الأحد، كانون(۱)/ديسمبر 22، 2024

حول التحوّلات الجارية في بنية الطبقة العاملة اللبنانية

  د. كمال حمدان
لبنان
منذ نشأته الأولى، طرح الحزب الشيوعي نفسه حزباً للطبقة العاملة وللتحالف الطبقي الواسع الذي يتقاطع معها حول قضايا وأهداف ومصالح مشتركة في الحقلين الاجتماعي والسياسي، كما في حقل النضال من أجل التحرّر الوطني. وفي عيد الأول من أيار، يتوجّب على الحزب الشيوعي تسليط الضوء على موضوع هذا العيد بامتياز، أي على الطبقة العاملة اللبنانية وما طرأ عليها في زمننا الراهن من متغيّرات وتحوّلات، كي يصار انطلاقا من ذلك إلى رسم خارطة طريق تتيح إعادة النهوض بهذه الطبقة وبوظائفها المتنوّعة على المستوى الوطني.


لقد حصلت تطورات عميقة في بنية الاقتصاد اللبناني خلال العقود القليلة الماضية، وبخاصة منذ مطلع التسعينيات التي شهدت بداية نشوء وتنامي نمط اقتصادي ريعي قامت مرتكزاته الأساسية على عناوين محدّدة، أهمها: إطلاق العنان للتجارة والاستيراد والاستهلاك والسياحة والفورات العقارية، وإشغال الناس بمعدلات الفائدة الاسمية المرتفعة وبتداعيات سياسة التثبيت النقدي وما اقترنت به من تورّم مالي ناجم عن نسق تمويل عجز الدولة وخدمة الدين العام. وذلك بالتزامن - في المقابل - مع تقويض المرافق العامة الأساسية وقطاعات الانتاج الرئيسية وفي مقدّمها الصناعة والزراعة، ومع تعزيز هجرة (لا بل تهجير) الشباب إلى الخارج لعدم توفّر فرص عمل لائقة في البلاد. وقد أفضت هذه التطورات إلى تحوّلات ذات دلالة في التركيب الطبقي للمجتمع وفي عملية توزّع الدخل وملكية وسائل الانتاج عموما، مما انعكس بصورة مباشرة على خصائص الطبقة العاملة، لجهة توزّعها القطاعي والجغرافي وتوزّعها خصوصا بحسب حجم المؤسسات، كما هو مبيّن أدناه:
أوّلاً، سجّل تراجع في نسبة العمال والأجراء من مجموع القوى العاملة مقارنة بالسبعينيات، فباتت هذه النسبة راهناً في حدود 50% إلى 55% من مجموع عدد اللبنانيين العاملين، أي ما يوازي نحو 800 ألف أجير في القطاعين العام والخاص، وذلك بخلاف ما شهدته دول المركز الرأسمالي التي استمر فيها العمل المأجور آخذا مداه الصاعد خلال أكثر من قرن حتى تجاوز 75% بل حتى 80% من العاملين، مع الإشارة إلى أن أكثر من نصف أجراء القطاع الخاص في لبنان هم غير نظاميين ولا يستفيدون من تقديمات اجتماعية. وجاء هذا التراجع كنتيجة لتنامي الأنشطة الطفيلية والريعية على حساب النشاطات المنتجة، وانتقال أعداد من الأجراء – بسبب تدهور شروط العمل المأجور - للعمل لحسابهم الخاص في القرى والمدن وضواحي العاصمة والمناطق الطرفية، فيما إلتحق آخرون كثر، وبخاصة الجامعيين منهم، بموجات الهجرة إلى الخارج بسبب ندرة فرص العمل.
ثانياً، تزامن تراجع نسبة الأجراء مع تقلّص نسبة العاملين عموماً (أجراء وغير أجراء) في قطاعي الزراعة والصناعة إلى النصف في الفترة ذاتها، حتى باتت لا تزيد عن 15% أو 20% من مجموع العاملين في لبنان، مع الاشارة إلى أن هذا الانخفاض انسحب بحدّة أكبر على نسبة الأجراء في هذين القطاعين. في المقابل فإن نسبة العاملين عموماً والعاملين بأجر على وجه الخصوص ازدادت بما يزيد عن 30% في القطاع الثالث الذي يشمل التجارة والخدمات، حتى أصبح هذا القطاع يشغّل نحو ثلاثة أرباع مجموع الأجراء اللبنانيين، بما يشمل الموظّفين والمتعاقدين في القطاع العام الذين ازداد عددهم نحو خمس مرّات منذ السبعينيات (من 60 ألف موظّف إلى نحو 250 إلى 300 ألف موظّف)، وذلك لأسباب زبائنية ترمي إلى ضمان الولاء السياسي والانتخابي لجزء كبير من هذا "الجمهور" لصالح القوى التنفّذة في السلطة.
ثالثاً، لكن من المهم الملاحظة أن نحو 55% من أجراء القطاع الخاص تقريبا بقي يعمل في مؤسسات يزيد عدد عمالها عن 50 عاملاً، مع العلم أن هذه الأخيرة لا تمثّل سوى 2% من مجموع عدد المؤسسات العاملة في لبنان في حين تشكل المؤسسات المتناهية الصغر (دون خمسة عمّال) أكثر من 92% من هذا المجموع (بحسب المسح الاحصائي للمؤسسات). وهذا ما يدعو إلى الاستنتاج أن ضعف التفارق الطبقي الذي اقترن به تاريخياً النظام الرأسمالي اللبناني التابع لم يحل دون استقطاب عدد قليل من المؤسسات الكبيرة – خصوصاً الخدمية منها - لنسبة وازنة من مجموع العمال والأجراء، مما يعبّر بشكل جليّ عن واقع السيطرة الاحتكارية المترسّخة تاريخيا. ويفرض هذا الواقع على الحزب الانكباب على إعادة إجراء قراءة متأنية لهذه المسألة، تمهيدا لإعادة النهوض مجدّدا بالحركة النقابية وبالدور الفاعل للحزبونقاباته فيها.
رابعاً، أما العمل بأجر في الوظيفة العامة (ما بين 250 ألف و300 ألف موظف وأجير ومتعاقد) فقد أفرغته القوى الحاكمة ونمطها الريعي التبعي، خصوصاً بعد انتهاء الحرب الأهلية، من مضمونه التاريخي المتصل بمفهوم بناء الدولة الحديثة كما اختبرتها تاريخياً دول المركز الرأسمالي. فتحالف البورجوازية والزعامات الطائفية أضفى على الدولة اللبنانية صورة متخلّفة وزبائنية، نتيجة تعامله الثابت معها كقناة للسطو على المال العام وللتوسّع غير المضبوط في التعيينات العشوائية والتحاصص والفساد السياسي والاداري، وذلك بالتزامن مع التغاضي المطلق عن واقع انهيار انتاجية العمل في القطاع العام وتعاظم الشغور الفاضح في ملاك الدولة الإداري وتغليب أشكال ملتوية وهشّة من العمل، وبخاصة عبر تعميم التعاقد الوظيفي.
سادساً، إن الحديث عن الطبقة العاملة في لبنان لا يكتمل من الأخذ في الاعتبار وجود 400 ألف إلى 500 ألف عامل غير لبناني، وبخاصة السوريين منهم، يعمل معظمهم في أنشطة غير نظامية. ويشكّل هؤلاء – إلى جانب العاملين والعاملات في المنازل - نحو 50% من مجموع العاملين بأجر في لبنان، مما ينطوي على أبعاد سياسية واقتصادية واجتماعية بالغة الأهمية. وأيّ مقاربة مستقبلية للحزب حول القضايا التي تعني الطبقة العاملة في لبنان تتطلب إجراء قراءة عميقة ومتأنية لمندرجات هذا الواقع ودلالات، لا سيما أن البورجوازية اللبنانية لم تعدم فرصة إلّا وحاولت فيها استخدام هذا الفائض من عرض العمل (وبخاصة اليد العاملة السورية) لفرض شروط مجحفة بحقّ العمال والأجراء عموما، لا سيّما فقراء العمال اللبنانيين والسوريين، هذا بالإضافة إلى مشاريعها المضمرة بشأن التوظيف السياسي والطائفي لهذا الملف الشائك.
سابعاً، إن هذه التغييرات في بنية الطبقة العاملة قد تزامنت منذ أواسط التسعينيات مع وضع اليد على الحركة النقابية اللبنانية من جانب القوى المتنفّذة ورعاتها الاقليميين. ففي غضون سنوات قليلة بعد اتفاق الطائف، تضاعف عدد الاتحادات النقابية نحو أربعة مرّات، ومعظم الاتحادات المشكّلة حديثا كانت تدور في فلك القوى الطائفية المتنفّذة في السلطة، فيما إنحسر وزن الاتحادات اليسارية والمستقلة إلى أضيق نطاق بخلاف ما كان عليه الوضع قبل الحرب الأهلية. والملفت أن هذا التحوّل قد حصل في وقت كان فيه عدد العمال والأجراء عموما يميل نحو الانخفاض النسبي. ويشكّل هذا السطو على قرار الحركة النقابية أكبر تحدّ يواجه القوى اليسارية والديمقراطية، نظرا لتداعياته السلبية على الواقع الاجتماعي والسياسي ولإفساحه المجال أمام تشجيع الاستقطابات الطائفية والمذهبية في البلاد على حساب على حساب الاستقطاب الطبقي والوطني.
وفي وقت ينذر فيه الانهيار الاقتصادي المستجدّ بتدهور غير مسبوق في الأحوال المعيشية للعمال والأجراء وعموم اللبنانيين الذين بات يتهدّدهم الفقر والبطالة والجوع، فإن الشيوعيين معنيّون بتركيز جهودهم على إعادة إنتاج قراءة نقدية ومتقدّمة للمسائل الشائكة المتعلّقة بالطبقة العاملة وحركتها العمالية والنقابية، مع تحديد نقاط الخلل والضعف التي اعترت مواقف الحزب وممارساته حيالها. وأولى المهمّات تقضي ببلورة برنامج كفاحي لا يستهدف فقط الدفاع عن المصالح الاقتصادية والاجتماعية للعمال والأجراء، بل يحوّل هؤلاء أيضاً إلى قوّة مؤثّرة وفاعلة في عملية التغيير السياسي الديمقراطي والتحرّر من التبعية. وهذه المهمّة لا تعني القيادة الحزبية أو القطاع العمالي حصرا، بل يجب أن تصبح جزءا لا يتجزّأ من عمل كل الهيئات الحزبية، سواء القاعدية منها أو الوسطى. فكلّ الموارد والطاقات والخبرات المتاحة يجب تعبئتها لمواجهة تحالف أجهزة الدولة والطغمة المالية التي لم تكفّ يوما عن الاضطلاع بدور تكييفي وتأطيري لشرائح واسعة من الأجراء والعمال، والتي عطّلت وعي هؤلاء لمصالحهم الفعلية من خلال بثّ مشاعر القلق والتفرقة والشحن الفئوي والمذهبي من جهة، والتلويح لهم من جهة ثانية بفتات المنافع الزبائنية الصغيرة بما فيها بعض أشكال الدعم، وهذا ما أوجد حالة من عدم المبالاة لدى قسم كبير من العمّال ممّن انكفأوا عن خوض المعارك السياسية والمطلبية.

أما وقد أطاحت تداعيات الانهيار الاقتصادي الراهن بسياسة توزيع المنافع الزبائنية واستقطاب الناس على أساسها، وأصبح الجوع والفقر يدقّان أبواب العمال والشرائح الاجتماعية ما دون المتوسطة، فان التربة باتت مهيّأة موضوعيا لإعادة استقطاب هذه القوى الاجتماعية على أساس ما يجمع بينها من مصالح حيوية. وهنا يأتي دور العامل الذاتي، خصوصا في هذا الزمن الصعب الذي أحوج ما تكون فيه الحركة الشعبية إلى رافد نقابي يمدّها بعوامل القوّة والصلابة والثبات.