تقرير المكتب السياسي للحزب الشيوعي اللبناني حول الأوضاع السياسية العامة

  المكتب السياسي للحزب الشيوعي اللبناني
بيانات
تخوض البشرية عموماً ومنها شعبنا اللبناني خصوصاً، في هذه المرحلة الجديدة من مراحل التوحّش الإمبريالي حرباً مستمرة من أجل البقاء على قيد الحياة، لاقى فيها الآلاف من ملايين المصابين بالكورونا حتفهم بعدما تعذّر عليهم الحصول على الهواء والعلاج، وكأن الاستغلال الطبقي والاجتماعي واضطهاد الشعوب واستعمارها ونهب ثرواتها وما خلفته من كوارث، دفع القسم الأكبر من ثمنها ملايين الكادحين، لم تعد كافية لمعالجة أزمة الرأسمالية.


إنها الأزمة التي انفجرت عام 2008 (أزمة الفقاعات المالية)، لتعود عام 2020 وتنفجر من جديد وتصل إلى الذروة بشكلها الصحي والانساني والبيئي، بغياب القدرة على التحكم بنتائجها السياسية والاقتصادية والاجتماعية، ومن دون معرفة نهايتها مع ظهور سلالاتها المتناسلة، وعدم قدرة المراكز الرأسمالية على التحكم بمسار تناقضات نظامها في مجرى الصراعات الدولية والإقليمية والوطنية. لقد أصبحت كورونا – الرأسمال عنواناً من عناوين الصراع السياسي المفتوح في كل الاتجاهات، بعد أن اخترقت حصون الإمبريالية ووصلت إلى عقر دارها، مشكّلة أحد الأسباب الرئيسية لسقوط ترامب في الانتخابات الرئاسية، وخروج الأزمات الرأسمالية الداخلية إلى العلن وانكشاف ضعفها وعجزها وتراجعها وهشاشة ديمقراطيتها وزيف ادعاءاتها أمام شعوب العالم، بشكل غير مسبوق منذ أن تأسست الولايات المتحدة الاميركية وحتى تاريخه. في هذا المناخ المحموم من الانقسام الشعبي الداخلي، والتصدّع السياسي لا سيما داخل الحزب الجمهوري، ووسط صراع استمر حتى اللحظة الأخيرة مع ترامب، وفي ظل اجراءات أمنية مشدّدة في العاصمة واشنطن، جرى تنصيب جو بايدن رئيساً للولايات المتحدة الاميركية وتسليمه مقاليد السلطة، ليحكم في ظل ميزان قوى راجح لمصلحة الديمقراطيين، فلديهم الرئاسة، ولديهم أغلبية صوت واحد في مجلس الشيوخ، و12 صوتاً في مجلس النواب، وبيدهم إدارة جديدة مشكلة من قبلهم، مقرّبة من أوباما وذات أغلبية من اللوبي الصهيوني لا سيما الفريق المسؤول عن ملف الشرق الأوسط، عليه ، وانطلاقاً مما أعلنه ويعلنه بايدن في خطاباته وتصاريحه تتبيّن بوادر أولويات سياساته:
أولاً: على الصعيد الخارجي
تتركز استراتيجية الرئيس الجديد في الخارج على التصعيد بمواجهة الصين وحلفائها كأولوية، في ما يشبه العودة إلى الحرب الباردة عبر تصعيد المواجهة العسكرية واستخدام العقوبات الاقتصادية والتجارية وعسكرة بحر الصين الجنوبي، ومواضيع تايوان وهونغ كونغ وشينجيانغ والديمقراطية وحقوق الاقليات وخلق التوترات مع دول الجوار الصيني ...الخ، باعتبار أن صعود الصين يشكل تهديداً مباشراً لزعامة الولايات المتحدة الاميركية. وفي اطار حملة التصعيد والتحريض الإعلامي الأميركي ضد الصين ، جاء ردّ الحزب الشيوعي الصيني بعقد مؤتمر دولي تضامني مع الصين، حشد فيه مئات القادة من دول العالم، عبّر فيه حزبنا عن تضامنه مع الحزب الشيوعي الصيني رافضاً التصعيد الأميركي والتدخل في شؤون الصين الداخلية.
أما بقية الملفات الخارجية فمعالجتها محكومة بخدمة مواجهة الصين والتفرّغ لها، بدءاً بتمتين العلاقة مع الحلفاء، في الاتحاد الاوروبي وحلف الناتو وبريطانيا واليابان وسائر التجمعات الدولية عبر العودة إلى الاتفاقات والمؤسسات الدولية كمنظمة الصحة العالمية واتفاقيات البيئة الدولية واتفاقية باريس لتغيّر المناخ، وتقديم عطاءات للحصول على مقعد في مجلس حقوق الإنسان وغيرها... وبموازاة ذلك، يتمّ التوجّه إلى معالجة الملفات المتفجّرة باعتماد سياسة العصا والجزرة عبر تخفيض التصعيد وعقد التسويات، والاستمرار بالتهديدات والعقوبات لتحقيق الأهداف عينها، فتحتل ملفات إدارة الصراع مع روسيا وايران سلّم أولويات الرئيس، فيستمر في فرض العقوبات الاقتصادية على روسيا وإعاقة العلاقات الروسية – الالمانية والأوروبية عامة في محاولة لوقف مشروع خط الغاز المسيل، والتدخل في شؤونها الداخلية (نافالني)، وفي إبقاء المواجهة مفتوحة والتوتّرات في (اوكرانيا – روسيا البيضاء – سوريا...)، مع سعيه للعودة إلى الاتفاق النووي الإيراني وحلّ موضوع الصواريخ الباليستية معها وبعض التسويات الإقليمية قبل رفع العقوبات، واشراك اسرائيل والسعودية في المفاوضات، الأمر الذي ترفضه ايران لتبدأ بتصنيع اليورانيوم المعدني، مطالبة برفع العقوبات قبل العودة إلى الاتفاق النووي. هكذا تستمر التجاذبات وتبادل الرسائل بين الدولتين مرفقة بسعي واضح لإيران إلى تعديل الاتفاق لتحصيل أكبر قدر ممكن من المكتسبات، ليس فقط في الملف النووي، بل بصفتها لاعب إقليمي معترف به على صعيد المنطقة، بينما يسعي الأميركي وحلفاؤه إلى تقويض هذا النفوذ ووضعه في الإطار الذي يتماشى ومشروعه هو على صعيد المنطقة، أي مشروع الشرق الاوسط الجديد.
وفي هذا السياق يحتل الاهتمام بالحديقة الخلفية للولايات المتحدة الاميركية الاولوية أيضاً، بدءاً بتحسين العلاقة مع المكسيك والسماح بانتقال المهاجرين عبر الحدود، والسعي لاحتواء فنزويلا من باب تخفيف المعاناة الإنسانية الناتجة من العقوبات المفروضة عليها، واعتماد المفاوضات بعد فشل محاولات ترامب إسقاط مادورو بالقوة العسكرية، وتصنيفه لكوبا كدولة "راعية للإرهاب". والجديد في فنزويلا هو الخلاف الذي ظهر إلى العلن بين الحزب الشيوعي الفنزويلي والرئيس مادورو، حيث أصدر الحزب بياناً أدان فيها تحالف الرئيس مع قوى اليمين وهجومه العلني ضد الشيوعيين والماركسيين الذين وصفهم بالمخرّبين الذين تحرّكهم أيادي خارجية، فيما يتهم الحزب الشيوعي الحزب الحاكم برعاية قوى الفساد وعقد الصفقات والتسويات مع اليمين وانتهاج سياسات معاكسة لنهج الرئيس الراحل تشافيز. كما خاض الحزب الشيوعي الانتخابات النيابية الأخيرة من خلال لوائح مستقلة من دون التحالف مع الحزب الحاكم لأول مرة منذ عدة دورات، حيث حصل على حوالي 4% من الأصوات وتمكن أمينه العام من اختراق لوائح مادورو. وجديد المتغيرات السياسية الهامة أيضاً هي نتائج الانتخابات في أميركا اللاتينية، إذ بعد الخسائر التي مني بها اليسار في الفترة السابقة مع وصول اليميني العنصري إلى رئاسة البرازيل والانقلابات التي حصلت في بعض الدول، تعود القوى اليسارية والتقدمية لتحسم الفوز بالرئاسة في بوليفيا، وأن تنتصر في الجولة الأولى في الاكوادور، وذلك من خلال صناديق الاقتراع لتعكس نتائج انقلابات العسكر والقضاء من خلال الديمقراطية وإرادة الجماهير الشعبية فيها. وسوف يساعد ذلك قوى اليسار على استعادة مواقعها في القارة الجنوبية ليستمر الصراع الحاد فيها.
ثانياً: على صعيد الداخل الأميركي
لم يعد للقيادة الأميركية أن تزهو بنفسها كما كانت تفعل بالسابق، فأوضاعها تعاني أيضاً من الأزمات والانقسامات الداخلية، من هنا تتركز أولويات بايدن والديمقراطيين والدولة العميقة على معالجة الأزمة السياسية في الداخل بدءاً بتداعيات الانتخابات الرئاسية ( محاكمة ترامب – الانقسام المجتمعي ..)، ومعالجة الركود الاقتصادي، وبناء البنية التحتية والكورونا، وهو ما يعتبره بايدن حجر الأساس في مواجهة صعود الصين، حيث الاقتصاد الصيني يتطور ويعمل بشكل مقبول في ظل انتصارها على الكورونا، بينما الاقتصاد الاميركي يعاني الركود، وتسجل الولايات المتحدة أعلى أرقام الاصابات والوفيات في العالم بسبب تراخي ترامب وعدم اتخاذ اجراءات جدية. وهو ما دفع بايدن لإقرار اجراءات شعبية سريعة فور تسلمه الحكم مثل: (زيادة حزمة المساعدات المالية للأسر، تجميد دفع القروض الجامعية للطلاب، التشدد في الاجراءات الصحية والوقائية...).
ويجري ذلك في إطار من التنافس الحاصل في موضوع مواجهة الكورونا على الصعيد العالمي، حيث تتوسّع دائرة الدول التي تعتمد اللقاحات الصينية والروسية، خاصة بعد قبول الدراسات العلمية اللقاح الروسي، وهو ما فتح الباب أمام العديد من الدول الأوروبية بالإضافة إلى دول العالم الثالث لاعتماده. ويشكّل ذلك مصدر قوّة سياسية ودبلوماسية للدول الصاعدة، لمنافسة الهيمنة الأميركية – الأوروبية السائدة في مجال العلوم والأدوية، مع ما ينطوي عليه من انعكاسات سياسية لدور هذه الدول. كذلك تنبغي الإشارة إلى حالة التمييز الطبقي الحاصلة بين دول العالم في هذا الإطار، إذ استطاعت الدول الأغنى أن تحجز لنفسها كميات كبيرة من اللقاحات من مختلف المصادر (ومن بينها العدو الصهيوني الأول عالمياً في نسب التلقيح بين السكان)، ومنها دول حجزت أضعاف حاجتها (كندا حجزت عدد لقاحات يوازي 4 اضعاف عدد سكانها)، ومن المتوقع أن تنجز تلقيح فئات معظم مواطنيها خلال أشهر قليلة، فيما لا تزال دول عديدة تنتظر دورها ومن المتوقع أن لا تصلها الكميات الكافية خلال العام 2021 لتأمين المناعة المجتمعية اللازمة. ما يطرح شعار توفير اللقاحات المجانية من قبل الأمم المتحدة ومنظمة الصحة العالمية للشعوب الفقيرة، للتخفيف من هذه المخاطر، بعيداً عن حقوق الملكية الفكرية واحتكار شركات الدواء الضخمة لها. يستنتج من كل ما تقدم أن النظام العالمي الأحادي القطبية بزعامة الولايات المتحدة الأميركية مستمر بالتراجع والتقهقر، ومعه يستمر العجز عن التحكم بإدارة أزمة الرأسمالية التي وصلت إلى النظام الأميركي، وأن مخاطره على العالم تزداد؛ فأميركا لن تسلّم مواقعها بسهولة، وأن المواجهة على الصعيد الدولي لقيام عصر جديد ونظام عالمي جديد متعدد القطبية متصاعدة وبلغت مرحلة اللاعودة، وتلعب الصين بقيادة الحزب الشيوعي الصيني الدور الأبرز فيها.
على الصعيد العربي والإقليمي
انطلاقاً من أولوية التفرّغ للصين، ومن الحفاظ على جوهر السياسة الأميركية وأهدافها، بالاستمرار بمشروع الشرق الأوسط الجديد وتصفية القضية الفلسطينية، تبدو المتغيرات في أساليب الإدارة الجديدة في هذه المرحلة محكومة بسياسة العصا والجزرة، مع تغليب سياسة عدم التصعيد العسكري في هذه المرحلة، كما يتبين من خلال التوافق الدولي والإقليمي بالنسبة لإجراء الانتخابات التشريعية الفلسطينية، فالسلطة الفلسطينية اعتبرت مجيء بايدن فرصة لحل الدولتين على قاعدة أوسلو، وحماس اعتبرتها فرصة لتحسين علاقتها مع مصر وفتح معبر رفح للتخفيف من الأزمة الاقتصادية والصحية في قطاع غزة، وتحسين مواقعها في السلطة. والأمر كذلك في ما يتعلق باليمن حيث يمارس الأميركي ضغوطاً على السعودية عبر وقف دعمه السياسي ومشاركته الميدانية في الحرب، وإلغاء قرار ترامب باعتبار الحوثيين منظمة إرهابية بحجة تقديم مساعدات إنسانية، ما يوحي بإمكانية تحقيق انعطافات معينة أقلها وقف التصعيد العسكري أو السير باتجاه وقف الحرب، في ظل ثبات موازين القوى على الأرض وعدم تمكن التحالف الدولي من اجبار الحوثيين على التراجع عن مواقع سيطرتهم في الجزء الشمالي من البلاد. وهذا الضغط الاميركي على السعودية له أغراضه في حسم موقفها والانضمام العلني للتطبيع مع الكيان الصهيوني لحشد القوى وتهيئة الأرضية السانحة للعدو الإسرائيلي للعب دور عسكري وأمني مباشر وعلني في الضغط على ايران. ويبقى اللجوء إلى مواجهات عسكرية واسعة على صعيد المنطقة غير وارد في المدى القريب، من دون استبعاد عمليات وضربات عدوانية محدودة يقوم بها نتنياهو خدمة لمصالحه الانتخابية التي ستجري خلال شهر آذار المقبل، والتي ستليها الانتخابات الرئاسية في سوريا (في شهر نيسان المقبل)، والتشريعية الفلسطينية في 22 ايار والرئاسية في تموز والمجلس الوطني في آب والانتخابات الرئاسية في ايران في 18 حزيران. ومع فشل السعودية في حربها على اليمن وتصّدع علاقتها مع الامارات في حربهما على اليمن ، اضطرت السعودية مرغمة لإجراء المصالحة الخليجية ما اعتبر انتصارا لقطر، بنت عليه، وأكدت موقفها بالدعوة إلى حوار ايراني – خليجي ما يتطابق والموقف الايراني.
أما موضوع سوريا، وآفاق الحل السياسي فيها، والتسويات الممكنة في ظل موازين القوى القائمة بين تركيا وروسيا وايران وأميركا فيها، فلا تزال معالمه غير واضحة ولم تصدر اشارات وخطط اميركية واضحة في هذ الشأن بعد. لكن الاستحقاق الأبرز في سوريا هو موضوع الانتخابات الرئاسية في شهر نيسان المقبل، وسط غياب أي تقدم على صعيد الحوار في اللجنة الدستورية مع تفاقم الأزمة الاقتصادية ومفاعيل العقوبات وقانون قيصر وجائحة الكورونا واستمرار الغارات الجوية الاسرائيلية وبقاء الاحتلال التركي في شرقي الفرات بحجة منع الأكراد من توحيد مناطق سيطرتهم، واستمرار المواجهة مع الجيش السوري في إدلب. هكذا تبقى منطقة شمال غربي سوريا منطقة مشتعلة بفعل تواجد كل القوى الدولية والاقليمية فيها وعدم نضوج التسوية في ما بينها وعدم الحسم العسكري على الأرض. كذلك تبرز الدعوات الأخيرة لتشكيل مجلس عسكري يحظى بصلاحيات واسعة، وهو طرح يهدف إلى تقويض الحل السياسي وقرار الأمم المتحدة 2254 لإعادة الأمور إلى نقطة الصفر، ومنع تقدم الحلول الدبلوماسية للأزمة السورية. ومع التوسّع التركي سياسياً وعسكرياً من سوريا إلى قطر والعراق وليبيا وأذربيجان بعد الشمال القبرصي ومحاولاته التوسع في التنقيب عن النفط في المتوسط، تحاول تركيا الدخول إلى لبنان من باب دعم قوى ومجموعات في عدة مناطق لبنانية في محاولة لتعزيز دورها كلاعب إقليمي في المنطقة وعلى حساب الدور السعودي والفرنسي في لبنان، في ظل مواجهة من قبل هاتين الدولتين ومعهما مصر وقبرص واليونان والاتحاد الاوروبي الذي استهدف بعقوباته الاقتصاد التركي الراكد.
من الواضح أن الإدارة الجديدة، وإن كانت تنتهج سياسات أقلّ صدامية وفظاظة عن الإدارة السابقة، غير أنّها تحافظ على النهج العام الذي يتميّز بالحفاظ على مصالح أميركا وشركاتها في العالم ومنها منطقتنا، وأيضاً على أمن العدو الصهيوني. وفي مؤشّر حول الموقف الأميركي في هذا الشأن، صوّت الكونغرس بأغلبية ساحقة من الحزبين الديمقراطي والجمهوري على إبقاء السفارة الأميركية في القدس (بمعارضة 3 سيناتورات يساريين فقط من أصل 100 سيناتور). ولذلك سوف تستمر السياسات الهادفة إلى تعزيز التفوق الأمني والعسكري الصهيوني في المنطقة وإضعاف ومحاصرة الخصوم بكل الوسائل المتاحة.
في الداخل الصهيوني تستمرّ حالة التخبّط الداخلي وعدم الاستقرار إذ تعود الأحزاب الاسرائيلية إلى التنافس الانتخابي للمرة الرابعة خلال سنتين في آذار المقبل، وسط استمرار المراوحة القائمة على تقدم نتنياهو على كل منافسيه دون تمكنه من الحصول على الأكثرية المريحة للحكم. وعلى الرغم من هدايا ترامب والاعتراف بسيادة الاحتلال على أراضي الجولان وغور الأردن والقدس، ومحاولة تقديم نتنياهو كبطل قومي في هذا السياق، لم يستطع رئيس وزراء العدو تثبيت نفسه شعبياً للإمساك بمقاليد الحكم. ويبدو أن المنحى العام سيبقى في الإطار نفسه، مما يزيد من تعقيدات الأزمة السياسية الداخلية.
وعلى صعيد الأحزاب الشيوعية العربية، في السودان يجد الحزب الشيوعي السوداني نفسه وحيداً مع بعض الحلفاء التقدميين في مواجهة تحالف العسكر (الآتي من حكم الرئيس البشير) والقوى الليبرالية (الآتية تحت ستار المدنية أو الدين)، والذين ينتهجون سياسات داخلية معادية للناس، وسياسات خارجية قائمة على محاباة الولايات المتحدة وصولاً إلى التطبيع مع العدو الصهيوني. وما ينبغي علينا رؤيته على صعيد السودان هو الجديد الهام في وضوح المعركة التي يخوضها الحزب الشيوعي السوداني ضد نظام التطبيع والافقار والتبعية لتصبح معركته معركة واضحة للتحرر الوطني والاجتماعي في آن معاً. وهو ما سيطبع الموجة الثانية من انتفاضات شعوبنا العربية ضد أنظمة التطبيع والخيانة والافقار. أما في العراق، فيتعرّض الحزب الشيوعي العراقي لتضييق واعتداءات تطال مناضليه ومقراته، وتمثّل ذلك بإحراق مراكزه في النجف وكربلاء، فيما يعود اليساريون في تونس إلى الشارع مع تجدّد الحركة الاحتجاجية الشعبية بشكل واسع في البلاد. وعلى الرغم من الانقسامات الكبيرة في صفوف القوى الوطنية واليسارية التونسية التي كانت تنضوي في تحالف "الجبهة الشعبية"، تبقى هذه القوى فاعلة في النضال السياسي والشعبي والنقابي في مواجهة الإخوان المسلمين وحلفائهم من قوى ليبرالية وسلطوية منبثقة من النظام البائد. وفي ظل هذه الأجواء، تترقب المنطقة عموماً آفاق التطورات في العلاقات الإيرانية الأميركية لما لها من أثر على عدد من دول المنطقة من جهة وما قد يترتّب عنها من تسويات أو صدامات وضغوط أو كليهما، والتطورات الداخلية في مختلف البلدان مع اشتداد الأزمات السياسية الاقتصادية وفشل نماذج الحكم القائمة فيها في تحقيق التقدّم والاستقرار السياسي والاجتماعي لبلدانها.
الوضع الداخلي اللبناني
مع سقوط النظام السياسي بنسخته الراهنة، نسخة الطائف، ومعه النظام الاقتصادي والمالي والبنية الاجتماعية التي أنتجها على مدى ثلاثين عاماً، ومع تسارع وتيرة الانهيار الشامل باتجاه القعر، تستمر منظومة المحاصصة الطائفية بربط إعادة إنتاج سلطتها ونظامها من جديد، ببقاء لبنان ككيان ووطن من خلال ما تطرحه من مشاريع، كالدعوة إلى مؤتمر دولي برعاية الأمم المتحدة، والتهديد بوضع البلد تحت مفاعيل الفصل السابع، والفيديرالية والمثالثة، وصولاً إلى التقسيم أو حتى إلغاء الوطن عن الخريطة والعودة إلى الغيتوات، أو الدعوة إلى تجديد الصيغة الطائفية عبر عقد اجتماعي جديد، يقوم على محاصصة جديدة بتسوية خارجية لا تزال مفقودة حتى الآن، لتسود في هذه المرحلة حالة من انسداد الأفق السياسي، وجمود يسود كل الاتجاهات الذي تدفع ثمنه الغالبية الساحقة من الشعب اللبناني، في ظل جائحة الكورونا وتمادي النهب الاقتصادي والمالي إلى حدِّ غير مسبوق، ما جعل أكثرية اللبنانيين فقراء ومتعطلين عن العمل يسعى نظام الزبائنية لإعادة استتباعهم بفتات المساعدات.
لقد جاءت جائحة كورونا، والفوضى الصحية العارمة التي رافقتها، لتطيح بآخر شعور بالأمان، مؤكدة فشل السلطة اللبنانية فشلاً ذريعاً في التصدي للأزمة ومعالجتها، حيث أصابت مئات الألاف من اللبنانيين ووفاة الآلاف منهم، بسبب عدم اتّباع سياسات إقفال فعّالة وعدم توفير الموارد للمستشفيات والمراكز الصحية، والتأخير في تأمين اللقاحات المجانية مبكّراً للجميع، وعدم تأمين الإمكانيات المالية لتمكين العمال والأُجراء والمياومين والمتعطّلين عن العمل من الالتزام بالحجر، فضلاً عن الخسائر الاقتصادية، فجاء ذلك كنتيجة حتميّة لسياسات السلطات المتعاقبة، بكل تلاوينها، فهي من يتحمل المسؤولية الأولى عن الخسائر الكبرى في عدد الوفيات والإصابات المتلاحقة يومياً. وهي أيضاً المسؤولة عن القرار والنهج السلطوي والأمني، القمعي والدموي، بإطلاق النار على المحتجّين في طرابلس وقمعهم، والذي أدى إلى سقوط شهداء وجرحى في صفوفهم، وتشويه تحركاتهم لحرف الأنظار عن القضية الأساس، وهو ما يرفع منسوب المخاطر ويشرّع الأبواب للمشاريع والتدخلات الخارجية، التي وجدت وتجد في مثل هكذا ظروف، فرصاً مؤاتيه لتنفيذ أجنداتها الخاصة بها، مستفيدة من أطراف المنظومة الحاكمة الملتحقة بها، التي تسعى للتهرّب من دفع الثمن، حفاظاً على ديمومة مصالحها الطبقية.
إنها حلقة من حلقات مسلسل جرائمها التي لم تتوقف بعد تفجير المرفأ ودمار العاصمة، وسقوط مئات الضحايا وآلاف الجرحى، وفي عرقلة الادعاءات القضائية والتحقيق الجنائي في حسابات مصرف لبنان وفي تفشيل إصدار قانون ينظّم الرقابة على التحويلات المالية، وفي رفع الدعم عن السلع الأساسية كالقمح والدواء والمحروقات، وفي اجراءات الموازنة لتصفية القطاع العام والانقضاض على ما تبقى من موارد وأملاك للدولة وخصخصتها تحت عنوان ما يسمى "بالإصلاحات". إنها المنظومة الحاكمة التي أدخلت البلد في الانهيار، وتأخذه اليوم إلى الانفجار والفوضى، فأما أن تنجح في مخططها وأما أن نتمكن، مع قوى التغيير الديمقراطي وشعبنا، من تغيير موازين القوى خلف قيادة وبرنامج مشترك قادر على تحويل الانتفاضة إلى ثورة وطنية ديمقراطية، تطيح بهذه المنظومة ونظامها. لذلك أمام مخاطر الاقتراب من الفوضى الشاملة، لا خيار أمامنا إلّا تثوير الانتفاضة وتجذيرها في مرحلتها الثانية لاستكمال ما لم تستطع تحقيقه في مرحلتها الأولى، وبخاصة إنجاز مهمة قيام أوسع ائتلاف وطني على أساس برنامج مشترك وجامع من أجل إحداث التغيير المنشود.
هكذا، يؤكد الحزب مواجهته لهذه المخاطر بالسياسة أولاً ، كما سبق وواجه دوماً، لا سيما خلال مشاركته الفاعلة في انتفاضة 17 تشرين الأول، وبالتنظيم ثانياً، وبالممارسة ثالثاً، عبر توجيه الغضب الشعبي العارم في الشارع – من موقعه المتمايز والملتصق والمتفاعل مع هموم الناس وتحركاتهم – باتجاه أصل العلّة الكامنة في النظام السياسي، بتبعيته واستغلاله الرأسمالي ومحاصصته الطائفية، والتصويب في هذه المرحلة على العناوين التي تجسد مواقفنا ومشروعنا السياسي لإنقاذ البلد بمواجهة ما تطرحه المنظومة من مشاريع: فلا لمؤتمر تأسيسي جديد كما يطرحه البعض، والذي سيقود إلى تسوية طائفية جديدة، برعاية دولية وإقليمية، مترافقاً مع الدعوة إلى بناء دولة، تدّعي أنها مدنية لكنها، في جوهرها، تؤسس لغلبة فريق سياسي من لون سلطوي طائفي معين على الأفرقاء الآخرين. كما المطالبة بالفيديرالية والتي ستؤدي إلى تقسيم الوطن الواحد إلى كانتونات، مترافقة مع الدعوة للأمن الذاتي وخلق غيتويات مذهبية. أمام هذه المشاريع يجدد الحزب تمسكه بمشروعه النضالي الداعي إلى التغيير الشامل للانتقال بلبنان من نظام المحاصصة الطائفية إلى نظام وطني ديمقراطي حقيقي، يرسى بناء الدولة العلمانية الديمقراطية المقاومة، القائمة على المواطنة والعدالة الاجتماعية وسيادة القانون والفصل الكامل بين السلطات، وتحرير الأرض من الاحتلال الصهيوني والدفاع عن السيادة الوطنية ومقاومة أي عدوان أو احتلال، وهذا المشروع يحتاج من الحزب وقوى التغيير الديمقراطي خلق موازين قوى جديدة عبر المبادرة والتفاعل مع الاحتجاجات والمطالب الشعبية والقطاعية، وبناء الأدوات وصياغة البرامج السياسية والشعبية الموحّدة للجهود لإطلاق انتفاضة وطنية ديمقراطية تفرض تشكيل حكومة إنقاذ وطني انتقالية، بصلاحيات تشريعية استثنائية، من خارج المنظومة الحاكمة، تضم نخبة من الوطنيين المستقلين، الأكفاء والشجعان ممن لم يتورطوا في الفساد، وتحظى بثقة الشعب.
وبمثل هذا الوضوح الحاسم بالرؤية والأهداف، وبعد أن فقدت أكثرية الشعب اللبناني ثقتها بالسلطة وسياسييها على مختلف مشاربهم وانتماءاتهم، وأمام عجزها المستمر، يمكن مواجهة لغة التخاطب السياسي السلطوي المشبعة بالشحن المذهبي والعنصري، وطروحات التشرذم ورفع المتاريس الطائفية والقمع واستغلال أزمة كورونا، لتمرير ما عجزت عن تمريره في السابق. إن الجائحة مرشحة إلى مزيد من التفاقم مع الارتفاع المقلق في عدد الوفيات، واستمرار الحجر وبروز حالة ارتباك واضح وارتجال مع وصول الدفعة الأولى من اللقاحات، التي ستخضع بدورها إلى بزار المتاجرة والمحاصصة الطائفية والمذهبية، كما حصل في بزار توزيع مساعدات الإغاثة ومن حصول ممارسات وسلوك لا إنساني في تلقيح النازحين السوريين واللاجئين الفلسطينيين.
تشكيل الحكومة
لا يزال الموضوع الحكومي يراوح في مربع الشروط المتبادلة بين أطراف المنظومة – بدليل فشل زيارة الحريري الأخيرة إلى القصر الجمهوري التي زادت منسوب التوتر في العلاقات بينهما – ربطاً بخيارات الداخل ومشاريعه المذكورة حول " أية حكومة، ولأي لبنان، وفي ظل أية موازين" ، وكيف سيكون موقف هذه الحكومة الموعودة من شروط الخارج؛ فالموضوع أعمق من تشكيل حكومة بظل العامل الخارجي الذي يزداد تدخله في هذا الموضوع ولكل طرف له أهدافه، الأميركي غير مستعجل، ولبنان ليس على لائحة أولوياته، تاركاً تفاقم الوضع الاقتصادي والصحي، ما قد يساعده في زيادة الضغط أكثر فأكثر للحصول على التنازلات التي يطلبها في ملفاته المعروفة ( التوطين، ابقاء النازحين السوريين – ترسيم الحدود ، سلاح حزب الله ...)، مستخدماً الفيتو على مشاركة حزب الله بالحكومة مع فرض العقوبات المالية وتنفيذ إجراءات صندوق النقد تحت مسمى "الإصلاحات" التي يجري تنفيذها من قبل المنظومة الحاكمة والتي ستزيد من عوامل الانفجار الاجتماعي. أما الفرنسي، الذي يحمل مشروعه الخاص الذي عبّر عنه باحتفال مئوية لبنان الكبير، يحاول اليوم إعادة تعويم هذا المشروع عبر مبادرة ماكرون الهادفة إلى تجديد نفوذ فرنسا وعلاقاتها التاريخية بلبنان، كمنصة، تستند عليها لحجز مكان لها على طاولة التسوية الكبرى في لبنان والمنطقة ونجاحها بذلك يتوقف عند حدود التقاطع مع ما يسمح به الموقف الأميركي والقوى الإقليمية والداخلية بخاصة، وحتى يحين أوان ذلك، شهدنا وسنشهد اهتماما فرنسياً بلبنان تحت عناوين مختلفة (المساعدات الانسانية - قرض صندوق النقد - شراء لقاح فايزر - الملف الحكومي و"الاصلاحات"...) بما يخدم تحقيق أهداف المبادرة وطبعا تحت سقف ترسيخ تبعية النظام وطائفيته ولو بوجوه جديدة. أما الدول الخليجية، فقد بادرت إلى الانكفاء عن الملف اللبناني، منتظرة باب التسويات في المنطقة والذي لم يُفتح بعد، وبانتظار معرفة الاستراتيجية الأميركية الجديدة في المنطقة.
إن تعقيدات الخارج المتأرجحة بين القبول الضمني لحالة الفراغ القائمة، ومحاولات الاستثمار الواضحة في هذا الملف لإعادة تشكيل السلطة، لا تقل أهمية عن تناقضات الداخل، وتصاعد حدّة الانقسام الذي بدأ يأخذ أبعاداً طائفية ومذهبية ربطاً بأكثر من موضوع وقضية. هذا الواقع المعقّد والسائد اليوم يترافق، بدوره، مع تدنٍ في الخطاب السياسي المصحوب بالتراشق المذهبي الحاد، بين أطراف المنظومة حول التعطيل والعرقلة، وما عودة تلك التوترات المشحونة إلى الواجهة وبحدّة إلّا مؤشراً إلى عودة استخدام تلك الوسائل لفرض المزيد من الشروط والشروط المتبادلة. إذن، نحن في مخاض إعادة تشكيل النظام وفق حسبة جديدة بين أطرافه. وعليه، هناك صعوبة في ولادة قريبة للحكومة، ربطاً، بما ذكر وبملفات داخلية ليس أقلها الانتخابات الرئاسية اللبنانية المقبلة ودور الأكثرية النيابية الحالية فيها. وإذا لم تحصل، فستقوم الحكومة بمقام رئيس الجمهورية، وأيضاً هذا سبب إضافي للعرقلة، فضلاً عن الاستحقاقات الإقليمية وأبرزها الانتخابات الرئاسية الايرانية والسورية.
أمّا على الصعيد الاقتصادي، فإن الأزمة تتجه بشكل متسارع نحو مزيد من التفاقم، بسبب استمرار تبعات انهيار عام 2019، وما أدّى إليه من انخفاض قياسي في معدلات النمو الاقتصادي وتفلّت عشوائي في أسعار صرف الليرة وارتفاع صارخ في أسعار الاستهلاك، وزيادة استثنائية في معدلات البطالة والفقر. وازدادت هذه الاتجاهات الانكماشية خطورة مع تعاقب موجات وقف النشاط الاقتصادي واقفال المؤسسات بسبب جائحة كورونا، من دون أن تتولى السلطة توفير أيّ بدائل للمتضرّرين، لا سيما العمال والفئات الفقيرة، وسط ترسّخ مؤشرات غياب المراقبة والمحاسبة، لا بل التواطؤ المكشوف ما بين أصحاب السلطة ورأس المال الكبير المهجوس فقط بتعظيم أرباحه (كما حصل في تهريب العديد من المنتجات المدعومة إلى الخارج، بما فيها منتجات من سلّة الغذاء). وأكثر ما أثار القلق خلال الأسابيع الأخيرة هو إمعان قوى السلطة المتنفّذة في سياساتها الاقتصادية والاجتماعية، وهي سياسات تتميّز بتحيّز طبقي وارتباك وقلّة مسؤولية بحسب ما عكسه مشروعان أساسيان أطلقتهما مؤخّراً، الأول مشروع موازنة عام 2021 والثاني مشروع وقف أو "ترشيد" الدعم.
مشروع الموازنة المقترحة: هي موازنة تقشفية بشكل كبير في ظل ركود كبير، بينما يجب أن تكون موازنة توسّعية تسعى لدعم المؤسسات والأفراد والفقراء، الذين واجهوا الإفلاس والبطالة بسبب الركود والكورونا ونهب أموالهم وودائعهم الصغيرة. إنها موازنة تدبير أحوال، ولا تتضمّن أي تصوّر أو حتى إيحاء بشأن الحدّ الأدنى من الاصلاحات أو المعالجات المرتبطة بالمعضلات الهائلة التي تكشّف عنها انهيار عام 2019، ومن ضمنها: تعدّد أسعار الصرف وفلتان التضخّم وغلاء أسعار الاستهلاك؛ ومصير الودائع الصغيرة وتعويضات المؤسسات الضامنة واسترداد ما نهب أو هرّب من أموال عامة وخاصة؛ وتبخّر الأجر الفعلي من دون لحظ أي نيّة لتصحيحه، إلى جانب الانهيار الوشيك في نظم التقديمات الاجتماعية (الضمان، الصحة، التقاعد، التعويضات العائلية). فالوجهة العامة للموازنة تقضي بتخفيض ملحوظ لكل أنواع التقديمات الاجتماعية الصحية والاستشفائية ولا سيما إلغاء نظام المعاش التقاعدي للموظفين الجدد وتعميم نظام التعاقد الوظيفي وتصفية الوظيفة العامة. هذا إلى جانب التهميش الاستثنائي للاستثمار الحكومي وخفض موازنات الزراعة والصناعة وتشريع البلد أمام عارضي شراء الوحدات السكنية من غير اللبنانيين ... امّا البند الوحيد الذي حاولوا إعطاءه نكهة إيجابية، فهو اقتراح فرض "ضريبة للتضامن الوطني"، ولمرة واحدة وكأن الأزمة لسنة واحدة في حين هي مرشحة للاستمرار، وقد ثبت من خلال توقعاتهم لمردوده أنه لن يؤمن إلا مبلغا رمزيا قياسا على حجم الخسائر التي لحقت باللبنانيين، وبخاصة فقراؤهم والطبقة الوسطى، مما يعكس نوايا لإجهاض أي محاولة جدية لاسترداد الأموال والتعويض عن الخسائر.
مشروع "ترشيد" الدعم: المضمون الأساسي للدعم تاريخياً كان ذا طابع رجعي في أبعاده الضريبية والطبقية، وزبائني في توظيفه السياسي، كما كان يخفي بشكل خاص تواطؤا بين القوى الحاكمة والكتل الاحتكارية الأساسية في البلد، لا سيّما كبار مستوردي المحروقات والأدوية والحبوب. ولم تطرح قوى السلطة مشكلة تضخّم فاتورة الدعم إلّا عندما انفجرت الأزمة الاقتصادية والمالية مؤخّراً، وقد حاولت التنصّل من مسؤوليتها عن تضخّم تلك الفاتورة، الناجم أساساً عن انهيار سعر العملة الوطنية. ويحاول فريق حكومي في الوقت الحاضر اقتراح مشاريع لـ"ترشيد" الدعم التي بلغت قيمتها الاجمالية نحو 6 مليارات دولار عام 2020، بحجّة عدم استنفاد ما تبقّى لمصرف لبنان من احتياط عملات أجنبية لا تزيد راهنا عن 17،1 مليار دولار. وقد طوّر هذا الفريق سناريوهات مختلفة تفاضل بين نسبة خفض الدعم وقيمة البطاقة التمويلية المنوي توزيعها على نحو 600 ألف أسرة. وأخطر السيناريوهات يقضي بإلغاء كامل الدعم على البنزين (مليار دولار عام 2020) والمازوت (1،1 مليار دولار) إضافة الى50% من الدعم المقدّم للدواء (1،2 مليار دولار)، مقابل بطاقة تمويلية سقفها الأعلى 165 دولار للأسرة شهريا بسعر 6200 ل.ل للدولار الواحد. والمؤكّد أن أيّا من هذه السيناريوهات لا يمسّ لا من قريب ولا من بعيد بمصالح التكتلات الاحتكارية، كما أنها جميعها تمهّد السبيل أمام التحرير التدريجي لأسعار المنتجات المستوردة مع تحميل أعباء هذا التحرير للفئات الفقيرة والمتوسطة، عبر زيادة أسعار المشتقات النفطية والدواء وربما الخبز بما يراوح بين 3 و4 أضعاف.
مشروع تنظيم الإعلام، بناءً على دعوة من نقابة المحررين، شارك الحزب في اجتماع تحت عنوان "إعادة الاعتبار لمهنة الإعلام وضرورة إقرار قانون موحّد لتنظيمه". وبسبب عدم توزيع مشروع القانون الذي يجري بحثه في اللجان على الحاضرين، وعدم الثقة بالمنحى الذي سيؤول إليه هذا القانون، رفض الحزب التوقيع على البيان الصادر عن الاجتماع الداعي لإقراره حيث تبيّن وجود توافق سياسي واسع بين أحزاب السلطة على مختلف تشكيلاتها على إقرار هذا القانون. كما أكّد الحزب الشيوعي على رفضه المبدئي لتمرير قانون جديد بذريعة تنظيم مهنة الإعلام شكلاً، يهدف إلى ضرب الحريات العامّة وكم الأفواه ومنع المناضلين والناشطين والإعلاميين من التعبير عن آرائهم، سواء في وسائل التواصل الاجتماعي أو في وسائل الإعلام، وأن هناك ميلاً واضحاً عند المنظومة الحاكمة نحو المزيد من السياسات القمعية، حيث تتنطّح القوى المسؤولة عن إدارة البلاد في العقود الثلاثة الماضية إلى تشريع قوانين جديدة لمنع الناس من التعبير عن رأيهم واعتراضهم وغضبهم على هذا الوضع المذري الذي أوصلوا البلد إليه.
وفي ضوء ما سبق، سوف يتجه البلد نحو حالة أشدّ وأقسى من الانهيار الاقتصادي والمالي، في وقت باتت الخيارات تضيق أمام اللبنانيين بعدما لامست أكثريتهم حافة الفقر والعوز. ومع انهيار شبكات الأمان الاجتماعي سوف يتجه التفاوت الاجتماعي – الذي كان في الأصل حاداً قبل أزمة عام 2019 – نحو مزيد من التفاقم، منذراً بانفجار اجتماعي وشعبي وشيك. فترابط المشاكل (الكورونا، الإقفال، الانهيار) مع عجز سلطوي مريب، سيشكل الأرضية لنشوء مستجدات اجتماعية تستكمل المستجدات السياسية وتؤدّي إلى حالة من التفكك المجتمعي مترافقة مع توترات متنقلة ولأسباب مختلفة، ما قد يُغرق البلد في حالة من الفوضى الشاملة، والتي ستصعب السيطرة عليها. ومن هنا يهمّنا التأكيد على الموقف الثابت بتحمّل السلطة السياسية مسؤوليتها، لجهة تأمين كل وسائل الدعم للعائلات المحتاجة والفقيرة، بعيداً عن المحاصصة والزبائنية، كما حصل في العديد من بلدان العالم في تعاملها مع نتائج الأزمة. والتأكيد أيضاً على جهوزية كل المستشفيات والمراكز الصحية، كي لا يموت المواطن على أبواب المستشفيات كما يحصل اليوم، فضلاً عن شمول غير اللبنانيين من البرنامج الوطني للتلقيح. مع التأكيد على حق المواطن في التغطية الصحية الشاملة. وأيضاً على أولوية النهوض بنوعية التعليم الرسمي، العام والجامعي (الجامعة اللبنانية) والمهني، الذي كان ذات يوم يتجاوز نوعية التعليم الخاص. إذ من المتوقع أن يؤدي تسارع الانهيار الاجتماعي إلى دفع نسبة أكبر فأكبر من الأسر اللبنانية نحو توجيه أبنائها نحو التعليم الرسمي مجدّداً. ولذلك، فان التمسّك بمجانية التعليم الرسمي هو أمر ملحّ، ولكن الأمر الأكثر إلحاحا في الظرف الراهن يتمثّل في النهوض بنوعية هذا التعليم.
إن التحقيق في قضية المرفأ، كما التحقيق الجنائي، قد أصبحا أسيري منظومة قضائية مرتهنة بجزء كبير منها، بولاءاتها إلى هذا الطرف أو ذاك، وبالمحصلة تزداد مخاطر غياب المحاسبة وضياع العدالة، وحقوق أكثر من 200 شهيد وآلاف الجرحى في متاهات التحقيقات، وقد جاءت استقالة المحقق العدلي وتعيين البديل له، كمؤشر إلى نوايا مكشوفة الهدف منها إطالة التحقيق تمهيداً لتضييعه. بالإضافة إلى التحقيق مع حاكم مصرف لبنان رياض سلامة، والسؤال عن جدواها، وفي ما أن تُستكمل باتجاه الأموال المنهوبة والمهربة إلى الخارج، أم ستقف عند حدود التوازنات الطائفية و"الفتوات" الموضوعة من المرجعيات الدينية، والتي كثُر تدخلها المباشر في الشؤون السياسية، وحماية النظام ومنع محاربة الفساد ومحاكمة الفاسدين. وعليه، وكي لا تضيع حقوق الشهداء والجرحى والمودعين، ندعو: لسلطة قضائية مستقلة واضعين القضاء العدلي امام مسؤولياته باستكمال تحقيقاته بعيداً عن الضغوط التي تمارس ومن أي جهة كانت، وأن يضع الأمور في نصابها الصحيح، ويصارح الشعب اللبناني بالمعرقلين أو الذي يسعون لتضييع العدالة، وأن يستدعي الجميع بدء بالسلطة السياسية والأمنية. أمّا بالنسبة لحاكم مصرف لبنان، والذي هو أحد أركان المنظومة المالية التي تحكمت في البلد منذ عشرات السنين، فعلى القضاء اللبناني أن يتحرك في ملفات الهندسات المالية، كما الأموال المهربة، والمنهوبة المعروفة الأسماء والأرقام.
ومع انسداد الأفق أمام الحلول السياسية، وفي ظل الانهيار السياسي والقضائي وشلل مؤسسات الدولة، واتساع حالات الفقر المتمادي في الارتفاع، وتفاقم الأزمة الاقتصادية والمالية والصحية، وعجز السلطة المسؤولة عن المعالجة لا بل لجوئها إلى إجراءات ضاغطة من نوع رفع الدعم واجراءات الموازنة، وممارسة المزيد من القمع والترهيب والاعتقالات، كما جرى مؤخراً في طرابلس، وفي اعتصام المعلمين المتعاقدين في التعليم الاساسي أمام وزارة التربية، وأيضاً الادعاءات القضائية واصدار الأحكام الجائرة على جميع المتظاهرين المعتقلين بحجة "الإرهاب"، ما يؤشر إلى منحى تصعيدي من قبل السلطة لقمع الرأي وكم الأفواه، وهذا الأمر مرفوض ونحذر من التمادي فيه، ما يطرح مسألة الدفاع عن الحريات العامة والحق بالتظاهر، في مواجهة تحويل لبنان إلى ساحة مستباحة للتوترات الأمنية وحالات القتل والسلب والسرقة والاغتيالاتّ...، مؤكدين هنا على موقفنا المبدئي بإدانة كل الاغتيالات مهما كانت أسبابها ودوافعها، وداعيين السلطات القضائية والأمنية إلى كشف المرتكبين وانزال أشد العقوبات بحقهم؛ فكلما تفاقمت الأزمة المعيشية ازداد عنف السلطة وقمعها المفرط، ما ينذر بخطر انفلات أمني داخلي يمكن أن يتطور نحو الأسوأ، ما يستدعي التنبه له من قبل الحزب واتخاذ اجراءات مناسبة بهذا الشأن. أما على صعيد الخارج فالخطر الصهيوني دائم، ولا تزال خروقاته الأمنية وأطماعه في لبنان قائمة. من هنا لا بد من تفويت الفرصة على النافخين بنار الفتنة أو التوترات الداخلية، أو المستعجلين وراء التدخل الأجنبي والتدويل، بالعمل عل تكوين تيار سياسي وشعبي رافض لكل تلك المحاولات، وللتأكيد أيضاً، بأن وطنية لبنان وعروبته هما هويته وعلّة وجوده، وخيار المقاومة بمختلف الأشكال هو خيار وطني يتعيّن الاستمرار به والحفاظ عليه وصونه، ما دام جزء من الأرض لا زال محتلاً وخطر العدو قائماً. ولا يجب التفريط بهذا الخيار، بل صونه وجعله مهمة وطنية لكل اللبنانيين، وليس لاستخدامه في التناقضات المحلية لتغليب فريق على آخر. أمام هذا الواقع المأزوم والمفتوح على احتمالات عديدة، لا بدّ من توسيع المواجهة كي تطال كل المجالات والقضايا. إن لبنان الغارق اليوم في أزماته، منتظراً الترياق، لن يقوى على الصمود أكثر؛ الشلل القائم، ربما هو المطلوب اليوم، مدعوماً بضغط اقتصادي ومالي. الكباش سينتج منه، مزيد من التوترات، ومزيد من فرض الشروط والعقوبات، ووضع مالي سيؤدي باللبنانيين إلى حدّ المجاعة وتعطل مؤسسات الدولة. لا حل سيأتي من الخارج؛ لقد انتهى ذلك اللبنان المعروف وهناك آخر في طور التشكّل. من هنا المطلوب: تحضير الحزب لتنفيذ المهام المطروحة على كل المستويات والمبادرة مع قوى اليسار، في لبنان والدول العربية، لتوحيد الرؤية تجاه ما يجري في المنطقة، والعمل على تنسيق المواقف في مواجهة ما يُحضّر على كل الصعد، وبالتحديد للقضية الفلسطينية.
بيروت في 24/2/2021
المكتب السياسي للحزب الشيوعي اللبناني