الإثنين، كانون(۱)/ديسمبر 23، 2024

ضد المنظومة الحاكمة: اختلال القيم ووضوح الرؤية

  د. حسن خليل
متفرقات
 لا يمكن لأي اجتماع بشري أن يستمر من خارج مفاهيم ناظمة أو آليات. فمحرك الحياة البشرية ومطوّرها كان ذلك "الاجتماع – الحاجة"، الذي فرض حتمية التلاقي، سواء ما كان بحكم الواقع وضروراته أو بفعل تبدلات، طبيعية كانت أم قسرية، فرضت تغيير الايقاع أو استبدال المناظير التي كانت تحدد الاتجاهات

لقد سقطت البشرية مراراً، وفي محطات كبيرة، في فخ ازدواجية المعايير أو اختلال القيم، والتي أضحت ساحة مواجهة تُستخدم فيها كل أنواع الإرتكابات والاستغلال بقصد الهيمنة والتشويش. نحن، نعيش اليوم في عالم يعاني مفاهيم متقلبة؛ فلكل منطق سياسة ولكل قضية دليل ولكل نظام ممارسات. لقد انقسم العالم منذ وجوده إلى خيمتين متناقضتين "الخير والشر"، وحولهما اصطفت الأمم والشعوب في تعارض حاد أزهق الأرواح وعمّق الانقسام. وإذا دققت جيداً في ذينك النقيضين ستجد بأن طبيعة ذلك الانقسام كانت، بالأساس، غير واضحة، لا بل إنّ نسبيتها تغوص في الارتباك والاستغلال والضياع حدّ الشبهة. فليس لأي معسكر من المعسكرين أساسه العلمي الواضح ولا ارتكازاته الأخلاقية الناظمة لسلوكه، بل كانت الدماء والمصالح، دوماً، هي حدّ التفسير وحدوده ليسود الانقسام وفق منطق القوي.

اليوم، يخوض العالم مواجهة، عناوينها ليست جديدة، بل متوارثة ومتتابعة؛ إمبريالية غربية بزعامة أميركية، تستبد وتحوّر وتفتري، تجوّع وتقتل وتحاصر وتسطو على البشر والممتلكات. جبروت متعاظم حدّ البلطجة المكروهة والمتفلّتة من كل أخلاق وقيم وعقاب، تضع البشرية في مهب إعادة الفرز والتقويم، مجدداً بين خيمتين، هي في واحدة والآخرون في أخرى مسبغة عليهما المواصفات. لقد وقعت البشرية في فخ الابتذال المفضوح لأصحاب البدلات الأنيقة، فاختلّت القيم. لقد أنتجت تلك العقلية، إلى جانب الحروب والقتل، الكثير من المصطلحات المنمّقة جاعلة منها ضيفاً مرحباً به في أي دار أو عقل أو سلوك. لقد أفضت تلك المصطلحات، والتي أُدخلت عنوة إلى عقول الناس ومن غير استئذان، إلى تغيير جوهري في منطق المقاربة العلمية للشعارات والقضايا والقيم والمفردات... واستكمالاً للسلوكيات المفترضة أو الواجب فعلها.

لقد سقطت النخب في مأزق الالتباس القاتل، بين ما يجب فعله وبين ما هو متاح، فانحازت إلى الخيار الثاني عبر انخراطها بالسلوكيات والمفاهيم السائدة وتبني معظمها. وهذا ما بدا جلياً منذ تسعينيات القرن الماضي. لقد أغشت شعارات، قيد التكوين والتدوير كمثل الديمقراطية وحقوق الانسان والحريات والتعبير... بصيرة العديد من المفكرين والسياسيين والقوى التي حاولت التبرؤ من الذي كان سائداً قبل الانهيار الكبير. فعن قصد أو عمداً أو بمحض الصدفة، كانت تلك المفاهيم تجد بيئتها المريحة في معسكر اليسار لتسبح في بحار المفاهيم الملتبسة، ولتعب من إرث حاولت إسقاطه على واقع أضحى قيد التغيير بدوره، أو لتحجز لها مقعداً في مركب الآتي من الأيام. لقد أودت تلك الاستدارة بالكثير من القضايا الحقيقية في مهب إعادة التشكيل والتموضع، سخّرت في خدمة رأسمال متفلت وفالت؛ فمتى اختّلت القيم والقضايا حتماً ستُصبح الرؤية واضحة لمن يريد أن يرى أو يسمع أو يبادر.

لم تكن الصورة أوضح كما هي عليه منذ التسعينيات وحتى اليوم: عالم يمشي على رجل واحدة ويرى بعين واحدة ويعمل بمنطق واحد وبإدارة معلنة، هي الإمبريالية الأميركية وأساطيلها وحروبها وبنكها الدولي ومؤسساتها المالية، هي الإرهاب والقتل والحصار والغزو والإعلام المُسَيطر عليه... أليس ذلك واضحاً وضوح الشمس؟ انقسامات وتوترات طائفية ومذهبية وعرقية، انهيارات اقتصادية ونهب وتجويع... أليس هذا ما كانت عليه يوميات عالم ابتُلي بلوثة النظام الحر وأفكاره وسلوكه وممارساته. انحرافات وأفعال توبة وانزياح عن مسار التحرر لمصلحة المساكنة بين المتناقضات والفردانية والإطاحة بقيم التغيير والتموضع السياسي واللجوء إلى الرمادية في المواقف... ألم يكن ذلك نهج قوى أسرعت إلى تغيير جلودها وتلت أفعال الندامة؟

وفي بلادنا المترامية بين المحيطين والمطلّة على قارات ثلاث، ألم تكن هزيمة حركة التحرر الوطني العربية وقواها واضحة وجليّة، عندما هرولت النظم الحاكمة وأحزابها صوب التسويات، وفتح أفق الحلول تحت هدير الدبابات القادمة من الغرب والأساطيل التي غصّت بها البحار، والسماء المغطاة بالطائرات المحملة بالقنابل والقتل والتدمير... ألم يكن ذلك بائناً هو أيضاً؟ وفي لبنان حين سقط مشروع المقاومة الوطنية في فخ النظام السياسي الوليد، بنتيجة تسويات المصالح بين أصحابه من ملوك المال والطوائف والذي فتح الباب أمام اصطفاف سياسي جديد مهجّن، بين رأسمال قادم بوظيفة محددة وقوى سياسية متوارثة وأمراء حرب تعرّضوا لإعادة التدوير ليصبحوا بربطات عنق وتسريحات جديدة، ومعهم خطَّ الطائف خطواته الأولى، مرتكزاً على مهام مفصّلة لوظائف سياسية مفترضة محمّلة على ظهور البواخر والأساطيل في زمن التفاوض المفتوح على كل الجبهات والسلام المزعوم، وهنا أيضاً، ألم تكن الرؤية جيدة؟

نؤكد مجدداً، أنه بالرغم من اختلال كل تلك القيم والقضايا، وفي كل تلك المحطات كانت الرؤية جيدة. وعليه لماذا الإمعان في حرف النظر باتجاه مغاير لحقيقة المواجهة؟ العدو الرئيس هي تلك الإمبريالية، الخالية من القيم وأيضاً من الأخلاق، وصاحبة السلوك الأرعن وهذه مسلّمة بديهية. التناغم معها أو مع نتاجها أو مؤسساتها ستصبح مدعاة شبهة. نحن وإياها على طرفي نقيض بنيوي ومفهومي وأخلاقي وفكري وسياسي... فهذا المسار، لم يكن إلّا في موضع مساءلة أو التباس. فالنظم السياسية المتحكمة، في أكثرية بلداننا العربية ولبنان أيضاً، لم تكن في يوم من الأيام إلّا الناتج الطبيعي لمسار الهيمنة الذي مارسته القوى الغربية، وبالتالي كسر تلك النظم أو تعطيلها لا بدّ وأن يُصرف في ميزان المعركة الأساس. وعلى ذلك المنطق تتكامل المواجهة وتكتمل، وأي التباس أو عدم وضوح سيكون مرده إلى اشتباه مقصود ومفعول فيه ومعمول عليه. لن تقوم مواجهة واضحة من دون تحديد مسألتين أساسيتين: من هو العدو ومن هو الصديق، ومن هم المرتبطون بطبيعة وأهداف كل منهما، إذ لا يمكن أن تكون مع الجميع وضدهم في الوقت نفسه.

فمّما لا شك فيه، إن حجم الاشتباك الكبير يستوجب منظوراً مكبراً كي يرى بوضوح وبتفصيل؛ فالتشخيص المرتكز على البيانات أو التدقيق في الأعراض الناتجة وربطها بمنطلقاتها سيكون الأساس المؤدي إلى فهم الحقيقة، ولا يمكن أن تخطّ سياسات تحالفية قائمة على المزاج أو سوء الرؤية واضطراب التحليل. فليكن التفكير والمبادئ والمصالح في مكان واحد، عندها لا تغشى من الارتباك، لأنه لا يمكن أن يكون العقل في اتجاه وما تريده في آخر، كما لا يمكن أن يكون السلوك في اتجاه مغاير. اتضاح الصورة مرده إلى زاوية الضوء المعتمد عليها. اليوم، الخطر الأكبر هو ذلك التدخل الخارجي، – الغربي تحديداً – في بلادنا، وأدواته ومرتكزاته. وعليه يكون الموقع الأنسب هو الجهة المقابلة له، والمتناقضة مع كل منطلقاته، والتي ستضم كل من يمتلك آليات المقاربة التي اعتمدت في فهم التوصيف. فلا يجب أن نقع في خوف ممن ربما سيكونون على الضفة نفسها، فما دام التناقض بنيوياً ناتجاً من قراءة موضوعية لمنطلقات الخصم، تصبح الموقعة شديدة الوضوح بحكم التموضع القائم. فالاستمرار في المراوحة، وتوسيع الأهداف والشعارات أبعد من القدرة على الوصول إليها، كما الغرق في التنظير المؤدي إلى اختلال الفهم والانحراف عن مسار بدا واضحاً لمصلحة آخر غير متبلور... كل ذلك سيبعدك عن خطّ خطوط المواجهة الحقيقية، وستختلط عليك المواقف وتضيع البوصلة...

لنا في الحقل حصة، يجب أن نأخذها، ونعمم مردودها ليستفيد منها شعبنا، بدل الصراخ غير المجدي في العتمة...الديمومة في العمل والاستمرار فيه لن يكونا بالتعاقد أو بالمفرد بل بالجملة. وعليه لا يمكن بناء ومواجهة ثابتة وواضحة الأهداف والمعالم من دون تجذير الموقف وتقويته بمنطلقات صلبة كي لا ينكسر؛ الفساد هو عارض وليس المرض، كما الاستدانة والمحسوبية وهدر المال والنهب والسلب... معالجة الأعراض ربما ستكون ببعض الأدوية، أمّا المرض الحقيقي فهو المنظومة الحاكمة، بنظامها السياسي وقواها ومرتكزاتها ووظيفتها ودورها، عند ذلك التحديد لن يرتبك الموقف أو يلتبس. الخروج من شرنقة المراوحة أو التقليد وعدم الإقدام بات ضرورياً، فلنكسر ذلك القالب المتوارث كي نرى الشمس بوضوح: ليس في الأمر صعوبة، فلنبادر.