دور النقابات وروابط التعليم في التنشئة الاجتماعية ووسائطها في وعي الخطر الصهيوني ومناهضة التطبيع
لعبت رابطات ونقابات المعلمين في فترة الثمانينيّات دوراً بارزاً في مواجهة الغزو الثقافي والتطبيع مع العدوّ الصهيوني، من خلال النادي الثقافي العربي وتجمع الهيئات الثقافية في لبنان برئاسة حبيب صادق. هذا الدور المتميز "فرضَ" على بعض وزراء التربية ورؤساء المركز التربوي، أن يطلبوا من هيئات المعلمين في االتعليم الرسمي والخاص، مشاركتهم في إعداد المناهج والإشراف على سيرها (حنا غريب عن الرسمي ونعمة محفوض عن الخاص). إنما المشكلة في هذا الأمر، هو أنّ طلب المشاركة كان استنسابيّاً وظرفيّاً من قبل المسؤولين التربويين، وليس قاعدةً، لغياب النصوص القانونية التي تسمح بمشاركة الرابطات في الجانب التربوي (المناهج والبرامج) وهذا له علاقة بحق التنظيم النقابي في القطاع العام الغائب عن التشريع اللبناني رغم موافقة الدولة اللبنانية على المعاهدات الدولية التي تقرّ بذلك. على الرابطات والنقابات الالتزام بدورين أساسيين، الأول أن تولي المزيد من الاهتمام لمواجهة الغزو الثقافي والتطبيع مع العدو الصهيوني من خلال هيئاتها، كما فعلت رابطة أساتذة التعليم الثانوي الرسمي عندما أرسلت مبلغاً مالياً إلى الشعب الفلسطيني في غزّة بمقدار تسعة ملايين ليرة كدعم للمحاصرين عام 2009، وثانياً، أن تتحوّل الرابطات إلى نقابات للمعلمين في التعليم الرسمي بقرار ذاتي مقابل رفض الدولة تشريعها قانونيّاً، فبالرغم من المرسوم الاشتراعي 112/59، الذي يمنع الموظفين من الإضراب، تجاوزت روابط المعلمين المواد القانونية المانعة، وكرسّت مفاهيم الاضراب والاعتصام والتظاهر ومبدأ الجمعيات العمومية، منذ أكثر من خمسين عاماً، وبات على المشترع أن يعدّل القوانين ليسمحَ بحق التنظيم النقابي في القطاع العام، تماشياً مع الأعراف والعهود والمواثيق الدولية الآتية:
- المادة 23 من شرعة حقوق الانسان التي تنص على أن "لكل شخص (دون أي تمييز) الحق في إنشاء النقابات أو الانضمام اليها لحماية مصالحه".
- العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية 1966، وقد دخلت هذه المعاهدة الدولية حيّز التنفيذ وصادق لبنان عليها في 1972.
- اتفاقية منظمة العمل الدولية رقم 87 الصادرة في العام 1948 والتي وافق عليها لبنان لاحقاً.
- الإعلان الصادر عام 1998 الخاص بالمبادىء والحقوق الأساسية في العمل.
- اتفاق الطائف، الذي سمح للموظف بالانتساب إلى الأحزاب السياسية، لكن أكدّ حرمانه حق الانتساب إلى نقابة مهنية تسهر على حقوقه.
وكان النائب سامي الجميل قد تقدّم في العام 2011 باقتراح قانون لتعديل أحكام المرسوم الاشتراعي رقم 112 الذي يقضي بإنشاء نقابات في القطاع العام إنما من دون اللجوء للإضراب. كذلك تقدم النائب أكرم شهيب باقتراح قانون لتعديل المادة 15 من قانون الموظفين، يسمح للموظف أن ينشر من دون إذن خطي ولم يأتِ على السماح بالاضراب أو الاعتصام. وحده الوزير السابق شربل نحاس قدمّ اقتراح قانون يسمح بالتنظيم النقابي في القطاع العام مع حق اللجوء للإضراب والاعتصام والتظاهر.
إن المغزى الرئيسي من هذه الأفكار، هو أن الرابطات والنقابات مُلزمة بالتصدي للغزو الثقافي والتطبيع مع العدو الصهيوني من خلال تنظيم أوضاعها، وأن تكون ممثّلة للجسم التعليمي، ولا أعتقد أنها اليوم كذلك، خاصة وأنها تعكس تمثيل أحزاب السلطة في هيئاتها الإدارية، الأمر الذي يحول دون رقابتها للمناهج والتصدي "للخروقات". أما عندما تتحول الى نقابات فعلية، فهذا يعني أنها قررت التصدي أوّلاً للسياسات التربوية الرسمية التي تغيب عنها هذه المسألة.
بالمقابل، إن تسليط الضوء على بعض الوقائع، التي شكّلت خروقات فعلية في العملية التربوية، يساعد على تبيان بعض الأفعال الجدية من بعض المسؤولين، وعلى تراخي وغياب الرقابة على هذه "الخروقات".
فجريدة السفير (المرجع هنا هو الأستاذ عماد الزغبي) كشفت في كتب التاريخ الاجنبية المستوردة "إساءة للعرب والفلسطينيين وإيحاءات مضللّة للتلميذ اللبناني تصب في مصلحة إسرائيل" (4 أيار 2010)، كما كان الحال مع كتاب التاريخ، المعنون تاريخ العالم الحديث، الذي كانت تدرّسه إحدى أكبر المدارس في العاصمة والذي كشفت عنه السفير في العام 2009 حيث يتهم الكتاب حركات المقاومة بالإرهاب.
وفي السياق ذاته، أصدر وزير التربية حسن منيمنة تعميماً في 18 شباط عام 2010 إلى أصحاب المدارس الخاصة حول الكتب المستوردة من الخارج، بعد تعدّد المدارس التي تعمد إلى تدريس تلاميذها في كتب أجنبية من دون التحقق من محتواها، وما إذا كانت تتوافق مع النظام العام أم لا. ويضمن التعميم أنّه "لا يحق لمعاهد التعليم الخاصة، أن تستعمل كتباً مدرسية لم يقرّها وزير التربية والشباب والرياضة، في تاريخ لبنان وجغرافيته وشؤونه الأخلاقية والمدنية والوطنية. وفي تعميم آخر طلب منيمنة "إخضاع الكتب المستوردة لرقابة ذاتية، ومن خلوّها من كل ما يمسّ بالنظام كـ"دولة إسرائيل" المعادية التي ما زال لبنان في حالة حرب معها". كما ورد في بعض الكتب المستوردة عن الحرب العربية-الصهيونية بين عامي 1948 و1949 حين تحدث المؤلف عن حرب "الاستقلال الإسرائيلي" وكأن العرب هم المحتلون لفلسطين، والصهاينة يحاربون من أجل استقلالهم، كذلك الحديث عمّا يسّمى بالإرهاب الفلسطيني.
وفي أيار من العام 2014، تحدثت السفير عن كتب بريطانية غير مشروطة، وهي عبارة عن هبة بريطانية قدرّت بـ5,500 مليون دولار لتغطية طباعة سلاسل الكتاب المدرسي الوطني المعتمد في المدارس الرسمية للتلامذة اللبنانيين، والنازحين من سوريا، المسجلين في المدارس الرسمية، لمرحلة التعليم الأساسي (بين 6 و15 سنة)، وجاء قرار السفارة البريطانية، بعدما لمست رفضاً من قبل وزير التربية الياس بو صعب لجهة السير قدماً في اشتراطه بأن يحتوي كتاب الجغرافيا على اسم فلسطين وليس "إسرائيل"، حيث اعتبر بو صعب أن "مناهجنا وكتبنا المدرسية هي تعبير عن سيادة الدولة على أبنائها...".
وفي السياق عينه، ذكرت العريضة الصادرة عن اللقاء الوطني ضدّ التطبيع مع العدو الاسرائيلي، أنّ اقتران موقف العداء لـ"إسرائيل" بكل محتل آخر، من قبل بعض الأطراف اللبنانية يُسقط كما تقول (العريضة) الطابع الوجودي للصراع العربي-الإسرائيلي. وعلى مستوى آخر، له علاقة بمفهوم السيادة، سيادة الدولة اللبنانية، فقد شاركت " جمعية أديان " كلاّ من المركز التربوي للبحوث والإنماء ووزارة التربية، في ورشة تجديد المناهج وتطويرها، وهي طرحت نفسها من باب الشراكة والمساهمة، إلا أنها في الحقيقة كانت المستأثرة في فرض رؤيتها، باعتبارها الممّولة للمشروع على قاعدة (Qui donne ordonne) أي من يعطي يأمر، فقد كان التمويل من الحكومة البريطانية والبنك الدولي. أما المواد الأساسية التي اختارتها جمعية أديان فهي التربية المدنية والفلسفة والحضارات والتاريخ والاجتماع، أي التركيز على المفاهيم المكوّنة لوعي المتعلّم.
باختصار، إن خطورة المفاهيم المعتمدة عند هذه الجمعية، تتمثلّ في اعتبارها "بناء المواطن يتم تحت سقف الميثاقية"، فاحترام الخصوصيات الثقافية والطائفية أمرٌ ضروريّ في مجتمعات العلمنة والمواطنة، أما ما يسمى "بالميثاقية" فهي مدخل للتوازن الطائفي والتحاصصي، الأمر الذي غيّب بناء الدولة، دولة القانون والمؤسسات.
ومن جهة أخرى، يطاول مفهومُ السيادة الشهادةَ اللبنانية أيضاً، فالبكالوريا الفرنسية والبكالوريا الدولية وغيرها، قد تشكّل خيارات لدى الكثير من التلامذة وهي مشروعة، إنما على الدولة اللبنانية أن تشترط الحصول على البكالوريا اللبنانية أوّلاً، بعدها يمكن الحصول على الشهادات الاخرى.
ختاماً، إنّ التصدي للغزو الثقافي والتطبيع مع العدو الصهيوني، هي عملية متكاملة، فمنظومة التربية والتعليم هي البوّابة الرئيسية، لتحصين مفاهيمنا في مقاومة العدو كمدخلٍ لتعزيز المواطنة وبناء الدولة الحديثة. ويثبت واقع الحال في لبنان ذلك، باعتبار أنّ السلطة اللبنانية، ساهمت وتساهم في دفع البلد إلى الانهيار المرتقب على المستويات كافة، الأمر الذي يتطلب مواجهة سياساتها وتغييرها بالكامل.
*أستاذ علم اجتماع التربية في الجامعة اللبنانية، وعضو المكتب السياسي في الحزب الشيوعي اللبناني.