استراحة من خطاب التشاؤم: فلنحتفل بانتصاراتنا الصغيرة
لكن وسط هذا الظلام، خطّ اللبنانيّون بنضالاتهم الدؤوب بقعة ضوء وفتحوا في الجدار السميك كوّةً واعدةً يتسرّب منها بعض الأمل وتكسر الضيق الرسمي القابع على صدورنا.
لقد شهد الشهران الماضيان ترجمةً لعقود طويلة من النضال، فتحقّقت إنجازات لا يمكن وصفها إلّا بالتاريخيّة رغم أنّها أشبعت تشويهاً وتقليلاً من مفاعيلها. لكنّ الإنجاز يبقى إنجازاً لأنّه يفتح مساراً جديداً لتطوّر الصراع من أجل العدالة ويتيح لقوى التغيير أن تبني عليه لتستكمل ما تحقّق وتصلح ما أفسده مبضع السلطة، وتفتح قضايا جديدة تبني على ما فرضته حركتها السابقة.
التراكم النضالي التاريخيّ الذي كرّسه اليسار اللبناني والقوى النقابية والشعبية قد أتى فعله في عناوين ثلاثة:
1- النسبيّة في قانون الانتخاب: نادت قوى التغيير وبشكل يوميّ بالنسبيّة على مدى نصف قرن، ورفعتها شعاراً في كل مؤتمر أو ندوة أو مسيرة حتى صارت تلك الفكرة البسيطة جزءاً من الوعي السياسي عند كلّ اللبنانيين، فتحولت مطلباً عاماً يصعب رفض اعتماده بكل المعايير والمقاييس. وعندما وصل النظام إلى أزمته واحتدمت تناقضاته، ولم يجد له راعياً أجنبياً صالحاً يرتب تقسيم الأدوار والحصص، أتت النسبيّة كحقيقة موضوعيّة وتاريخيّة أيضاً لأنّها، كما تقول الفلسفة، قد تحقّقت بالفعل قبل أن تتحقّق على الورق. حاولت السلطة أن تجد مخارجها بالتشويه، فخطّت 15 دائرة مفصلّة على مقاييس زعماء لا يعدو بعضهم أن يكون زعيم بلديّة أو رئيس قضاء أو شيخ عشيرة فناسبته الدوائر الصغيرة مثله. كرّسوا المذهبيّة في توزيع المقاعد وخنقوا الصوت التفضيليّ عبر حشره في القضاء الصغير البائس. أزاحوا الإصلاحات مثل خفض سن الإقتراع والكوتا النسائيّة ومسألة ضبط الإنفاق وعدالة الإعلام الإنتخابي وغيرها لكنّ هذه ستتحقّق تماماً كما تحققت النسبيّة: نضالٌ دؤوب مستمرٌّ ونقشٌ في الحجر يفرض نفسه موضوعيّاً على الجميع فينصاعون لمسار تطوّر التاريخ في إطار حركة الصراع المستمرة. لذلك، كل التشويه لن يلغي الأمل والمستقبل، فلتأخذ قوى التغيير، بتنوّعها ووحدتها، ثقةً مقبولةً في كلّ دائرة، ولها الحق الثابت في الخرق لأوّل مرة من عمر الدولة اللبنانية. هنا يكمن بيت القصيد، كبداية ولوج التغييريين إلى نادٍ كان مغلقاً وفتح مسار جديد من النضال باتجاه تعديل القانون وتوسيع الدوائر وتكريس الإصلاحات من داخل المجلس كمسمار في عنق السلطة لو استطاعوا، ومن خارجه كمناضلين ثابتين يقودون حركة الشارع ولا يبدّلون تبديلا.
2- سلسلة الرتب والرواتب: يكفي أن نقول أن نضالات هيئة التنسيق النقابية على مدى السنوات الخمس الماضية، وتحديداً خلال قيادة النقابيين الشيوعيين والمستقلين لها، قد أنتجت سلسلةً قيمتها 1.1 مليار دولار سنوياً سوف تذهب إلى أبناء الطبقات الفقيرة والمتوسّطة في القطاع العام من جيش وقوى أمن ومعلمين وأساتذة وموظفين إداريين وبلديين وغيرهم ناهيك عن معلمي القطاع الخاص. هذه الفئة التي تمثّل حوالي ربع الشعب اللبناني قد حققت مدخولاً إضافياً مقبولاً هو الأول من نوعه منذ عقدين وسوف تعطي دفعةً إيجابيةً لكتلة الأجور وستستفيد منها فئات اجتماعية مثل المتاجر الصغيرة والمطاعم والثياب والأثاث وغيرها، لأنّ جزءاً كبيراً من هذه الزيادة سوف ينعكس ازدياداً في الاستهلاك عند هذه الفئة التي لا تدفن أموالها في الإدّخار كما يفعل أبناء الفئات الأعلى. وكما في كلّ انتصار، كان لا بدّ للسلطة أن تدقّ أسافينها وتزرع أشواكها، إذ أعطت للمعلمين وبخاصّة أساتذة الثانوي زيادة منقوصة لا تعادل نصف مطالبهم ونصف زيادة الإداريين وضربت موقعهم الوظيفي. كما مرّرت السلطة تشويهات متعددة أخرى أخطرها المواد التي توقف التوظيف وتمهّد للتعاقد الوظيفي وتلك التي تسمح بمعاقبة وصرف الموظفين من قبل رؤسائهم، في سابقة سوف تفرض المزيد من التضييق على كل أولئك الشرفاء الذين يرفضون الانصياع للسلطة وأزلامها في الإدارة وخارجها.
وكان واضحاً وضوح الشمس كيف أجّلت السلطة تمرير السلسلة لحين إنهاء عملية تصفية قيادات الحركة النقابية جميعاً، فعُلّقت المشانق لكلّ من واجه وتحرّك وساهم بفرض هذه السلسلة من الرفيق حنّا غريب، القائد الأبرز في هذه المعركة مروراً بمحمود حيدر في الإدارة وانتهاءً بالنقيب نعمة محفوض الذي كان يوم إقصائه هو نفسه يوم إدراج السلسلة على جدول أعمال السلطة. ممارسةٌ دنيئة كان المقصود منها إقامة عرس السلسلة بعد دفن العريس كي لا يجد هذا الإنجاز الطبقي من يثمّره في السياسة وكي يقول أرباب السلطة أنّهم هم الذين مرّروا حقوق الناس كمنّة من خرجهم وليس بفضل أولئك المناضلين الذين اهترت أقدامهم وبُحّت حناجرهم طويلاً حتى باتت أسماؤهم مرادفةً للحقوق وصارت رمزيّتهم خطراً كامناً ينبغي وأده قبل انفلاشه.
إلّا أنّ ورغم كلّ هذه الارتكابات التي يتقنها أهل ساحة النجمة والسراي ورغم الخوف من عدم توقيع بعبدا تحت ضغوط أصحاب المصالح، يبقى الإنتصار انتصاراً ويبقى الأفق مفتوحاً للمزيد. فبعد أن نال القطاع العام جزءاً مهماً من حقوقه يمكن للفئات المغبونة منه أن تستمر بمطالبها، لكن الأهم هو أن يندفع القطاع الخاص في مطالبه المماثلة وهنا بيت القصيد. إذ علينا اليوم تثمير ما تحقّق لتشكيل كتلة شعبيّة ونقابيّة وازنة تنادي بتصحيح الأجور في القطاع الخاص وتحديداً عبر السلم المتحرك للأجور ورفع الحد الأدنى ودمج النقل في أساس الراتب وهذه مطالب أساسيّة لكل الأجراء المسجلّين في القطاع الخاص. والأهم أن نستعيد المبادرة في المطالبة بالتغطية الصحية الشاملة التي تعتبر أجراً اجتماعياً لكل اللبنانيين وتحديداً العاملين غير المسجلين والمياومين والعاملين المؤقتين والعاملين لحسابهم والعاطلين عن العمل لأنّ هذه الفئات صارت تشكّل كتلة تزيد عن ثلث الأجراء ولا تستفيد من أيّة حمايةٍ أو تقديمات. إنّ ما حققه القطاع العام إنجاز له بعدٌ طبقيّ هام، لكنّه لا يكتمل إلّا بانتقال العدوى إلى القطاع الخاص، وهنا تبرز أكثر أهميّة ما تحقّق: فتح أبواب جديدة في الصراع الطبقي ضد الطبقة المسيطرة من خلال جذب فئات أخرى متضرّرة ومهمّشة إلى ساحة النزال، وهذا هو مكمن التحدّي في السياسة تماماً كما هو مكمن الأمل.
3- الضرائب الجديدة: حملت الإجراءات الضريبيّة التي تبنّاها مجلس النوّاب فتوحات واعدة في أماكن كانت سابقاً جنات ضريبيّة لطبقة صغيرة مسيطرة. إذ شملت الضرائب، تحت وطأة انتصار نضال القطاع العام لتصحيح الأجور، وبما يشابه مقولة "مكرهاً زعيمك لا بطل"، إجراءات ضريبيّة واعدةً لم يشهدها لبنان منذ عقود وهي رفع الضرائب على الفوائد وإلغاء التنزيلات عليها لمصلحة المصارف إضافة إلى أرباح البيوعات العقاريّة ورفع الضريبة على أرباح الشركات إلى جانب غرامات الأملاك البحريّة. ورغم أنّ كميّة الضرائب المفروضة ظلّت محدودة نسبياً إذ لم تبلغ سوى 2% إلّا أنها أمّنت، مع الغرامات على الأملاك البحريّة، ضخّ ما يقارب مليار دولار من جيوب من هم فوق إلى جيوب من هم تحت. ويكفي أن تسمع ضوضاء "الهيئات الاقتصاديّة" وجلبة الناطق بإسمها نقولا الشمّاس أو المعروف شعبيّاً بإسم "أبو رخّوصة" حتّى تعرف أنّ ضغط الشارع وكلفة السلسلة ونضالات عقودٍ قد أصابت سهامها في المكان المناسب. وعلى محدوديتها، تفتح هذه التغييرات باب رفع السقف وفرض المزيد من هذه الضرائب عبر مضاعفة أرقامها وجعلها تصاعديّة في المعارك السياسيّة والشعبيّة المقبلة لتمويل مطالب وحقوق أساسيّة لكلّ اللبنانيّين من تغطية صحيّة ومشاريع تنمية وكهرباء وماء وأجور ونقل عام، ولتكريس الحدّ الأدنى من العيش اللائق لكافة اللبنانيّين.
وبين دسم هذه الضرائب الإيجابيّة، دسّت السلطة سمّها فنشرت مروحةً واسعةً من الضرائب الأخرى غير المباشرة التي تنال من جميع اللبنانيّين في ما يشبه الإنتقام منهم، فرفعت الضريبة على القيمة المضافة وعلى رسوم الاستيراد وعقود البيع والكحول والسفر ومواد البناء وغيرها. إلّا أن سمّ السلطة لا ينبغي أن يفسد زبدة النضال، فالمعركة تفتح لنفسها أبواباً جديدةً اليوم، من أجل المزيد من الضرائب المباشرة على الفوائد والأرباح والريوع وضرائب استثنائيّة على الهندسات الماليّة الأخيرة، ومن أجل وقف كل الزيادات الأخرى على المواطنين العاديين. كلّ ذلك يجب أن يتصاعد بخدمة توفير الحقوق وإعادة توزيع الثروة من قلّة قليلة لا تشبع إلى فئات واسعة لها حقّها أن تحيا كريمةً أيضاً.
الإنتصارات الجزئيّة ليست هزائم، بل هي انتصارات ناقصة لا ينبغي أن تثير فينا سوى الأمل وشحذ الهمم والسيوف لاستكمالها وانتزاع المزيد منها، وفتح الأفق لمعارك أخرى تستكملها رغم هول الصعاب وفداحة الأزمة... تلك هي المسألة.