الإثنين، كانون(۱)/ديسمبر 23، 2024

مصر ولبنان والعراق: انتفاضات شعبية متشابهة؟

عربي دولي
الشعوب العربية ليست على ما يرام. الحروب والاحتلال والاستغلال الطبقي والفقر والبطالة والتهجير والقتل والإرهاب والعقوبات والمذهبة والأصولية والقمع والاستبداد تلاحقها من كل صوب. منطقة تختزن ثروات نفطية هائلة، وموارد بشرية وأراضٍ ومساحات ومضائق وممرات وموقع جغرافي تكفي أن تصنع منها قطباً دوليّاً صاعداً لديه ما يكفي من الموارد والإنتاج لتأمين الأمن الاجتماعي والسياسي، وفرص العمل والتعليم والصحة والسكن والاستقرار لكل أبنائها. لكن، هيهات. كما كل التناقضات التي لا تجد حلولاً لها، لا بدّ لتلك الأزمة أن تنفجر، وأن تنعكس انتفاضات شعبية مستمرة على هذا الواقع المزري، وهذا ما يحصل اليوم. تعيش العديد من دول المنطقة موجةً جديدةً من انتفاضات الغضب الشعبي التي تأتي كردة فعل على الواقع المعيشي الحالك. ها هم الملايين ينزلون إلى شوارع مصر والعراق ولبنان والسودان والأردن والجزائر وغيرها لا لشيء إلّا للتعبير عن ذاك الألم والشعور بالمهانة والذلة وانتقاص الكرامة من هذا الواقع. انتفاضات لا زال يحكمها إجمالاً الطابع العفوي والشعبوي والقائم على رد الفعل و"فشة الخلق"، لكنّه أيضاً يحمل في طياته تعبيراً صارخاً عن الحاجة الماسة والتاريخية لإحداث تغيير جذري تقدمي على امتداد دول منطقتنا. مصر أمّ الدنيا التي كانت بوصلة المنطقة ورافعة العمل السياسي فيها، صارت مصر التي تنتظر صندوق النقد الدولي كي يمنّ عليها بقروض ميّسرة مقابل حزمة من الشروط و"الإصلاحات". مصر التي كانت محور الصراع مع العدو الصهيوني لعقود، صارت مصر التي تحاصر غزّة، والتي تتمنى على أثيوبيا أن لا تقطع عنها مياه النيل. حكمها "مبارك"، نيابةً عن المؤسسة العسكرية طويلاً، ومن بعده حاول أن يحكمها "مرسي" والإخوان، لكنّ مصر انتفضت على الأول وقاومت قمعه بالحديد والنار، ثم خرجت على الثاني فأقصته دون تردد، لينتهي بها الأمر بالنظام الجديد - القديم عبر حكم السيسي نيابةً عن المؤسسة العسكرية مجدداً. حملةٌ من الوعود الرنانة والأحلام الوردية رافقت حكمه، وكذلك رافقته ممارسات متجدّدة من كمّ الأفواه وترويض المعارضة وإسكات أي صوت منتقد، وتم الإمساك بالإعلام تماماً. 60 ألف مواطن مصري على لوائح الإرهابيين المطلوبين للدولة بينهم شيوعيون ويساريون تهمتهم أنهم... إخوان! هرول النظام نحو الصناديق المانحة، فهو يريد المال لإطلاق بعض المشاريع وإيهام الناس أنّ الوضع على ما يرام، وأن الأزمة أخيراً وجدت حلّها. المال الخليجي أتى بوفرةٍ، وبشروط سياسية منها ما هو مرتبط بالحرب على اليمن ومنها أو بالتنازل عن سيادة البلاد عن جزرها تيران وصنافير في البحر الأحمر. مال صندوق النقد الدولي أتى منه 12 مليار دولار، ومعه حزمه من الشروط، هي نفسها التي يطرحها علينا مهندسو "سيدر" اليوم في لبنان. في مصر، تحرير سعر الصرف، وتحرير أسعار المحروقات ورفع الدعم عنها، ورفع الضريبة على القيمة المضافة إلى 14%، كانت من الوصفات الجاهزة لدى الصناديق، يرونها تصلح لكل زمان ومكان. سلطة تعمل في خدمة رأس المال المصري والدولي لم تتردد لحظةً. أطلقت نيران إصلاحاتها القاتلة على شعب يئنّ فقراً أصلاً. فكانت النتيجة تدهوراً حاداً في حياة المصريين رغم بعض التحسنات الشكلية التي طرأت على أرقام الموازنة ومؤشرات الاقتصاد الكلي. لكنّ الاقتصاد الذي يعني الناس هو اقتصاد توزّع الثروة، وهو حال الطبقة الوسطى والفقيرة التي تدفع دوماً ثمن هذه السياسات لتضخ الثروة من جيوبها إلى جيوب الأغنياء. 100 مليون مصري يعيش 33% منهم الآن في حالة فقر مدقع حيث يعيشون بأقل من 48$ شهريّاً بحسب أرقام المؤسسات الإحصائية الرسمية، فيما تقدر جهات دولية وصول نسبة الفقر عموماً إلى حوالي 60% أي 60 مليون مواطن مصري. لم تعد الأكاذيب تجدي نفعاً، ولا أبواق السلطة وإعلاميوها. الناس الموجوعة سوف تخرج على الحاكم، سواء أعجب ذلك المفتين والضباط أو لم يعجبهم. إرهاصات أولى ظهرت في مصر في الأسابيع الماضية، ولا شكّ أن حاجز الخوف والترهيب يكسر من جديد، ولعلّ الشارع يريد أن يعلي صوته ليقول أن لا صوت يعلو فوق صوت الجماهير، وأن حلم المصريين أن تعود مصر رافعةً للعمل الوطني كما للتغيير المنتظر. لبنان مختبر آخر لسياسات اللبرلة وضرب القطاعات المنتجة والاستدانة من أجل تمويل حاجات الخزينة التي يذهب جزء كبير منها سرقة لمصلحة أرباب السلطة. لبنان "عايش بالدين"، لكنّ هذه الوصفة لها حدودها التي لا بدّ ولا مجال إلا أن تنفجر إذا لم تكن الاستدانة من أجل التنمية والاستثمار والإنتاج. وبالفعل، ها هي تنفجر اليوم. لقد أدى اتفاق الطائف الذي عقد بتسوية سورية سعودية أميركية إلى إرساء معادلة جديدة في تقاسم السلطة، والتي قادها الثلاثي المستقبل وأمل والاشتراكي. ولتسهيل سيطرتهم كان لا بد من إقصاء المعارضة وإسكات صوتها ومصادرة النقابات عبر التزوير في الاتحاد العمالي العام، وصولاً إلى السطوة الأمنية وشراء الذمم. انهارت التسوية القديمة عام 2005، ثم أنتجت تسوية جديدة في العام 2007 أدت إلى تحويل ثلاثي الحكم إلى سداسي مع دخول القوات اللبنانية وحزب الله والتيار الوطني الحر بشكل فعال إلى جنّة الحكم وبقرته الحلوب، وبشكل أساسي بينهم التيار الوطني الحرّ. تغيرات كثيرة حصلت في الوجوه والأسماء والقيادات والأحزاب الحاكمة، لكن المضمون ظلّ واحداً. نموذج اقتصادي ريعي يقوم على الاستدانة لتمويل العجز، ويضع مقدرات الدولة كلها في خدمة مصالح رأس المال الريعي من مصارف وشركات عقارية كبرى وغيرها. ووسط هذا النموذج، تحول زعماء الميليشيات الذين ربحوا الحرب وركّبوا التسويات إلى رأس مال جديدٍ طفيلي قام على حساب المال العام فراكم مليارات الدولارات من النهب المنظم لخزينة الدولة وصناديقها ومشاريعها وتلزيماتها. تركز التحالف بشكل صلب ومتين بين رأس المال الريعي المتأصل وبين رأس المال الطفيلي الصاعد، فأنتجوا نظامنا اللبناني المستمر حتى اليوم. انتصارات جبارة تاريخية يسطّرها الشعب اللبناني في المقاومة ضد الاحتلال، ترافقها هزائم نكراء أمام نظام الاستغلال الرأسمالي. عمقت سياسات الأحزاب الحاكمة الفروقات الطبقية بشكل صارخ بين اللبنانيين، وبفضل النموذج الريعي صار 1% من الحسابات المصرفية يستحوذ على أكثر من نصف الودائع، أي على ما يقارب 90 مليار دولار، فيما اللبنانيون يكافحون صبح مساء لتأمين مسكن يأويهم ومدرسة لأولادهم ومستشفى لأهلهم، وبالكاد يجدونها. كما في مصر، 35% من اللبنانيين يعيشون تحت خط الفقر، ومليون لبناني هاجر دون عودة خلال العقود الثلاثة الأخيرة بحيث من الصعوبة أن تجد بيتاً في لبنان لم يهاجر منه أحد أبنائه إلى أربع جهات الأرض بحثاً عن الأمل والخبز والكرامة. هذا هو نظام المذلة والإفقار، نظام السرطنة والقتل البطيء، نظام الاستغلال الطبقي والتهميش الاجتماعي، نظام الانهيار الاقتصادي الحتمي الذي لا إنقاذ منه إلا بالتغيير الجذري الشامل لهذه السلطة، ونظامها، وأحزابها الحاكمة. العراق ليس الجحيم، حتماً. لكن بالنسبة لفقرائه الذين لم يروا إلا القتل والحصار والقهر والاستغلال والقمع منذ عقود حتى اليوم، قد يكون يبدو لهم كذلك. فبعد عقود من الاستبداد الوحشي تحت حكم النظام السابق، والعقوبات الدولية التي قتلت مرضى العراق وأطفاله جوعاً ومرضاً، جاءت الحرب وجاء الاحتلال الأميركي المدعوم من أساطيل دول حلف شمال الأطلسي لتترك وراءها مئات آلاف القتلى وبلداً منهكاً ومدمّراً. ضربوا المثال سابقاً بـ"خراب البصرة"، وربما صار اليوم واجباً تعديل المثل الشعبي واستبداله بـ"خراب العراق". اليانكي الذي تخلى عن سياسات السيطرة الناعمة والنهب الرأسمالي المقونن وفق قواعد الامبريالية عاد إلى زمان الاحتلال المباشر وأحلّ جيشه وأمنه واستخباراته وفرق الموت الخاصة به على العراق منذ عام 2003. الآتون من الغرب ركّبوا نظاماً جديداً بالتعاون والتضامن مع أهل الشرق. تسوية أميركية إيرانية أفضت إلى إنتاج نظام "ملبنن"، يقسم العراق مذاهب وأقاليم وقوميات ليضع الكل بمواجهة الكل، كي تسهل السيطرة والتحكم. صار لكل منطقة ولكل حزب مذهبي ميليشياته، واتفق الجميع على ضرب بنية الدولة وعدم السماح بقيام جيش عراقي وطني، وإضعاف مؤسساتها ووضع مقدراتها في خدمة الفساد والمحاصصة والنهب المنظم الداخلي والخارجي. ذلك استمر حتى اليوم ليضرب أي امكانية لقيامة العراق، ولحقوق شعبه في ثرواته. منذ سنوات طويلة عاد إنتاج البترول العراقي كي يكون من الدول الأكثر إنتاجاً في العالم، لكن أين مال النفط العراقي؟ حتماً لن تجده في جيوب مواطنيه، ما خلا القلّة الحاكمة الفاسدة التي راكمت عشرات المليارات من الدولارات في حساباتها الخاصة فيما شعبها لا يجد القوت في بيته. خرج شعب العراق اليوم شاهراً سيفه. إنتاج نفطي هائل وأموال تفوق 60 مليار دولار سنوياً من عائداته، فيما الكهرباء لا زالت غير موجودة حتى اليوم، والبطالة في أوجّها، والفقر يقضّ مضاجع الملايين المنهوبين. البلاد في حالة صراع سياسي مستمر، والتوظيف السياسي لأي تحرك هو أمر متوقع خاصة في ظل الحرب الشعواء التي تخوضها الولايات المتحدة ضد إيران والقوى المتحالفة معها، لكن العبرة تكمن، بجميع الأحوال، في أنّ هذا النظام بكل مكوناته قد جلب الفوضى واللاستقرار، وأمن شروط النهب المنظم، وكرس الاستغلال وعمّق الانقسام، وأنتج رأسماليةً طفيلية تختزن عشرات المليارات من المال العام فيما البؤساء مهمشون على قارعة الحياة. خرجت الانتفاضات الشعبية، كردة فعل طبيعية متوقعة على هذا الحال، وهو أسوأ الأحوال. إنّ الصرخةٌ في وجه الظلم والهيمنة والنهب والفساد والاستغلال، سوف تجد الكثيرين ممّن يريدون استثمارها أو تحويرها أو خنقها في مهدها، لكن هل لها أن ترى من يسمعها ويلاقيها ليحمل لواءها؟ تتشابه المعطيات والظروف على امتداد منطقتنا، كما الوضع في مصر ولبنان والعراق، حيث تجثم على صدور الشعوب أنظمة تقوم بحماية النهب والاستغلال الداخلي والخارجي، لتبني قصوراً من ذهب، وحسابات مصرفية من 9 أصفار، على حساب الملايين الذين يئنّون ألماً ومهانةً ومذلّة. انتفاضة الفئات المهمّشة والمستغَلّة في كل البلدان العربية، التي نراها اليوم وتلك الآتية في المستقبل، هي النتيجة المنطقية والحتمية لهذا الوضع القائم، ولن يكون حلّها إلا في التغيير الجذري والشامل لواقعنا السياسي الراهن، وهذا هو الدور المأمول من قوى التغيير والتقدّم والتحرّر.