الثلاثاء، كانون(۱)/ديسمبر 24، 2024
اللوحة للفنان البريطاني محمد حمزة
اللوحة للفنان البريطاني محمد حمزة

النكبة في حكايا ثلاث

لبنان
أطلق المفكر والمؤرّخ قسطنطين زريق كلمة "النكبة"(مع أل التعريف) على ما حدث في فلسطين في العام 1948 في كتابه المعنون "معنى النكبة" (آب 1948) لاحقاً أصبحت التّسمية جزءاً من حياة شعوبٍ بأكملها، أوَّلها وأساسها الشعب الفلسطيني. عادت الباحثة روز ماري صايغ لتضفي على التعبير صفة الإستمرارية من خلال مقالها الذي عنونته "النكبة المستمرة"(مجلة البديل 2007). هذه ثلاث حكايا من "نكباتٍ" مختلفة لأجيال لا تزال "النكبة" تمر عليها.

قرفة وزنجبيل:
تل الزعتر العام 1976
تقفل ام علي باب بيتها بالمفتاح، تسحبه ثم تعاود وضعه في القفل لتتأكد من ان الباب قد أُحكم إغلاقه. تضعه في شريطٍ حول رقبتها فيتدلى على صدرها. تتنهّد المرأة السبعينية ثم تمضي إلى بيت جارتها سامية وهي تكلّم نفسها. تعيد ذكر ما قامت به منذ ان استيقظت حتى اللحظة "توضيت وصليت، وجليت الجليات. الغسيل، خليه يتجمّع لبكرا بعمله. نقّيت العدس و سلقته، و"دبّيت" فوقه الرزّات. يلا، خير وبركة، بس يجي أبوعلاء (تقصد جارها في السكن) بوديله صحن". وقبل ان تضغط على جرس منزل الجيران، تفتح لها سامية الباب وتضحك ممازحة "كم مرة قلتلك فش داعي للجرس، صوتك بكفي، سامعيتك من اول الزاروبة، أكلتي من المخبوصة او بعد؟". تدخل ام علي وهي تتمتم ان الوقت لم يحن بعد لوجبة الغذاء لكنّها تفضّل ان تكون طبختها جاهزة قبل الظهر. تشمّ "ام علي" رائحة القرفة فتعلّق "شو عاملين قرفة وزنجبيل؟". تجلب لها ابنة سامية كوباً ساخناً من الشاي بالقرفة. تمرّ دقائق قليلة و"ام علي" لا تمدّ يدها على الفنجان، تستغرب و تسألها عن السبب فتجيبها: "حبيبتي يا ستي ما فيني اشربها حامية عليّ". تذكّرها الفتاة العشرينية بأنّها هي من سألت عن الشاي قبل ان تجلبه لها فتقول ام علي: "اه بحب ريحتها بس فينيش، عندي كلوة وحدة من وقت اللي تصاوبت". تروي "ام علي" الحادثة بتفاصيلها، اي منذ طلوع الفجر الى فترة بعد الظهر حين وقعت الحادثة. كانت تحاول واثنتين من نساء الحارة جلب بعض الماء خلال حصار مخيم تل الزعتر، إلّا انّ الرّصاصة اخترقت جسدها فزحفت حتى وصلت جوار منزلٍ هجره سكانه في المخيّم، وهي تحاول الضغط على مكان الإصابة. انتبهت سامية الى انّها ان لم تقطع هذا الحديث فإنّ "ام علي" ستستحضر اختفاء ابو علي وتغرق في الماضي، فتدخّلت بسرعة وسألتها:" يا ام علي، قفلتي باب البيت؟".
بستحي من ولادي:
الاجتياح الإسرائيلي لبيروت العام 1982
كانوا يقولون عنها صبّارة. لم أكن أعرف من هي "أم عزيز"، لكن متى ما سمعت اسمها تخيلت نبتة الصبار بشوكها، تلك التي كان أبي يرغمنا على أكل ثمرها في الصغر. وان جرّبتم السؤال عن "ام عزيز" ستسمعون الإجابة ذاتها :"اللي كانت تمشي وحاطة صور ولادها على صدرها". أربع صورٍ متقاربة الحجم، بالأبيض والأسود، مصفوفةً من الأكبر إلى الأصغر سنّاً: عزيز، ابراهيم، منصور، وأحمد، معلقةً اليوم على الباب المقابل للكنبة التي تحتلها أم عزيز منذ بضع سنوات. لا يجرؤ أحدٌ ان يسألها بشكل مباشر عن اولادها المفقودين او عن صورة زوجها الموضوعة في إطارِ خشبي مزخرف وموازي لمقعدها.
كانت رولا –حفيدتها- قد نبهتني إلى الصدمة النفسيّة التي عانت منها جدتها اثر اختطاف ابنائها، لكنني على الرغم من ذلك لم استطع مقاومة النظر إلى صورهم. "كنت رايحة حامليتلهم شوي من الخبز اللي عجنته" قالت وهي تضع يدها على عكازها ثم أخبرتني كيف ركضت إلى حيث شاهدت أولادها يتعرضون للضرب على أيدي مسلحين بدوا لها لبنانيين وصهاينة. لحظتها، لمحها أحد المسلحين فأبعدها مهدداً بسلاحه. لم تعرف صبّارة ماذا تفعل، فطفقت تركض الى المخيم وهي تبكي وتصرخ وتنادي على ابنتها سناء. سناء التي شاهدت والدتها تصرخ من بعيد وتحرك يديها بشكل واضح، خرجت من المخيم لكنها سرعان ما تسمّرت في مكانها فجأة. إنه ايلي حبيقة-المسؤول الأمني في حزب القوات اللبنانية الأشهر آنذاك- برفقة آرييل شارون وزير الحرب الصهيوني بقامته القصيرة الممتلئة، يقفان عند مدخل احدى البنايات القريبة. أخذت تشير إلى أمها من بعيد بأن تكف عن الصراخ واضعة يدها اليسرى على فمها بينما تحرك أصابع اليد الأخرى أسفل عنقها لتخبرها بأنهم يذبحون الناس.
تشرد ام عزيز لدقيقة وتشيح بنظرها الى الدار فتقول لحفيدتها : "دمعت الزيتونة، قومي كنسي الورقات". شعرتُ وقتها بضرورة التحدث عن أي شيء آخر فسألتها عن الورود التي كانت تزرعها في دارها، حسبما اخبرتني رولا. فقالت: "كنت أزرع كتير يا ستي، و لهلق بيطلع عندي ورد أشكال وألوان، بس اول ما اشوف النبتة زهرت بقبعها بإيدي، ما بدي شي يزهّر، بستحي من ولادي".
كأنها PUBG:
- حرب الثلاث سنوات (1985-1988)
تفرش "أم سهيل" بساطاً قديماً في أرض الدار، ويتسلل حفيدها يحيى ذو الخمسة أعوام خلفها وكأنه ظلها. يتسلّق الطفل الشقي الكرسي ويفتح باب الخزانة ليجلب "طوابع" الكعك، أي تلك القوالب الخشبية. تأتي "ام سهيل" بالتّمر والسّمنة والطحين والمكونات الأخرى لتبدأ بصنع كعك العيد. "خلط المكونات حساس كتير، ها، مش متل أي عَجْنِة، والّا بيخربوا الكعكات". تخبرني و هي تفرك الخليط بين راحتيها بحركة دائرية، وحفيدها متأهّب ينتظر ان تناوله قطعة محشوة بالتمر فيضعها في طابعه المفضل ويضربه بالأرض مرة، او ربما اثنتين حسب قوة ضربته، حتى يرى قطعة الكعك منقوشةً أمامه فيبتسم فرحاً بما صنعت يداه. تضحك "أم سهيل" وهي تراقب يحيى الذي يذكّرها بطفولتها، فهي كانت تعجن خليط الكعك لكبار السنّ من عائلتها حين كانت لم تتجاوز بعد الرابعة عشرة من عمرها، حتى بات الجيران و المعارف يقصدونها لهذه الغاية. يخطر في بالي ان أسألها عن قوالب الكعك البلاستيكية التي يستعملها العديد من الناس اليوم، فلا يعجبها سؤالي وتُجيب: "هاي للبخلا، اللي بدهم يعملوا كعك ويخبّوه بالخزنة مش بس بالخزانة" موضحةً أن أصول الكعك في استخدام الطوابع الخشبية المنقّشة والتي يتم طرقها في الأرض لتشكيل كل حبة كعك، وهذا الطرق على الأرض هو بمثابة اعلان أن اهل الدار يعدون كعك العيد لهم ولسامعي الصوت. وتضيف ان هذه الكمية من الكعك ستتوزع على عشرة بيوت على الأقل، فهي وخلال حصار المخيمات لم تبخل على أحد من معارفها، فلماذا تفعل ذلك الآن؟
كانت تتكلم بصوتها المرتفع لكنّها خفضته فجأة وهي تمرّر أناملها بهدوء شديد على ساقها. يبدو أنّ كلامها أيقظ –عن غير قصد- بعض الذكريات الأليمة. رفعت طرف عباءتها فإذ بي أرى إصابةً قديمة خلّفت فجوة مكوّرة في عضلة ساقها الخلفية. أشارت "ام سهيل" إلى باب حديدي صغير صدئ وقالت "كنا بس يشتد الضرب ننزل على هاد الملجأ ونبقى تحت الأرض لساعات طويلة حتى نحسّ بهدوء الحرب، وقتها نطلع ونتصرف متل الناس العايشة". تكمل سرد ما حدث في احدى المرات التي وقفت فيها بحذرٍ شديد لتضع الثياب المغسولة على الحبال تحت الشمس، "كنت عم برميهن رمي بس لمن خلصت وبرمت حسيت بشي سخن والدم عم يشرّ شرّ مني، هالقناص كان مصوّب وناطر". يتدخّل حفيدها يحيى بعد ان سمع القصة فيسألها: "ستّي قناص يعني بقوّس متل لعبة PubG اللي على التلفون؟".