلى اليونان وتونس وتلتقي حسني مبارك في الإسكندرية لتفكّ عزلته عربياً، في محاولة منها أن تلاقي الإدارة الأميركية على منتصف طريق الاعتراف المتبادل لتنتقل المنطقة إلى مرحلة جديدة، يستبدل فيها عصر الصراع العربي الصهيوني بعصر السلام الأميركي الإسرائيلي في المنطقة.
لم تجرِ الرياح بما تشتهي سفن خيار السلام الأميركي والمراهنين عليه، كان قلّة من الأبطال يتحضّرون لتنفيذ قرار حزبهم، وليلبّوا نداء الشهيد جورج حاوي، لينطلقوا بقنابلهم اليدوية لينفذوا عملية بسترس وليعلنوا من بيروت الجريحة بداية عصر المقاومة، عصر تحرير الأرض دون قيد أو شرط، فكانت بيروت أولاً، لتكبر كرة الثلج وتفرض على الاحتلال بالمقاومة الإنسحاب الذليل من الجبل إلى صيدا، لتعود عاصمة الجنوب وبوابة المقاومة إلى حضن الوطن محرّرة أيضاً دون قيد أو شرط، فاتحة عصر الانتصار على العدو بدماء نتاشا "سعد" ومصطفى "سعد" ونزيه "القبرصلي" وقاسم "بدران" وعمار "قوصان" وباسم "شمس الدين" وسهيل "سكيني" ومحمد "حمدون" وسلمان "مقلد" وإبراهيم "هاشم"، فالتحية والإجلال لهؤلاء الشهداء ولجميع الشهداء الذين سقطوا دفاعاً عن صيدا وكرامتها الوطنية من أبطال المقاومة الفلسطينية والحركة الوطنية اللبنانية وجبهة المقاومة الوطنية اللبنانية، والتحية للشهداء الأحياء ولجرحى جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية، لمطلقي رصاصات المقاومة الأولى في صيدا، لـ م. ع. الذي حمل مسدسه مكتوم الصوت من بيروت إلى ساحة النجمة في صيدا، لينقض على دورية عدوة ويقتل إثنين من جنوده وجهاً لوجه، يرافقه بطلان من أبطال المقاومة ع. د. و ع.ح.، إنه التاريخ الناصع الذي نغرف منه يومياً ذخيرة الاستمرار بالنضال، لنبقى أوفياء لشعبنا وأرضنا ووطننا ولشهدائنا، أمام الاحتلال وأي عدوان يبقى الخيار الصحيح والوحيد، خيار المقاومة.

عضو المكتب السياسي للحزب الشيوعي اللبناني

سلام أبو مجاهد