التفكير في زمن التقتيل
العنف والإرهاب والقتل والجوع والعقوبات والحصار ومشاكل المناخ واختلال القيم... بمجموعها، هي من عناصر تكوين عالم اليوم. لقد وقعت البشرية في فخ الاستخدام المفرط لإمكانياتها الهائلة، فتوزعت على ساحات ومنصات وسلوكيات وأفكار، تعبّ من مخزون متوارث، ومن منتوج استعمال الإنسان ما بين يديه من قدرات وما في عقله من أفكار. فالفكر ليس بعيداً عن الأحداث ولا عن نتائجها، بل هو في أساسها والمحرك لها؛ فالتفكير في زمن الجهل هو شيء ضروري، والتفكير في زمن الحاجة والعوز هو، أيضاً، مطلوب كي يسهم في اجتراح الحلول والعمل عليها. أمّا التفكير في زمن الاستبداد والسلبطة والتقتيل والتجويع فإنه، ربما، سيسقط في فخ المنطق المقلوب والقائم على ازدواجية المعايير المعمول بها، ما قد يوقعه في خانة المحظور.
لم ترحم البشرية، وفي محطات عديدة من تاريخ تطورها، الفكر ولا الذين انتجوه؛ لقد قتلت وأحرقت ونكّلت وأعدمت. لقد أصبح التفكير باباً إلى الحياة الأخرى عندما ساد منطق الجهل، فقامت محاكم التفتيش وحروب الردة والتكفير في زمن التفكير... لقد سقط العقل صريع التقليد الغيبي والغبي وسقطت معه كل إمكانية "تنوير" كانت البشرية بحاجة إليها. هو عالم تسوده عقلية "المتعالي" والمتجبر على قاعدة إمساكه لمفاتيح الحياة من أبسط مقوماتها، من تأمين الحاجات الضرورية للمعيشة وصولاً إلى التفكير المتحرر من قيود الجهل والأسطرة. لقد أُعدمت كل إمكانية تحديث أو تثوير على واقع أصبح اجتراراً لما سبقه، ليقع الفكر في سجن العجز أو أقله في عدم المبادرة. فكيف إذن للفكر الإنساني أن ينتج وهو في دائرة الشبهة الدائمة؟ وكيف له أن يسهم في حلّ المعضلات واجتراح الحلول وهو دوماً في موضع الاتهام؟ إننا نعيش اليوم زمن التفلّت من أصول الكلام والفعل، وأضحى العالم فريسة منطق السوق الشكلي الذي يأخذ بالقشور وليس بالجوهر، لتسقط معه القيم في مأزق التأويل، وتنتفي.
هو عالم فالت ومتفلت، يحكمه منطق رأس المال الجشع وآلياته، قيمه هي الربح وأهدافه هي السيطرة؛ إمبريالية تنتج من الحروب أكثر مما تنتجه من القمح والغذاء، وتنتج من الموت أكثر من الأوكسجين، يتسع معها ثقب الأوزون غير مبالية بما سيأتي بعد ذلك، ولو هلكت البشرية احتراقاً بلهيب أشعة الشمس. لها ما على سطح تلك البسيطة من خيرات وما بداخلها أيضاً. الإنسان ليس هو القيمة المضافة بل هو المستهدف، وعليه أن يدفع دوماً. لقد ابتليت البشرية بآفة الإمبريالية وأصبحت مرضاً عضالاً لا براء منه، معها سقط الفكر التنويري صريع الجهل المتحكم والمسيطر ليصبح مسخراً ومقولباً وفق أهواء ومصالح من يمتلكون القرار. هو زمن التقتيل المتنقل بين الدول والبلدان، لا يستثني أحداً ولا يبالي بكمٍ أو بنوعٍ. هو ذلك الفكر الفالت والمتعجرف، يسكن القصور والبيوت البيضاء تشبّهاً واشتباهاً. هو في حكم الرعيان على اختلاف شيعهم وأصنافهم؛ فيهم من المأجورين والموتورين والقتلة والجهلة الأفواج المؤلفة التي لا تنضب. نظم سياسية وعصابات ومذاهب وطوائف... تطوف على ما حولها، فتعطّل كل إمكانية لفتح ثغرة في جدار التعمية السميك. تقول وتفتي وتمضي وتقرر وتنفذ لا يردعها رادع، غير مبالية بقيمٍّ ولا يحجبها ساتر. مكشوفة في العراء أمام ضوء النهار لا تستحي. لقد أذلّوا وقتلوا وجوعوا وأفقروا ... وما زالوا يملأون الفضاء، المفتوح على خطاباتهم الفارغة وصورهم البالية وكلامهم المستهلك، الفاقد للقيمة وللأهلية. لا عقل ولا تفكير في زمن التسلط والبلطجة، في زمن "حارة كل مين إيدوا ألو"، لهم في الدار كل الغرف، ولهم في اليوم كل الساعات، ولهم في المجال الهواء والماء والفضاء المتسع لأفعالهم، هم يدرون ما يفعلون وعن سابق تصور وتصميم. فماذا ترانا فاعلين؟
هي موقعة، ربما، ليست متكافئة نظراً لاختلاف طبيعة القوى والإمكانات، وأيضاً المنطلقات. هي مواجهة أبدية، مستمرة ودائمة. لن تنتهي بفائز أو مهزوم بل بمسارات متتالية تشكل حلولاً أو بدائل لواقع مأزوم. التقتيل صفة السائد، وهو اليوم متعدد ولكن بنتيجة واحدة: الجوع، الحصار، العقوبات، الطوابير، الخبز العلم، المناخ، الحروب...، قائمة ربما لن تنتهي. المصدر معروف كما السبب والنتائج. نظام عالمي بفروعه الإقليمية والمحلية يحكم ويستبد، يحيي ويُميت وهو على كل شيء، كما يقول، قدير. هذا ليس قدراً لا مفرّ منه أو لا بديل عنه. ربما هناك وفي الحالتين خيارات أخرى. التفتيش عن الحل لن يكون باجترار ما هو موجود؛ فالعقم لن ينتج خصوبة، والخيارات المستنفدة لن تشكل بديلاً. هو المسار المؤدي إلى قلب الطاولة على رؤوس من أورثوا في الأرض فساداً وتبعية وعمالة. هو المسار المتحرر من سجون الغيب المجهول والواقع على وعود بحياة أكثر رحمة وأكثر ازدهاراً، لا خوف فيها ولا جوع ولا عطش.
هي تلك المنازلة المفروضة بفعل الأمر الواقع؛ لا مفرّ منها، ولا مستقّر لها. هي كالقدر الذي يجب أن ينفذ إلى الواقع من دون تدخل. التبعية والاستزلام والاحتكار والسرقة والجشع... كما الاستبداد والهيمنة والقتل والعدوان... هي خيارات سياسية قبل أن تكون قضايا أخلاقية؛ لذلك، الرد يجب أن يكون على قدر الهجوم، وعلى قدر المستطاع. لا خيارات كثيرة متاحة. اليوم، العالم والمنطقة والبلدان كما الشعوب في طور إعادة التكوين وفي ظل فوضى عارمة متنقلة، تخوض خطوط الطول والعرض، لا تهدأ ولا تستقر. رأس المال مستنفر بعدته وعديده، الأساطيل تحاصر وتمنع وتقتل وتدمر، الأنظمة تحاصص وتقمع، الطوائف كما المذاهب تفتي وتكّفر وتجيز وتحرّم وتحلل، الشعوب في طوابير الذل المتنقلة، أسيرة الجهل والعوز والفقر وقلة الحيلة، تعاند وتكابر وتكافح... ليس أمامها ترف الاختيار إلى أيّ منقلب سوف تنقلب.
أمام حالات الانفلات السياسي وتدهور الخطاب السياسي إلى هذا الدرك من السفاهة، وأمام انفلات الأخلاق وحشرها بين شاقوف الطوائف وسندان رأس المال، وكي لا يدفع الثمن غير الفاعل، فعلى الرافضين لهذا المنطق المقلوب والسائر على رأسه، أن ينفضوا عنهم غبار الاستكانة واجترار النص الجامد والخروج من قمم الدوغمائية المتحجرة نحو فضاء أوسع وأرحب، تكون الرؤية فيه واضحة وغير مغشية. آفة العالم هي تلك العقلية المتسلطة والمدعومة بقوة السلاح ورأس المال، هي تلك السلبطة اللامتناهية التي مارستها "إمبراطورية الشر" منذ هزيمة التسعينيات وحتى اليوم. البدائل لن تكون من الطينة نفسها، بل من النقيض: مشروع ثوري متحرر من جمود الماضي، ومن ثرثرة اليوم، وانكفاء العقل عن القيام بدوره. فلنكسر الخوف والتردد، ولنكف عن استحضار الإسقاطات التاريخية على واقع أصبح بعيداً زماناً وآلياتٍ. فتحطيم صنم العبادة الشكلية للنص باتجاه قراءة أكثر تواضعاً لواقع فكري وسياسي معيش أصبح ضرورة اليوم؛ لقد أهدرنا وقتاً على النقاش العقيم والذي لن يلد أفكاراً خلاّقة بل المزيد من الغرق في التكرار والإفراط في جلد الذات. ألم يحن وقت اجتراح البديل؟