ما أُخِذ بالقوة لا يسترد بغير القوة
انكساراتٌ لا تُعَد ولا تُحصى... والانتصارات القليلة المسجلة أفرغتها السياسات من مضمونها وحوّلتها خيباتٍ. وكان الرد على نكبة أيار ونكسة حزيران عبوراً في تشرين الأول (أكتوبر) التي تناقضت بطولاتها العسكرية مع نتائجها السياسية، فأنتجت معاهدة عرجاء أخطر ما تمخضّ عنها عزلة مصر عن عالمها العربي، فتحوّلت هرماً مقلوباً رأسه في التراب وقاعدة تسبح في الفضاء بلا توازن. فانهارت مكانة القاهرة ولانزال ندفع فواتيرهذا الانهيار في فلسطين وسوريا واليمن وليبيا والعراق.
من النكبة إلى النكسة إلى ما أعقبهما من نكيبات وانهيارات، ضاعت المشاريع والأحلام وانغلقت الأنظمة على مطامعها بعيداً عن ناسها، فتغولت المؤسسات الأمنية حتى صارت دولاً ضمن الدول. أنظمة عبثت بالموجود ولم تسترجع متراً واحداً من فلسطين. خسرت على الجبهات وانتجت في الوقت عينه كل المغذيات الضرورية للتفكك والانحلال، فكانت الحروب الأهلية المدمرة وحروب الجوار التي نخرت جسم الامة من المحيط الى الخليج وحولت شعوبها قبائل وطوائف متناحرة، وجعلت دولها بنياناً هشاً على نحو يرثى له وعرضة للانهيار في زمن قياسي.
شاخت النكبة وفي ذكراها الـ 71 ، تطل علينا صفقة القرن، وما أدراك ما صفقة القرن؟
الكل ينتظر هذه الهدية المفخّخة ومعرفة تفاصيلها وثناياها. لكن مهلاً، لا حاجة للانتظار إلى أول حزيران لمعرفة ما سيتحفنا به ترامب عنها، ولا حاجة لمتابعة تسريبات الخطة، ذلك أن المكتوب قُرئَ من عنوانه بعيد تشكيل حكومة بنيامين نتنياهو الخامسة، ورسائل ترامب سواء عبر مبعوثه إلى المنطقة جايسون غرينبلات أو صهره جاريد كوشنر، وهو ما لا يترك مجالاً للشك بأن ما يُحاك وما يُخطط له هو ببساطة طي القضية الفلسطينية، لكن هذا بتوقيع ودعم عربيين لإضفاء شرعية على عملية الذبح الجارية، ووسط تهديدات وضغوط على الدول والمنظمات غير المطواعة والتي تصرّ على التغريد خارج السرب الأميركي.
لا حاجة أيضاً للوقوع في شباك تعابيرٍ يستخدمها كوشنر وغرينبلات لمحاولة خلق "توازن وهمي" في الخطة المستقبلية، بأنه سيكون على الطرفين تقديم تنازلات، فسرعان ما يستدرك الرجلان للتوضيح أن هذه التنازلات لن تمسّ أمن "إسرائيل" ولا مستوطناتها أو بقاء القدس المحتلة عاصمة موحّدة لـ"إسرائيل".
هي خطة أخرى، يرى كثيرون في "إسرائيل" أن نتنياهو قد لا يرفضها، ليس لأنه يريدها بل لأنه يراهن على أن الطرف الفلسطيني هو الذي سيرفضها لعلمه أنها لا تستوفي الحد الأدنى من الثوابت الفلسطينية التاريخية، بل أيضاً تتجاوز الالتزامات وبعض الإنجازات الأولية التي كان اتفاق المبادئ في أوسلو،على علاته، قد حققها للشعب الفلسطيني.
لذا هنا كمن يقول في السر: لماذا لا نقبل "صفقة ترامب" أو نتخذ موقف "لعم" منها ، أي نعم لأجزاء ولا لأجزاء أخرى، أو نراوغ ولا نعطي موقفاً بحجة الدراسة وانتظار مزيد من التوضيحات، لكي نحقق شيئاً، ولو كان اسمه السلام الاقتصادي.
أما الاسوأ من ذلك فأن توقع اتفاقاً سيئاً وأن تضعيف، وتاليا ستأتي النتائج عند التطبيق أسوأ من نص الاتفاق، وهذا ما حصل تماماً عندما وبعدما وُقّع اتفاق أوسلو، إذ كان الاتفاق سيّئاً، ولم تلتزم "إسرائيل" به.
وللتذكير فإن الخطأ بعد النكبة الأولى لم يكن في رفض التقسيم، وإنما بما حصل بعد ذلك بقبوله، وأقل منه بكثير، حتى من دون ضمان تطبيقه. كما أن الأمر الحاسم أن تكون قويّاً وموحداً وفاعلاً، ولا ترفض من أجل الرفض، ولا تقبل من أجل القبول، وإنما تحافظ على الحقوق والمصالح الأساسية، وتحرص على تحقيق أقصى ما يمكن تحقيقه في كل مرحلة، ومنع تحقيق الأسوأ إذا لم تكن قادراًعلى تحقيق الجيد أو السيء.
الخلاصة: إذا لم تكن قويّاً لا ينفع أن تفاوض، وإذا كنت قويّاً ستحول الاتفاق السيئ إلى اتفاق جيد، أما إذا كنت ضعيفاً فستحول الاتفاق الجيد إلى سيء، والسيء إلى أسوأ. فنحن نعيش في عالم لا يفهم سوى لغة القوة، وهي الأقوى تأثيراً، ثم لغة المصلحة التي تلعب دوراً مهمّاً، وأخيراً لغة العدالة والحريّة والقانون والأخلاق والمساواة وبقية القيم الإنسانية، وهي أضعف لغة، ولكن يجب التمسك بها لأنها في متناولنا، والسعي في نفس الوقت للحصول على أوراق القوة الأخرى. فليس الخطأ في رفض الفرص وتضييعها كما يُقال، بل في بقائنا ضعفاء، وفي موافقتنا على ما سبق أن رفضناه بشكل أسوأ ومن دون مقابل يذكر.
ما بين جرح نكبة ١٩٤٨ الذي لم يندمل وشبح الحروب المتنقلة عبرالساحات التي تنذر بما هو أوخم، لم نتعلم من أي درس وخفتت ذاكرتنا إلى حد نسيان ما دفعنا من أجله دماً وألماً. نتذكرالنكبة ونتذكرممهداتها في اتفاق سايكس-بيكوالذي أحيينا مئويته الأولى قبل سنوات، وننظر إلى الأفق ولا نرى إلّا حدوداً لأوطان تتحطم بمطارق الهدم والاحتراب الأهلي لا بالخرائط الجاهزة المرسومة سلفاً. سنظل كذلك ما دمنا ننسى المقولة-الدرس: ما أُخِذ بالقوة لا يسترد بغير القوة.