"التعليم عن بعد" والصراع الطبقي
إذاً، بعد أن أسّست البورجوازية اللبنانية وتحت سلطة مؤسسات الطوائف خطوط تصنيع لإعادة إنتاج هيمنتها وذلك عبر التعليم، جاءت الحركة الطلابية والإجتماعية لتفرض إنشاء الجامعة الوطنية وتزامن ذلك مع دور ريادي لدور المعلمين وتالياً التعليم الرسمي في مرحلتي الأساسي والثانوي.
بعد توقف الأعمال العسكرية (ما سمي بانتهاء الحرب الأهلية)، وبعد أن أعادت الطبقة المهيمنة تشكيلتها في إطار سيطرتها ترافق ذلك مع "الحريرية"، أُعطيت مئات التراخيص لمؤسسات الطوائف التعليمية واستمر دعم هذه المؤسسات على حساب "التعليم الرسمي" تحت مسميات مختلفة منها بشكل أساسي:
التعليم الخاص المجاني أو النصف مجاني، والذي يستنزف جزءاً يسيراً من ميزانية وزارة الشؤون الاجتماعية. المنح التعليمية والتي تتفاوت بين إدارة وأخرى في القطاع العام (تعاونية موظفين، قوى أمن، دكاترة الجامعة اللبنانية، موظفي الضمان الإجتماعي، موظفي مصرف لبنان ومؤسسات المصالح المستقلة وغيرها...)، هذه المنح ما هي إلا تمويل للقطاع الخاص بينما تفتقر المدرسة الرسمية والجامعة الوطنية للميزانية الفعلية التي تسمح بتطوير البنى التحتية وتأهيل المناهج والموارد البشرية، إذاً، أغدقت السلطة مبالغ ضخمة لصالح التعليم الخاص بينما هشّمت التعليم الرسمي ليس عبر شح الميزانيات التي تكاد لا تكفي لتشغيل البناء لوجستياً فقط بل عبر ضرب أسس إنتاجيته بالتعاقد الوظيفي والتوظيف الزبائني.ما دخل كل ذلك بـ "التعليم عن بعد"؟!.. الأمر بسيط.
مع انتشار فيروس "كورونا" كانت المبادرة الأولى لتعطيل المدارس والمهنيات والجامعات ودور الحضانة، ولما بدأت تظهر علامات الإطالة على التعطيل القسري بدأ معها صدور تعاميم مكثّفة عن وزارة التربية والتعليم العالي. تلك التعاميم أقلّ ما يقال فيها أنها ضبابية، لا وضوح فيها سواء لآلية تنفيذها أو لناحية حفظ حقوق العاملين في مؤسسات التعليم الرسمي من كادر إداري وتعليمي إلى متعاقدين ومياومين...
كيف تعاملت الوزارة مع الموضوع، يمكننا القول إنها كانت كمن يقول "عملنا يلي علينا"،
صحيح أن الوزير الحالي لا يتحمّل تبعات السياسات المتبعة منذ التسعينيات وحتى اليوم ولكن هو المسؤول اليوم.
ما الذي فضحته جائحة "الكورونا"؟، دون مبالغة فضحت النظام الرأسمالي ككل، أثبتت أن القطاع العام هو الأساس في مواجهة أخطار وأزمات كهذه، فلم نرَ في جبهة التصدّي إلّا المستشفيات الحكومية وكادرها الذي غالباً ما تنقضي أشهر دون حصوله على راتب.
الأمر سيان مع التعليم، بحكم التفاوت الطبقي استطاع طلاب المؤسسات الخاصة غالباً الانخراط بسلاسة في عملية "التعليم عن بعد" وكان جلياً في الكثير من الأحيان أنهم تلقوا ما غاب عنهم في التعليم المباشر بسبب التعطيل القسري بشكل مقبول، على عكس التعليم الرسمي، لماذا ذلك؟ سنسرد مجموعة معطيات:
- المكننة نادرة الوجود في التعليم الرسمي.
- أغلبية الطلاب هم من الطبقة النقيض التي يسمونها هم الفقراء، بينما هم المستَغَلين، هؤلاء الطلاب إما لا يملكون في المنزل إلّا هاتفاً واحداً، وغالباً لا يوجد جهاز كمبيوتر وبالتالي عملية التواصل صعبة ما يكفي لطالب واحد فكيف الحال مع أكثر من طالب ضمن نفس العائلة.
- شبكة الإتصالات المزرية وذات الكلفة المرتفعة، لا الأهل يستطيعون تحمل كلفتها ولا حتى الأساتذة الذين عليهم استهلاك سعات أكبر من الداتا لإرسال ملفات توضيحية وشرح وغير ذلك.
- الحاجة في الكثير من الأحيان إلى طباعة بعض الوثائق، الأمر الذي يرتب تكاليف إضافية.
- غياب مواكبة تكنولوجيا الاتصالات والتواصل في الكثير من الحالات سواء بين الطلاب أو حتى الأساتذة.
- التفاوت أيضاً حسب الصف والمرحلة التعليمية (بالتالي حسب درجة وعي وإدراك الطالب).
- التفاوت بين الأكاديمي والتعليم المهني، فبينما التعليم الأكاديمي واضح المنهاج والمواد التعليمية، الأمر ليس كذلك في التعليم المهني، هناك الشق التطبيقي أساس في العملية التعليمة وهو الذي يحمل المعدلات الأعلى خاصة في الإختصاصات الصناعية، وهناك استحالة لتطبيق التعليم عن بعد في الشق التطبيقي بسبب الحاجة إلى مختبرات تتوفر فيها التجهيزات والمعدات اللازمة للتنفيذ. كذلك الأمر بالنسبة لما يتعلق منه بالشق النظري؛ إذ ليس سهلاً إيصال المعلومات والأفكار اللازمة عن بعد، يضاف إشكالية أخرى هنا ألَا وهي أن "التعليم عن بعد" في التعليم المهني انطلق بداية للشق النظري فقط ولصفوف الشهادات الرسمية ليصدر تعميم بتاريخ 8 نيسان 2020 يُطلق هذه العملية لصفوف ما دون الشهادات، أي بتأخير شهر على الأقل، مع ضرورة ذكر أن طلاب المراحل الدنيا أي التكميلية المهنية نصف برنامجهم التدريسي تقريباً هو تطبيقي ولا حل لهذه المعضلة بعد.
إذاُ، نستنتج بأن ديمقراطية التعليم والمساواة في هذا الحق غير متوافرة.
والأكثر من ذلك جميعنا يعلم أن سياسات الطبقة المهيمنة المالية والإقتصادية - الإجتماعية كان لها الفضل بتكريس اقتصاد ريعي ووهمي، وعند أزمتها المتفجرة منذ ما يقارب الستة أشهر خلفت الآلاف خارج سوق العمل ليخرج معهم آلاف أخرى مع جائحة الكورونا، ليزداد الأمر سوءاً مع سياسات السلطة التي ألزمت الناس بالعزلة المنزلية دون أن تؤمّن لهم مستلزمات البقاء والأمان؛ بدلات الإيجار، فواتير الكهرباء والماء، الغذاء،... لم تقم السلطة إلّا بسجن الناس ليموتوا جوعاً تحت تهديد الموت مرضاً.... ومجدّداً بسبب سياسات السلطة التي تبجّل القطاع الخاص على حساب العام وبالتالي الربح الفردي على حساب المجتمع، هو المنطق الرأسمالي الذي لا قيمة للناس فيه وخاصة العامة إلا بحجم استغلالهم.
ليست مفاخرة وزير التربية بإنجاز "التعليم عن بعد" في وقت قياسي إلّا فقاعة تخفي بداخلها تخبطاً وضياعاً.
ما هو مطلوب اليوم تكريس مفهوم دولة الرعاية الإجتماعية التي واجبها تأمين مقوّمات الحياة لكافة المواطنين، لا أن تعمل مؤسسات الدولة ومسؤولوها لصالح ازدهار القطاع الخاص وبالتالي الانتصار للأقلية بوجه الأكثرية.
مما لا شك فيه أن الأزمات المتراكمة همُشت وهشّمت فئات أوسع من الناس، وهؤلاء قريباً لن يكون لديهم ما يخسرونه غير القيود والأغلال، توقعوهم.
*المصدر: مجلة النداء.