أطراف الطبقة المسيطرة في لبنان تتسبّب بانفجار أزمة مزدوجة في طرابلس
"غرباء، مندسون. دمروا وجه طرابلس الحضاري، أحرقوا مؤسساتها، خرّبوا تراثها العريق، حمى الله طرابلس وأهلها، وما هكذا تكون الثورة". هي التتمة الطبيعية لمفردات وعبارات إعلام المال والسلطة وخدمهم من المنظمات "غير" الحكومية ومما يسمى وجوه المجتمع المدني الصفراء والمخادعة، من طوابير الثورة المضادة المندسين في أوجاع الناس والطبقات الشعبية المستغَلة والمنهوبة.
تختلف الطبقة المسيطرة في لبنان على حصصها من نهب المال العام، وتتفق على مواجهة أي اعتراض، عبر تخريب كل أدوات الاعتراض الشرعية من نقابات وروابط وأندية، وعندما يلزم الأمر تستخدم القمع العاري بأدوات الدولة الأمنية حيناً، وبجحافل ميلشياتها حيناً آخر. بنت هذه الطبقة أحزاباً سياسية وجمعيات قائمة على عمل مافيوي فعلي ألبسته لبوس الطوائف.
تستخدم هذه الطبقة المسيطرة الأسلوب التنظيمي الذي اعتمده لويس بونابرت عندما أسس جمعية خيرية، عام 1849، باسم "جمعية العاشر من كانون الأول (ديسمبر)، وعرّف أتباعها بالديسمبريين. فبحجة تأسيس هذه الجمعية تمّ تنظيم حثالة البروليتاريا في باريس والمغامرين والمتشردين المشعوذين والمحتالين وكثير من الجمهور السائب، المتنوع، والذي يسميه الفرنسيون الدهماء (La bohème)" . من هذه العناصر شكل حزباً ينظم له المسيرات ويصرخ جمهوره "عاش نابوليون، عاشت المقانق" (Vive Napoléon! Vivent les saucissons)"- كارتونة إعاشة توزع على فقراء العامة، يعرفها اللبنانيون جيداً-.
الطبقة المسيطرة اللبنانية كلها بونابرتية، أحزابها وجمعياتها وقياداتها ديسمبريون. حولت هذه الطبقة كل بيروقراطية الدولة (المدنية والأمنية) إلى جمعيات ديسمبرية. وبالتالي ألغت الدولة.
كل أطراف الطبقة المسيطرة في لبنان أسست أحزاباً وجمعيات على طريقة بونابرت، عضويتها مأجورة، إما من جيوب حيتان المال أو من المال العام (بالتوظيف، وبالتنفيعات، وبالتهريب، وبالتهرب من الضرائب والأعمال المشبوهة، وبالحمايات...). هذه الطبقة المسيطرة ألغت الدولة. أفرغت الإدارة المدنية والعسكرية من جوهرها وطبيعتها الفعلية، فكل التعيينات المركزية والمناطقية تتم بمحاصصة بين أطراف الطبقة المسيطرة، بحيث أن أي مسؤول، مركزي أو مناطقي، أمني أو إداري، يرتبط تعيينه بأطراف هذه الطبقة المسيطرة. وبالتالي بدل أن تكون الدولة، وعمودها الفقري الإدارة البيروقراطية المدنية والعسكرية، مستقلة عن المجتمع، تصبح هذه الدولة موزعة عقارات ومزارع بين أطراف الطبقة المسيطرة. وبدل أن تكون البيروقراطية لا شخصانية Impersonnel، اعتبر ماكس فيبر أفرادها أحراراً شخصياً ولا يخضعون لغير الواجبات الموضوعية لوظيفتهم، عوض ذلك، تكون الدولة، من خلال البيروقراطية الإدارية والأمنية المتبعة في لبنان، مجرد "متاع" و"عقارات" يديرها أطراف هذه الطبقة ويجنون "ريعـها" في صناديق الاقتراع. وبذلك تتحول الإدارة إلى شبكة من المفاتيح الانتخابية والأتباع المسهلة لعمليات الفساد والإفساد. وبذلك تكف الدولة اللبنانية عن أن تكون دولة عصرية، فهي مؤسسة إقطاعية فحسب.
وهكذا ففي لبنان، الإدارات الأمنية والمدنية، المناطقية والمركزية، ملحقة بأفرقاء الطبقة المسيطرة، وبإشرافها نُهبت ثروة البلاد والمواطنين. وهذه الطبقة ليست مستعدة لدفع فلس واحد من كلفة الانهيار المسؤولة عنه، وعن تداعياته، ومن ذلك مسؤوليتها المباشرة عن واقع طرابلس وبؤس شعبها وعما تشهده من أحداث. وليس ما تبادلته أطراف الطبقة المسيطرة بمناسبة الأحداث الأخيرة في طرابلس من رسائل واتهامات للأجهزة الأمنية وغيرها سوى أبلغ دليل على ذلك.
أما البكاء والعويل على تدمير المؤسسات والتراث والعراقة، فهو من أخبث إعلام وإعلان عما يحدث في البلاد. فلا توجد بيروقراطية إدارية وأمنية في لبنان، لا توجد مؤسسات دولة، بل توجد مزارع تابعة للقيادات الطبقية التي تديرها. وبالتالي، كل المواطنين (بما في ذلك من موظفين إداريين وأمنيين) مجرد أقنان وأتباع في هذه المزرعة، وعندما يدمر شيء من المزرعة، فإنما يتدمر الحجر والأثاث، فحسب، لأن البيروقراطية مدمرة أصلاً. هذه البيروقراطية- المزرعة- المتاع موجودة بقبضة القيادات بما في ذلك جميع الملفات.
إن ما حصل وسيحصل في طرابلس، هو انفجار محلي، شمالي، لصراعات مركزية بين أطراف الطبقة المسيطرة. وهو في نفس الآن انفجار محلي شمالي، لاحتقان شعبي يعانيه كادحو ومظلومو طرابلس والضنية وعكار، أفقر مدينة ومنطقة على شواطئ حوض المتوسط.
فالأزمة التي انفجرت أزمتان. هي، من جهة، أزمة الطبقة المسيطرة العاجزة عن التوافق على إدارة البلد، واختلافها على المحاصصة والتبعية للخارج. وهي، من جهة ثانية، أزمة الشعب المقهور والمنهوب والمستتبع على يد هذه السلطة بالذات. من طبيعة الأزمة الثانية، فقدانها لممثل لها من طبيعتها الطبقية الكادحة، وما يتم التعبير عنه بغياب الطليعة التقدمية أو الثورية التي تستفيد من الوضع الثوري موضوعياً (أزمة الطبقة المسيطرة).
وإذا ما استخدمت أطراف السلطة ما يسمى "مدسوسين"، فالمسؤولية لا تقع على "المدسوس"، بل على "الدساس"، أي فريق الطبقة المسيطرة على الإدارة المدنية والأمنية. وعلى العموم، يجب أن نعرف أن الدهماء تحمل في نفسها حقداً أعمى على هذه الطبقة المسيطرة، حقداً غير واعٍ، وهي على استعداد لحرق كل شيء، لأنها لن تخسر أي شيء. ألم يقل لينين: "إن "العنصر العفوي" ليس في الجوهر غير الشكل الجنيني للوعي. فالمشاغبات البدائية كانت تفصح منذ ذلك الحين عن نوع من استيقاظ الوعي: كان العمال يفقدون إيمانهم القديم بثبات الأوضاع التي ترهقهم وأخذوا... يحسون -ولا أقُـل يفهمون- ضرورة المقاومة الجماعية ويكفّون بحزم عن الخنوع الذليل لأصحاب الأمر والنهي. ولكن ذلك كان على كل حال مظهراً أشبه باليأس والانتقام منه بالنضال" .
قد يكون منطقياً زعيق الإعلام الرسمي وإعلام الطبقة السائدة، تشهيراً بالتخريب، وندباً لما تم تخريبه. إنما المستغرب مشاركة الطلائع اليسارية والديمقراطية والتغييرية في هذا الزعيق الفارغ. إن المستغرب أيضاً ألا تكون تلك الطلائع في طليعة التظاهرات والتحركات الشعبية، عوض التنظير الفارغ من مكاتبها فحسب، وألا تقوم بإدانة السلطة المركزية والمحلية والتشهير بها، وتُحمّلها المسؤولية المباشرة عن الأحداث القائمة، وتحرض طبقياً على هذه الطبقة السائدة وتُحمّلها مسؤولية الحريق والتخريب. هذا هو دورها. لبنان يمر في وضع ثوري فعلي. لا ينقصه لبلوغ الثورة الفعلية غير الشرط الذاتي. المهمة الفعلية بناء الشرط الذاتي، بناء الكتلة الشعبية لإسقاط الطبقة المسيطرة ودولتها الفاسدة.
Karl Marx, Le 18 Brunaire de Louis Bonapart, Les éditions sociales, 1969, P. 52.
المرجع السابق، ص 50.
المرجع السابق، ص 52.
لينين، "ما العمل؟"، المختارات في 10 مجلدات، المجلد 2، دار التقدم موسكو، 1979، ص 44.