عمل اللاجئ الفلسطيني بين مطرقة المنظومة الدولية وسندان الدولة اللبناني
شهدت الفترة الأخيرة هجوماً وافتراءاتٍ على العمال غير اللبنانيين من قبل مؤسسات الدولة اللبنانية ومنهم اللاجئون الفلسطينيون، بحجة تطبيق القانون. والملفت حقّاً في هذه الممارسات، هو أوّلاً مأسسة العنصرية، بحيث أصبحت الوزارات تتبنّى خطاباً عنصريّاً وتبني عليه سياساتها. فبدلاً من حصول العاملة والعامل على العمل بسبب كفاءتهما، أصبح اليوم جواز سفرهما هو الذي يقرّر حاجتهما للعمل، تماماً كما تفعل خانة الطائفة على بطاقة الهوية اللبنانية. وثانياً، أنّ الهجمة هذه هي ليست هجمة "لصالح العمّال اللبنانيين" كما تقول الرواية الرسمية، بل لصالح استمرار هذا النظام، باستغلاله لكل العمّال.
فالوضع الاقتصادي اليوم، خاصة مع الموازنة التي تمّ التوافق عليها، يُعتبَر حافّة الانهيار. وإذ يتحرّك الشارع في لبنان لرفض القرارات الجائرة التي فرضها مؤتمر سيدر وشرّعتها الموازنة، يستخدم النظام أحد أساليبه المفضّلة للتخفيف من نقمة الشعب واعتراضه على سياساته، بنقل اللوم إلى العمّال غير اللبنانيين. ويجري هذا كمحاولة كلاسيكية للفصل بين أفراد الطبقة العاملة. فبدلاً من السماح ببناء حركة عمّالية حقيقية واعية وتقدمية تضمّ العاملات والعمال من كل الجنسيات، تتشرذم هذه الحركة بين طوائف وجنسيات، ينافس بعضها بعضاً.
هذا الهجوم إذاً لا ينفصل عن محاولات النظام الحثيثة لإعادة تعريف الصراع على أنه بين أفراد الطبقة العاملة، بدلاً من أن يكون بينها وبين البرجوازية المهيمنة التي أفقرت هذا البلد ونهبت ثرواته.
بالرغم من أن اللاجئين الفلسطينيين يقيمون في لبنان منذ 71 عاماً إلّا أن المُشرِّع اللبناني لم يقدّم تعريفاً قانونيّاً لهم حتى الآن، وهم يندرجون إداريّاً إلى ثلاث فئات، هي كالآتي: اللاجئون المسجلون لدى وزارة الداخلية والبلديات، مديرية الشؤون السياسية واللاجئين، ووكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين في الشرق الأدنى (أونروا)، اللاجئون المسجلون لدى مديرية الشؤون السياسية واللاجئون غير المسجلين لدى الأونروا، اللاجئون غير المسجلين لدى الدولة اللبنانية والأونروا (فاقدو الأوراق الثبوتية)، يضاف إليهم فئة رابعة مستجدّة، تتضمّن اللاجئين الفلسطينيين من سوريا إلى لبنان بسبب الحرب.
وعلى الرغم من أنّ الدولة اللبنانية أبدت استعداداً لتحسين أوضاع اللاجئين الفلسطينيين الاقتصادية والاجتماعية، وبادرت بتعديل قانون العمل 129/2010 مادة 59، وقانون الضمان الإجتماعي 128/2010 مادة 9، دون إصدار أي مراسيم تطبيقية للقانونين حتى الآن، الأمر الذي جعل تطبيق القانونين خاضعاً لقرارات الوزراء المتعاقبين بالإضافة إلى محاولة تصحيح أوضاع الفئة الثالثة (فاقدي الأوراق الثبوتية)، لكنّها بقيت قابضةً على باقي الحقوق، وخاصّة المدنية والسياسية منها، وبذلك تكون الدولة اللبنانية جزّأت حقوق الإنسان للّاجئين الفلسطينيين في لبنان وحالت دون تمتّعهم بكامل حقوق الإنسان، حتّى تلك التي أراد لبنان تحسين أوضاعهم فيها، بسبب غياب البعد المدني وازدواجية المعاملة تارةً على أنهم أجانب وطوراً لاجئين.
إنّ فئات اللاجئين الأربع لا تزال تعاني من انتهاكات لحقوق الإنسان. فهم يتعرّضون لأشكال متعددة من التمييز ضمن القوانين والإجراءات. إنّ التمييز والانتهاكات والحرمان والقيود تبقي وضعهم القانوني خالياً من أي إطارٍ واضحٍ وملزمٍ لتوفير الحماية لهم، الأمر الذي يمثل انتهاكاً لحقوقهم المدنية والاقتصادية والاجتماعية. ويعاني اللاجئون الفلسطينيون من جملة انتهاكات في: الشخصية القانونية وغياب الحماية، الحق في العمل والمهن الحرة، الحق في التملك، الحق في السكن اللائق، الحق في الصحة، الحق في المحاكمة العادلة، الحق في إنشاء الجمعيات وحرية الرأي والتعبير، الحق في التنقل والإقامة والسفر. وجميعها تؤثّر سلباً على حياتهم المدنية والاقتصادية والاجتماعية وصحّتهم النفسية، لاستمرارها على مدار 71 سنة، ما جعل هذه المعاناة مُركّبة، وتتعارض والإعلان العالمي لحقوق الإنسان والمواثيق والاتفاقيات الدولية وأصول الاستضافة لأبناء شعب شقيق أجبروا على القدوم إلى لبنان، والإقامة فيه بعد طردهم من قبل العدو الصهيوني الذي احتلّ وطنهم، واقترف جريمة التهجير للسكان المدنيين، وتدمير القرى، وارتكاب المجازر الجماعية. ومن المهم الإشارة إلى أنّ الغالبية الكبرى من اللاجئين الحاليّين قد وُلِدوا في لبنان، كما تربطهم علاقات عائلية وإجتماعية واسعة مع إخوانهم اللبنانيين. كما ينبغي التشديد على أنّ اللاجئين سيستمرون في الإقامة في لبنان حتى العودة إلى وطنهم، مع التأكيد على رفض مؤامرة التوطين من جهة، ورفض مؤامرة التهجير والتشريد من جهة أخرى.
التزام لبنان بالقضية الفلسطينية، وتأييده للحقوق الوطنية للشعب الفلسطيني، ومن بينها حق العودة، يفرضان عليه دعم كفاح الشعب الفلسطيني من أجل استعادة حقوقه. كما يفرضان عليه أيضاً توفير الظروف الملائمة، على مختلف الصعد السياسية والأقتصادية والاجتماعية للّاجئين من أجل القيام بدورهم في هذا الكفاح. وممّا لا شكّ فيه أن الإجماع اللبناني الفلسطيني على التمسك بحق العودة ورفض التوطين يشكّل عاملاً مهمّاً في تعزيز التعاون والتكامل في هذا المجال.
كما أنّ الشرعة العالمية لحقوق الإنسان، والذي كان لبنان من الدول التي صاغت موادها، بالإضافة إلى العهدين الدوليين الخاصين بالحقوق المدنية والسياسية والحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وإلى الاتفاقيات والمواثيق الدولية المتعلقة بحقوق الانسان وحقوق اللاجئين، وبالرغم من أنّ لبنان ليس موقّعاً ولا مصادقاً على الاتفاقية الدولية لحقوق اللاجئين، ذلك لا يعفيه من مسؤوليّاته تجاه اللاجئين الفلسطينيين. والجدير بالذكر أنّ الدستور اللبناني في مقدمته من الفقرة (ب)، ينصّ على أن "لبنان عضو مؤسس وعامل في منظمة الأمم المتحدة وملتزم بمواثيقها وبالإعلان العالمي لحقوق الانسان".
كما أنّ بروتوكول الدار البيضاء لعام 1965 الذي صادق لبنان على بنوده ينصّ على ضرورة معاملة الفلسطينيين في الدول العربية التي يقيمون فيها معاملة شعوبهم، في إقاماتهم، وسفرهم، وتيسير فرص العمل لهم، مع احتفاظهم بالجنسية الفلسطينية.
وأكّدت الخطة الوطنية لحقوق الانسان، في القسم المتعلق بحقوق اللاجئين الفلسطينيين الواقع تحت البند 20 من الخطة، على أنّ "حماية اللاجئين الفلسطينيين هي مسؤولية مشتركة تتقاسمها الدول المضيفة ومنظمات المجتمع الدولي المعنية"، كون اللاجئين عموماً لا يستطيعون اللجوء إلى سلطات بلادهم طلباً للحماية.
وفي هذا الصدد يتحمّل لبنان كدولة مضيفة مسؤولية أساسية عن توفير الحماية للّاجئين الفلسطينيين المقيمين على أراضيه. الأمر الذي يتطلب مواءمةَ التشريعات اللبنانية مع المعايير الدولية وتأسيسَ وضع قانوني خاص باللاجئين الفلسطينيين المقيمين والمسجلين في لبنان يميّزهم عن الأجانب، وبلورةَ سياسةٍ لبنانيّةٍ رسمية تجاه ملف الوجود الفلسطيني في لبنان، تلتزم بمعايير حقوق الآنسان.
وفي لبنان من يروّج لفكرة وهمية مفادها أنّ حصول الفلسطينيين على حقوقهم المدنية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية يمهّد لتنفيذ مؤامرة التوطين، بينما في الحقيقة العكس هو الصحيح، فحرمانهم من حقوقهم، وما يسبب لهم هذا الحرمان من معاناة، من شأنه مضاعفة آثار الضغوط التى تمارس ضدّهم بهدف دفعهم للتخلي عن حق العودة والقبول بالتوطين، أو دفعهم نحو الهجرة إلى مختلف أنحاء العالم. في حين أن تحسين الظروف التي يعيشون فيها، من خلال توفير الحقوق الأساسية والانسانية لهم، من شأنه مساعدتهم على الصمود حتى تحقيق العودة. لذلك من الضروري تأمين هذه الحقوق مع الاحتفاظ بالهوية الفلسطينية ورفض التجنيس.
لذلك إنّ إعطاء الدولة اللبنانية للّاجئين الفلسطينيين حقوقهم، يستدعي إجراء بعض التعديلات القانونية المطلوبة لمواءمة القوانين الداخلية اللبنانية بالتزاماته تجاه شرعة حقوق الانسان والمواثيق والمعاهدات الدولية المُوقّع والمُصادق عليها، والتي من شأنها وضع حد للتعامل معهم كما يجري التعامل مع أي أجنبي. إنّ مجمل الانتهاكات المُمارَسة بحق اللاجئين الفلسطينيين في سياق الحق في العمل، جراء القوانين الجائرة التي تحتاج إلى تعديلات، لكي يتمكّن اللاجئ الفلسطيني في لبنان من الحصول على هذه الحقوق، هي كالآتي:
• وضع قيود على اللاجئين الفلسطينيين في الدخول إلى سوق العمل اللبناني: يميز قانون العمل اللبناني بين اللبنانيِين وغير اللبنانيِين. ولا يتحسّس القانون وضعية اللاجئين الفلسطينيِين في لبنان، فهم لا يزالون يخضعون لأحكام القوانين التي ترعى عمل الأجانب، وعلى الرغم من تعديل قانون العمل 129/2010، وتحديداً المادة 59 التي أعفتهم من المعاملة بالمثل ورسوم إجازة العمل، علماً أنهم لاجئون في لبنان منذ 72 سنة، فإنّ اشتراط حصولهم على إجازة العمل يبقيهم تحت وطأة عدم الاستقرار خصوصاً أنها تُجدّد سنوياً، وإن أعفاهم من عبء رسومها.
• حرمان اللاجئين الفلسطينيين من العمل في المهن الحرّة: يُحرَم اللاجئون الفلسطينيون من العمل في ما يسمى في لبنان "المهن الحرّة" خاصة التي تتطلب الانتساب للنقابة، إذ إنّ القوانين الناظمة لهذه المهن، تفرض في بعض تلك المهن الجنسية اللبنانية. فعلى سبيل المثال، تنصّ قوانين نقابة المحامين (القانون رقم 8/70) على أن يكون كل من يمارس مهنة المحاماة لبناني الجنسيّة منذ عشر سنواتٍ على الأقلّ، وفي قوانين أخرى يفرض شرط المعاملة بالمثل وحق ممارسة المهنة في بلده الأصلي، كنقابة الأطباء التي تطبق المرسوم رقم 1659 لسنة 1979، بالإضافة إلى نقابتي الصيدلة والهندسة، وهنا وعلى الرغم من أنّ قانون العمل المعدل في 129/ 2010 قد استثنى اللاجئ الفلسطيني من شرط المعاملة بالمثل، إلّا أنّ عدم تمكينه من الانتساب للنقابات يحرمه مزاولة المهنة.
• حرمان اللاجئين الفلسطينيين العاملين من الحصول على كامل حقوق الضمان الاجتماعي: إنّ القانون 128/2010 عدّل المادة 9 من قانون الضمان الاجتماعي، وألغى شرط المعاملة بالمثل. لكنّ التعديل لايزال يحرم اللاجئ الفلسطيني العامل من الحق في الضمان الصحي والتقديمات العائلية وخصوصاً تقديمات الأمومة للّاجئة الفلسطينية العاملة، على الرغم أن جميع اللاجئين الفلسطينيين العاملين في لبنان والمسجلين في الضمان الاجتماعي يخضعون لتسديد كافة الرسوم (23.5% من قيمة الراتب) أسوة بالعمال اللبنانيين، لكنهم لا يستفيدون إلّا من تعويض نهاية الخدمة (ما يوازي فقط 8.5% من القيمة المُسدّدة)، مما يضطرهم للتأمين الصحي الخاص، وهو ما يشكل أعباء مالية إضافية على اللاجئين الفلسطينيين العاملين وأرباب العمل ممّا يقلص الرغبة بتشغيلهم، ولذلك اضطر الكثير من العاميلن للعمل بظروف قاسية وأجرٍ متدني وخارج حماية القانون.
لذلك، ينبغي تعديل قوانين تنظيم المهن بما ينسجم مع قانون العمل لناحية استكمال إلغاء المعاملة بالمثل، وكذلك إلغاء شرط ممارسة المهنة في البلد الاصلي، وإنفاذ القانون 129/2010 من خلال مراسيم تطبيقية واجراءات ملزمة خاصة للنقابات تضمن انتساب اللاجئين الفلسطينيين ومزاولتهم المهن، وتعديل القانون 128/2010 وإصدار مراسيم تطبيقية بما يسمح للاجئين الفلسطينيين العاملين بالتمتع بكامل حقوقهم في الضمان الاجتماعي وخصوصاً ضمان تقديمات الأمومة للّاجئة الفلسطينية العاملة.