الأحد، كانون(۱)/ديسمبر 22، 2024

د. كمال حمدان: هذه شركة سياسية وليست طبقة سياسية

لبنان
اعتبر مدير مؤسسة البحوث والاستشارات الخبير الاقتصادي الدكتور كمال حمدان خلال مقابلة تلفزيونية على قناة الجديد بأنّ الازمة التي نعيشها في الوقت الراهن هي أزمة يتداخل فيها خمسة مسارات.

المسار الاوّل هو المسار " الماكرو اقتصادي" حيث يتجه الاقتصاد إلى تسجيل معدلات نموّ سلبية بدءاً من عام ٢٠١٨ حيث تسير التوقعات أنه ومع انتهاء عام ٢٠٢٠، سينخفض الناتج المحليّ الاجماليّ بين ١٢ و١٥ ٪. المسار الثاني هو انهيار إيرادات الدولة بشكل لافت خلال عام ٢٠١٩ و٢٠٢٠ مترافقاً مع الانفاق المتزايد بسبب الطلب المتزايد على الكهرباء وخدمة الدين والانفاق على الأجور والتقديمات الاجتماعية وفي هذا السياق، يُتوقع أن يكون عجز المالية العامة عجزاً قياسياً عام ٢٠٢٠. الازمة الثالثة هي الازمة المصرفية التي نشهدها حالياً حيث حالات العجز والافلاس وعلامات استفهام كثيرة تطرح إلى حين معرفتنا بحجم " الثقب الأسود". المسار الرابع هي خسائر مصرف لبنان والتي كان يخفيها المصرف لسنوات عديدة في طلّ غياب ميزانيات تفصيلية وفي ظلْ الاعتقاد العام الشائع آنذاك أن أموال الناس موجودة في مصرف لبنان، والمصرف يغطّي إنفاق الدولة وأرباح المصارف، وهكذا دواليك. أمّا المسار الخامس فهو المرتبط بالبطالة والتي من المتوقع أن ترتفع خلال الفترة المقبلة. حمدان قال بأن هذه العناصر الخمسة اجتمعت وتتفاعل فيما بينها كما لم يحصل من قبل.

حمدان ذكّر اللبنانيين بمرحلة الثمانينيات حيث قال إنّ أوجه التشابه تكمن في ارتفاع الأسعار. التضخم في سنة ١٩٨٧ بلغ ٥٢٠ ٪ ولكن كان ثمة أموال أجنبية تتدفق إلى البلد آنذاك لأسباب عديدة وهذه الاموال لم تعد تتدفق بهذا الحجم في الوقت الحاضر. وتعليقاً على الدراسة الأخيرة التي صدرت عن المؤسسة، قال حمدان أن تضخّم أسعار الاستهلاك لطالما كان أعلى من تضخّم أسعار الصرف حتى عندما لم يكن سعر الليرة مُثبتاً مقابل الدولار بشكل رسمي ابتداءً من عام 1997. أما اليوم، فيبدو كما هو ظاهر أن المسار قد انقلب تماماً، على الأقل في المدى الفوري. وأضاف حمدان بأن مشكلة أسعار الارتفاع ظلت قائمة خلال السنوات التي تلت تثبيت سعر الصرف، مشيراً إلى ارتفاع الأسعار بين عام ١٩٩٦ و٢٠١٢ بلغ ١٢١ ٪. لذلك فإنّ سبب ارتفاع الأسعار لا يكون بالضرورة مرتبط بارتفاع الدولار، بل النظام السياسي الطائفي والأزمات التي يولّدها هي سبب مباشر لعدم الاستقرار، وقال حمدان بأن سبباً أساسياً لارتفاع الأسعار يكمن في " احتكار القلة " والتي تتحكم ب ٧٠ ٪ من الأسواق.

وبالعودة إلى الدراسة التي أعدتها المؤسسة، فإنها تشير إلى أن تضخّم سعر الصرف بات أعلى من تضخّم أسعار الاستهلاك، بالرغم من أن أسعار السلع الإفرادية قد تجاوزت نسبة ارتفاع الدولار تجاه الليرة. فأسعار الاستهلاك، ولأسباب موضوعية موصوفة في تقرير المؤسسة لم تأخذ مداها الفعلي، إلى الآن، بما يعكس ارتفاع سعر صرف الدولار، وهي مرشحة لمزيد من الارتفاعات في إطار دينامية تغذّي نفسها بنفسها في المدى القصير والمتوسط. إن انخفاض قيمة الليرة مقابل الدولار يدفع نحو المزيد من التضخّم الذي ينعكس ارتفاعاً في أسعار السلع فتزداد الضغوط على الليرة لتدفع الدولار نحو مزيد من الارتفاع. وطالما لم يحصل تدخّل واضح في السوق على جبهتَي العرض والطلب، ستبقى هذه الدينامية قائمة، وربما لن تكون لها حدود واضحة في ظل طبيعة الاقتصاد اللبناني المرتكز على احتكارات وعلى تركّز شديد في الدخل وهوّة كبيرة في المداخيل وتوزّع الثروة. أهمية الدراسة أنها تنطلق منذ أربعة عقود (من عام ١٩٧٧ وحتى عام ٢٠١٩) لتقيس تطوّر كلفة المعيشة في لبنان. ما تبيّن في هذه الفترة - وهو ما يحتاج إلى فعل وجدّية في أي خطّة ترسمها الحكومة أو تزعم أنها سترسمها - أن بنية الأسعار في لبنان مشوبة بالاختلالات نتيجة مفاعيل سياسة التثبيت النقدي التي عزّزت الاستيراد وأضعفت الجزء القابل للتصدير من الإنتاج المحلي. بمعنى آخر، إن سياسة التثبيت الطويلة المدى، كان لها أثر واضح في إضعاف القدرة التنافسية للإنتاج اللبناني القابل للتصدير، وأدّت إلى تعزيز الطلب الاستهلاكي بأسعار مدعومة ما أتاح نمط معيشة يفوق واقع المداخيل الفعلي لتحقيق الرفاهية، ويشجّع الاستهلاك على حساب الإنتاج ويكرّس فوارق اجتماعية كبيرة بالاستناد إلى سياسات مالية ونقدية مصمّمة لحماية هذا التثبيت النقدي. لم تكن هناك أي سياسة اقتصادية، أي لتعزيز الإنتاج، بل كان هناك خلق للتورّم المالي والأوراق المالية السيادية بفوائد باهظة بالليرة والدولار دعماً للتوسّع في الاستهلاك وخصوصاً الاستهلاك الحكومي.
يقول مدير المؤسّسة الخبير الاقتصادي كمال حمدان إن «الفكرة الأساسية من هذه المقارنة تفيد بأن الغلاء لا يزال في أوله، وأنه يجب التحذير من الآتي الذي قد يكون أعظم». يستعيد حمدان بعضاً من مقتطفات المقارنة: «في أول حكومتين في التسعينيات، كانت المقارنة بين المؤشرين تشير إلى أن ارتفاع أسعار الاستهلاك أعلى من ارتفاع سعر صرف الدولار، وإذ نشهد اليوم اتجاهاً معاكساً مع تجاوز ارتفاع سعر صرف الدولار نسبة 100% مقابل ارتفاع الأسعار 13% فقط. ما نشهده لا يعدّ إلا أمراً مؤقتاً وظرفياً. ما يظهر في المدى الفوري لا ينسجم مع العوامل التي تحكّمت في تطور المؤشرين في العقود الماضية. وإذا افترضنا أن كل شيء آخر سوف يبقى ثابتاً ومترسّخاً في البنية العامة للاقتصاد المحلي، فإننا سنشهد بعد فترة تصاعداً دراماتيكياً في الأسعار قد تستحيل السيطرة عليه. الأسوأ لم يأت بعد.

انتقد حمدان خلال المقابلة التلفزيونية النتائج المترتبة عن تثبيت سعر الصرف لأنه أوهم اللبنانيون أنهم قادرون على العيش والسفر والترفيه. بلغ إنفاق اللبنانيين على الخدمات السياحية في الخارج خلال السنوات العشر الأخيرة ما مجموعه ٤٠ مليار دولار وهذا يعد رقماً ضخماً كان ليكون استثماره في السياحة الداخلية مثلاً وقعاً مغايراً على الاقتصاد الوطنيّ. بدءاً من عام ٢٠١١، بدأت المؤشرات المقلقة والتي عدّدها حمدان بثلاث أمور وهي بدء انخفاض تحويلات المغتربين، وتراجع الاستثمار الاجنبيّ المباشر (FDI)، وانخفاض القروض والهبات بسبب المشاكل التي حصلت في المنطقة بعد أحداث الربيع العربيّ. في هذه الفترة أيضاً، كانت كلفة الاستيراد تزيد من دون وجود مقومات اقتصادية حقيقية. " لبنان فوّت فرصة ذهبية على نفسه" بهذه العبارة لخّص حمدان الوضع الاقتصادي الذي كان قائماً بين عامي ٢٠٠٧ و٢٠١٠ حيث سجّل البلد معدلات نموّ إيجابية تراوحت بين ٩ و١٠ في المئة. خلال تلك الفترة، وفيما لو أقدمت الطبقة السياسية على المضيّ في سياسة اصلاح جدية وتقليص الهدر والفساد في قطاع الكهرباء مثلا، لكنّا في وضع اقتصادي أفضل ولكن كل هذا لم يحصل للأسف، وبدأت المشاكل في المنطقة عام ٢٠١١.

وعن السجال الدائر حالياً في البلد حول حاكم مصرف لبنان، قال حمدان أنّ المشكلة ليست محصورة بحاكمية مصرف لبنان فقط بل هو مجمل السياسة النقدية والمالية التي اتبعتها السلطات المتعاقبة ومجلس النواب يتحمّل مسؤولية أساسية لأنه مصدر كل التشريعات. يترافق هذا مع إنفاق غير مجدي واتخام القطاع العام ومرور ١١ عاماً من دوم موازنات وقطع حساب. الازمة لم تبدأ عام ٢٠١٩ مع التحويلات المالية التي حصلت ابان انتفاضة ١٧ تشرين، بل أن أساس المشكلة بدأ عام ٢٠١٦ مع "الهندسات المالية" التي أجراها المصرف المركزي بمعدلات فائدة وصلت إلى ١٨ ٪ فيما كانت معدلات الفائدة العالمية تتجه إلى الصفر في المئة. هناك بعص المتنفذين استفادوا من هذه الفرصة لجنيّ الأرباح الطائلة واقتنصوا هذه الفرصة. حمدان كشف أنّ مجموع ما خرج من أموال خلال العامين الأخيرين بلغ أكثر من ٢٠ مليار دولار حسب تقارير ومعلومات صدرت عن مسؤولين وخبراء وهذه الاموال خرجت من النظام المصرفيّ. أشار حمدان إلى أنّ حرية نقل الاموال وتحويلها صحيح هي مصانة في الدستور والقوانين بفعل النظام الاقتصادي الحرّ القائم عليه لبنان، ولكن إذا كانت تكلفة هذا الامر ستكون وصول الفقر إلى مستويات قياسية فلا داعي لها من الأساس مستنداً إلى تقديرات البنك الدولي الأخيرة والتي تفيد بأن الفقر سيرتفع إلى ٤٣ ٪. حسب الدراسات، يقول حمدان، أن مدخول الاسرة الشهري في لبنان يجب أن يكون ١٢٠٠ دولار أميركي كي لا تقع في خط الفقر الأعلى. وبعد انتفاضة ١٧ تشرين والازمة الاقتصادية المتفاقمة، أتى وباء الكورونا ليزيد الأعباء والتكاليف الاقتصادية وأبرز تجليات هذه الاعباء ستكون ارتفاع مستويات البطالة سواء الكلية أو الجزئية أو تقليص الرواتب أو عدم إعطاء الاجازات المدفوعة للعمّال.

وعن الواقع الحالي وآفاق الحلول المستقبلية، قال حمدان أن المؤشرات مقلقة جداً خاصة لجهة التوقعات بانخفاض الناتج المحليّ الإجمالي لهذا العام بنسبة ١٢ ٪ ليرتفع إلى أكثر من هذا المعدل في السنوات المقبلة كما أقرت الحكومة بخطتها. هناك مظاهر للازمة ستتكشف أيضاً في سوق العمل قريباً من خلال انتقال عشرات الألوف من قطاعات اقتصادية يعملون بها حالياً إلى قطاعات اقتصادية أخرى، وانتقال عشرات الألوف من مهن إلى مهن أخرى، وخيارات أخرى للمواطنين قد تكون الهجرة احداها.

وعن مسار الإصلاحات السياسية والحكومية، قال حمدان أنّ التدابير التي اتخذتها الحكومة بالأمس (لناحية تفعيل التدقيق الضريبيّ والتحقيق المحاسبي وتطبيق بعض مواد قانون السرية المصرفية) ليس كافياً لانّ بعض هذه الاجراءات يحتاج إلى قوانين متمنياً بذلك فيما لو منحت هذه الحكومة صلاحيات تشريعية استثنائية مثلما كان ينادي البعض ضمن انتفاضة ١٧ تشرين. الحكومة الحالية وصفها حمدان بأنها البنت الشرعية لهذا النظام وان تواجد فيها بعض الوزراء الخبراء. وختم حمدان كلامه بالقول أنّ الأمر الوحيد الذي قد يخفّف التقييم السلبي لهذه الحكومة هي في محاولتها أن تلتقط غضب الناس وهذا الأمر يستوجب " قطع حبل السرّة" مع أركان المنظومة الحاكمة. تستطيع فعلها فقط إذا استلهمت روح انتفاضة ١٧ تشرين وأكملت بمسارها وعندها يتكامل الضغط الشعبي مع الضغط السياسي.