بين جنون إلغاء السلسلة وطمر الرأس في الرمال.. الخيارات البديلة ضرورة والحكومة حاجة لا ترف!
أزمة تلو الأخرى تبعد الحكومة المرتقبة عن موعد إعلانها. من كباش على المقاعد الدرزية، مروراً بحقائب القوات اللبنانية ومطالبها السعودية والإذعان الحريري، وصولاً إلى العقدة الأخيرة شكلاً، وهي تمثيل النواب السنة المعارضين للرئيس المكلّف بوزير، مدعومين طبعاً من حزب الله وحركة أمل، فيما يتولّى رئيس التيار الوطني الحر جبران باسيل عملية الوساطة بين حلفائه "الاستراتيجيين"، وحليف التسوية الرئاسية!
هو بلد العجائب والغرائب. تحضير للاحتفال بالاستقلال يقفل مداخل العاصمة ومنافذها، ويوم شتاء تشريني يغرق العاصمة بفيضان المجاري.
رئيس حكومة يرفض لقاء نواب انتخبهم الشعب، لمجرّد أنّهم يطالبون بمقعد وزاري. القوة السياسية الداعمة لهؤلاء النواب توصد الباب أمام التشكيل. الأطراف جميعاً على مواقفها. رئيس حزب "اشتراكي" يقرّ بتحوّلات إقليمية لغير مصلحة فريقه. يردّ عليه "حليف" في الفريق الإقليمي عينه برفض الهزيمة. يومان يمرّان ورئيس الحزب عينه يريد الثأر من خصم انتخابي، ليكاد يجرّ منطقته والبلاد الى حرب أهلية!
حديث تلفزيوني لوزير سابق ينتقد الرئيس المكلّف يؤدي إلى إغلاق الشوارع وحرق الإطارات. قوة ضاربة من الجهاز الأمني "التابع سياسياً" للرئيس عينه تصير الضابطة العدلية المكلّفة من قاضي التمييز "التابع سياسياً" للرئيس عينه تغزو قرية الوزير المذكور لـ"تبليغه" الحضور الى المحكمة! مرافق الوزير يصاب بظروف لا تزال غامضة لجهة من أطلق النار عليه وهو الشبيه للوزير، ويقضي نحبه في المستشفى.
التسريبات الصحفية تطمئننا يومياً بحتمية وصول مال سيدر، لتعود الصحف عينها لتخبرنا عن حديث مصدر دبلوماسي عن نزوح الأموال في حال عدم تشكيل الحكومة. في اليوم التالي تغيّر رأيها. ثمانية اشهر والكلام يُعاد.
رهان طفولي على نفط وغاز لا يزال في البحر دون أي رؤية اقتصادية حقيقية لكيفية التصرّف بعائدات الذهب الأسود. وأوهام بحتمية المشاركة في ورشة الإعمار السورية بعيداً عن اي خطوات عملية تقرّب البلاد من هذا الهدف. أضغاث أحلام وشعارات مدوّية في الإعلام، ومحاولات حثيثة في الخفاء والغرف الحالكة تعاكس جلّ الكلام المنشور.
عجز في الميزان التجاري، وأزمة سكانية مستمرّة، ولا أموال في خزينة الدولة. هي عناوين "أسبوع التأليف الطويل" لا حسب. لا حديث عن سياسة سكانية، بل حملة سياسية لإلقاء اللوم على مصرف لبنان الغير مختصّ أصلاً بحلّ المشاكل المشابهة. لا حديث عن الفساد وكيفية وقف النهب المنظّم ولا حديث طبعاً عن سياسات اقتصادية ومالية / ضريبية تعيد للبلد بعضاً من عافيته. جلّ الحديث طبعاً عن ضرورة وقف مفاعيل سلسلة الرتب والرواتب التي أتت لتعيد للموظفين والأساتذة والعسكر بعضاً من حقوقهم المسلوبة طوال سنين، وخفض الضرائب، المنخفضة أصلاً، عن المصارف التي أمضت عقداً "تتهرّب" عن دفع كامل ما عليها، بشكل التذاكي تارة وبالقانون طوراً.
جدير بالذكر أنّ هؤلاء الذين يطالبون اليوم بإلغاء سلسلة الرتب والرواتب هم الرموز المصرفية والتجارية الفاقعة التي استفادت من مقدّرات البلاد طوال سنين خلت. لكن يبقى السؤال: هل المشكلة بالسلسلة، أم بطريقة احتسابها؟ هل المشكلة بالسلسة أم بالتعديلات التي أجروها لاحقاً ليدخلوا قطاعات لا علاقة لها بمفاعيل السلسلة اليها؟ هل المشكلة بالسلسلة أم بمن أدخل آلاف الموظفين الجدد، إن لم نقل عشرات الآلاف، بشكل مستتر إلى الإدارة بعد إقرار السلسلة، علماً أنّ ثمة تقديرات تشير الى أنّ هؤلاء ربما يشكّلون باتوا يشكّلون حوالي 50% من أرقام السلسلة!
ومن باب التذكير لا أكثر، فصفقة واحدة، أو مناقصة مشبوهة واحدة من تلك المطالب بإلغائها توازي السلسلة بحجمها. فلماذا التصويب فقط على حاجة الناس؟ علماً أنّ كلفة السلسلة بأقصى أرقامها المتداولة توازي ثلث خدمة الدين السنوية، أي ما يوازي أقلّ من كلفة الكهرباء، أي ما يوازي أيضاً ما هو أقلّ من كلفة التهرّب الضريبي، أي ما هو أقلّ أيضاً من كلفة الهدر في الجمارك!
هو لبنان البلد العجيب الذي تحكمه طبقة سياسية عجيبة متحالفة مع زمرة تجارية ومصرفية عجيبة بغية استغلال شعب عجيب يعيد انتاج الطبقة التي تحكمه عينها.
فهل تشكّل حكومة تتّخذ قراراً ضرورياً بإعادة تصويب البوصلة تطبيقاً لتطلّعات كان أعلن عنها الرئيس العماد ميشال عون عند انتخابه، وأوّلها نقل الاقتصاد من الريع الى الإنتاج؟ ربما من المفيد هنا الحديث عن بعض المؤشرات الاقتصادية التي تشي بصعوبة الحال:
سجّل مؤشر مصرف لبنان الاقتصادي، الذي يعكس الأداء الكلي للقطاع الحقيقي في الاقتصاد الوطني نمواً سنوياً نسبته 2.5% للأشهر الخمسة الأولى من 2018 بتراجع عن عام 2017 حيث بلغت النسبة في الأشهر الخمس الأولى 5.6%.
في بيان الوضعية المالية العامة، أقرّت الحكومة اللبنانية أنّها أنفقت في النصف الأول من السنة (أي قبل الانتخابات النيابية) لحساب البلديات مبلغاً يزيد بـ344% عمّا كانت دفعته للبلديات في الأشهر الست الأخيرة من العام السابق، بما لا يمكن اعتباره سوى إنفاق انتخابي من خزينة الدولة اللبنانية، واستباحة موصوفة للمال العام مارسها اولئك أنفسهم الذين ينادون بضرورة التقشّف ويحذّرون من الإفلاس!
بلغت قيمة المدفوعات في نيسان 2018 نحو 8630 مليار ليرة، أي بزيادة قيمتها 1802 مليار ليرة، مقارنة مع الفترة نفسها من السنة الماضية.
قيمة الصادرات الصناعية والزراعية في الأشهر الست الأولى من 2018 بلغت 1.5 مليار دولار، بالمقارنة مع 1.4 مليار دولار للفترة ذاتها من 2017.
قيمة المستوردات الصناعية والزراعية انخفضت من 8.3 مليار دولار في النصف الاول من 2017 إلى 8 مليار للفترة ذاتها من 2018.
عدد عمليات البيع العقاري تراجعت 18.2% على أساس سنوي في النصف الأول من 2018، كما أنّ قيمة المبيعات العقارية تقلّصت بمعدل 14% لتصل الى 3.9 مليارات دولار خلال الفترة ذاتها.
نما عدد السياح في النصف الأول من 2018 بمعدّل 3.3%، فيما تراجع إنفاق السياح نقطة مئوية.
بلغت قيمة الشيكات المرتجعة 749 مليون دولار في النصف الاول من 2018 بزيادة 5.7% عن الفترة ذاتها من 2017، فيما زاد عدد الشيكات المرتجعة 15.6% في الفترة ذاتها.
تقلص عدد السيارات الجديدة المباعة 5.4% في النصف الاول من 2018 على اساس سنوي، كما تراجعت نسبة الإشغال الفندقي 3% خلال الفترة ذاتها.
تراجع عدد قروض كفالات 28.1% في النصف الاول من 2018 على أساس سنوي، فيما تراجع المبلغ الكلي لقروض كفالات المعطاة خلال الأشهر الست الأولى 24.4%.
تراجع عدد رخص البناء الممنوحة خلال الأشهر الست الاولى من 2018 بنسبة 12.4% على أساس سنوي، فيما تراجعت مساحات البناء المرخصة (بالمتر المربع) 17.8%.
بلغ الدين العام نهاية أيار الماضي 82.5 مليار دولار بعدما بلغ في الوقت عينه من العام الماضي 76.7 ملياراً، وبات يشكّل الدين حالياً أكثر من 150% من الناتج المحلي الإجمالي. تجدر الإشارة الى أنّ محفظة الدين العام توسعت 15 مليار دولار بين نهاية 2014 ومنتصف 2018.
موجودات مصرف لبنان بالعملة الأجنبية وصلت في حزيران 2018 الى 44.2 مليار دولار بنمو سنوي معدله 7.5%. بالنسبة لاحتياطات الذهب، فقد تصاعدت قيمتها بنسبة 0.5% لتصل الى 11.5 مليار دولار في منتصف 2018.
زاد المؤشر العام للأسعار (التضخّم) بنسبة 5.7% على اساس سنوي في النصف الأول من 2018، مقارنة مع معدل أقل بلغ 4.6% خلال الفترة ذاتها من 2017.
الميزان التجاري: في الأشهر الست الاولى من 2018، بلغت قيمة المستوردات الإجمالية نحو 9.6 مليارات دولار بتراجع سنوي نسبته 1.7% عن 2017. في المقابل، شجّلت قيمة الصادرات الإجمالية نمواً نسبته 1.5% خلال الفترة نفسها. بذلك، يكون العجز التجاري انكمش ليبلغ 8 مليارات دولار، بانخفاض سنوي معدله 3.6%.
تقديرات خارجية للنمو الاقتصادي: يقدّر صندوق النقد الدولي معدل نمو الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي بحوالي 1.5% لعام 2018 مقابل 1% لعام 2017. ويقدّر معدل النمو بحسب البنك الدولي بحوالي 2% للفترة ذاتها. فيما يقدّر معهد التمويل الدولي معدل النمو عند 2.3% لعام 2017 ونسبة 3.1% لعام 2018. وتقدّر الايكونومست (EIU) معدل النمو عند 2.3% لعام 2018، فيما يقدّر المعدّل حسب بلومبرغ عند مستوى 2.1% للعام ذاته.
كلّ ما سبق هو مجموعة أرقام تبيّن الحالة المتهالكة للاقتصاد اللبناني. حالة تثبت فشل، لا بل غياب، سياسة اقتصادية وسياسة مالية. وفي حين انّ السياسة النقدية استطاعت الإبقاء على استقرار البلاد لسنين خلت، فالوضع اليوم بات يستوجب البحث في الذهاب نحو خيارات اقتصادية تقلب الصفحة وتعيد التوازن لاقتصاد البلاد، بدل التهويل يومياً بقرب الانهيار.
أمام الاستحقاقات المقبلة، ولا سيما على الصعيد الإقليمي، وتحديداً في ما خصّ المتغيّرات الحاصلة من بوابة الدخول الروسي الى المنطقة، ومع التحوّلات الجذرية في الساحة السورية، ومع اختلال التوازن الحاصل بين المحاور المتصارعة، لا يزال لبنان يتلهّى بالبحث في كيفية تشكيل الحكومة، في حين أنّ الاستحقاقات كبيرة، وعلى من ينوي الاستفادة من هذه المتغيّرات بات عليه أن يكون جاهزاً على الأقلّ للمضي فيها.. ولكن يبدو أنّ الواقع الإقليمي غائب تماماً عن دنيا المسؤولين اللبنانيين.