(الحلف السري بين السعودية و"إسرائيل" (مقال للأديب غسان كنفاني

  غسان كنفاني
فلسطين

(انطلاقًا من القاعدة العلمية التي تقول بأن فهم الحاضر واستشراف المستقبل لا يمكن أن يكون دون فهم واستيعاب الماضي، وفي الذكرى الثامنة والأربعين لاغتيال المفكر السياسي والأديب المناضل غسان كنفاني ، تعيد "الهدف"، نشر مقالة بعنوان: الحلف السري بين السعودية وإسرائيل، كان قد نشرها غسان على صفحات مجلة الهدف بتاريخ: 10/1/1970).

 

الحلف السري بين السعودية وإسرائيل

اتفق الأمير فهد مع شاه إيران في واشنطن على اقتسام الخليج العربي

ما هي حقيقة الوجود العسكري البريطاني الأميركي في شبه الجزيرة؟

 

السبت 10 كانون ثاني 1970 العدد 24

 

لا يتمثل التوطؤ غير المكتوب بين السعودية وإسرائيل فقط في حقيقة أن النفط العربي يضخ من السعودية إلى الشرايين الأوروبية تحت الحماية الإسرائيلية، بثمن يدفعه النظام السعودي نقداً لجعل إسرائيل قادرة على توفير حماية أفضل، في الأرض السورية المحتلة لمصالح الإمبريالية، ولكن يتمثل أيضاً في الأنباء التي تقول أن الأرامكو، بالاتفاق مع الحكام السعوديين بالطبع، فقد وافقت سراً على إعطاء إسرائيل ما قيمته 20 مليون ومع ذلك، فإن هذين الأمرين ليسا سوى نتيجة لواقع أكثر عمقاً وتعقيداً، ومن قصر النظر الاعتقاد بأنهما جاءا مقطوعي الصلة بأسباب وارتباطات موضوعية تجعل من مجمل ما يحدث، على المدى القصير وعلى المدى الطويل، تعبيراً عن حلف سري غير مكتوب، ولكنه موضوعياً قائم فعلاً بين النظام السعودي وبين إسرائيل .

باختصار، نستطيع أن نوجز ذلك الحلف السري غير المكتوب بأنه يتركز في استراتيجية الاستعمار والإمبريالية المسماة باستراتيجية شرق السويس. كانت إسرائيل تلعب في تلك الاستراتيجية دور أساسي في الكماشة؛ والسعودية تلعب –في الجهة المقابلة- دور فك الكماشة الآخر. وهذا العنوان يفترض إلقاء نظرة تفصيلية على كثير من الجزئيات التي تحدث والتي لا يمكن فهمها على حقيقتها إن لم توضع في سياق ذلك العنوان: من قضية الحلف الإسلامي (الذي انتهى إلى ولادة مسموحة في الرباط)، مروراً بقضية الخليج العربي والانسحاب البريطاني المنتظر منه، إلى البراقع السعودية المزيفة المسماة بدعم الصمود العربي ودعم الفدائيين، إلى العدوان على جمهورية اليمن الجنوبية، إلى الموقف المعروف في مؤتمر القمة الأخير، نهاية بخطط السعودية للمستقبل في شبه الجزيرة والتي لا تبدو ممكنة بغير المخططات الإسرائيلية الراهنة .

يقول التقرير السري الخارجي الذي توزعه "الايكونومست" البريطانية على نطاق محدود في النشرة التي كان تاريخها 18 كانون الأول الماضي, أن المعارك التي نشبت في منطقة الوديعة بين السعودية وجمهورية اليمن الجنوبية، كانت أكثر عنفاً مما تصور العالم وكشفت النقاب عن أن القوات السعودية استخدمت على نطاق واسع طائرات اللايتنغ التي وفرتها لها بريطانيا في اتفاقية وقعت بين الرياض ولندن قبل أربع سنوات.

والواقع أن مشكلة الصدامات العسكرية في منطقة الوديعة تختلف كلياً عن صدامات الحدود التي تفجرت في أكثر من مكان في البلاد العربية, فالنزاع هنا ليس بالدرجة الأولى خلافاً على تخطيط الحدود أو حول السيطرة المباشرة على قيمة اقتصادية أو استراتيجية محددة, ولكنها تتعلق بمجمل الصراع ذي الطبيعة الصدامية بين النظام السعودي الرجعي وبين البؤرة الثورية الفاعلة والمؤثرة التي يمثلها وجود جمهورية اليمن الجنوبية الشعبية.

وما يجعل الصورة أكثر حدة الآن مما كانت عليه في أي وقت مضى هو مجموعة التطورات التي حدثت والآخذة في الحدوث في المنطقة:

فهزيمة الأنظمة العربية الوطنية في معركة حزيران 1967 والظروف البالغة الصعوبة التي ما تزال ـ وستظل إلى فترة طويلة نسبياً ـ تقيد حركتها وتحاصرها, وتشكل بالنسبة للنظام السعودي الذي رشح نفسه فوراً لقيادة الهجوم المعاكس على مختلف التيارات التقدمية والوطنية في المنطقة, فرصة مناسبة ـ مدعمة بالمصالح الاقتصادية والاستراتيجية للولايات المتحدة ـ للانقضاض من جديد ولتصفية حساباتها.
والانسحاب البريطاني من الخليج العربي، المقرر في 1971، يجعل إلحاح الظروف التي تجدها السعودية مناسبة لبسط نفوذها على الساحل الشرقي لشبه الجزيرة العربية أكثر قوة الآن مما كانت في أي وقت مضى.
ووسط ذلك كله تشكل الصفقة التسليحية التي عقدتها السعودية مع الولايات المتحدة وبريطانيا، بما قيمته 500 مليون جنيه، حافزاً يصعد بسرعة مع بداية وصول الدفعات والتجهيزات الأولى لتلك الأسلحة، الدور السعودي في منطقة شبه الجزيرة العربية، وفي المناطق المحيطة بها.
إن ما يشغل بال السعودية فوق ذلك كله ومع ذلك كله هو ما عبر عنه تقرير "الإيكونومست" السري بما يلي:
"في جمهورية اليمن الجنوبية الشعبية لا يتضح تأثير السوفييت والصينيين، وفي جمهورية اليمن يوجد تأثير سوفياتي ومصري، وفي العراق تتربع في السلطة حكومة بعثية مناهضة بعنف للملكية، وحتى في الخليج(العربي) ذاته فإن ما يسمى بـ"جبهة تحرير الخليج العربي المحتل" التي تركز مركز قيادتها في العراق لها –كما يقال- خلايا ناشطة في البحرين ".

وبغض النظر عن أسلوب الإيكونومست في وصف الأوضاع المحيطة بالسعودية، وانحياز اصطلاحاتها الوصفية لتلك الأخطار إلى الجانب السعودي، إلا أن الحقيقة هي أن السعودية لا تستطيع أن تتمدد في شبه الجزيرة العربية على فراش نظامها الرجعي الوثير، في وقت تضطرم فيه تغيرات اجتماعية وسياسية ثورية في الجنوب اليمني، وفي وقت تتصاعد فيه بإطراد الثورة المسلحة التي تقودها الجبهة الشعبية لتحرير ظفار.

ويوضح تقرير"الإيكونومست" السري هذه الحقيقة، عبر الأسلوب التالي:

"إن السعودية لا تريد أن ترى دولة عند حدودها الشرقية (في إمارات الساحل العماني) تسبب لها المتاعب، في وقت لديها ما يكفيها من هذه المتاعب في الشمال والجنوب: فاتحاد إمارات الخليج لا يشكل منافساً في نطاق القوة السياسية فحسب، بل هو يوفر أيضاً جواً ممكناً لنمو تنظيمات مضادة للملكية في أمكنة من الجزيرة العربية".

محور التخطيطات السعودية:

ذلك كله- على أي حال- يطرح واحدة من أعقد المشاكل الراهنة في الوطن العربي، وأكثرها سخونة، وموازية في جميع الأحوال مع الصراع المحوري الدائر بين العرب وإسرائيل، ومن قصر النظر بالطبع اعتبار المسألتين مقطوعتي الصلة ببعضهما.

إن حقائق الاستراتيجية السعودية (إذا جاز إعطاء الموضوع هذه الصفة، لأن الاستراتيجية هذه هي في الحقيقة استراتيجية الإمبريالية في منطقة شرق السويس) هي ذاتها التي انعكست في الصدامات المسلحة بين السعودية وجنوب اليمن في منطقة الوديعة وشرورة، وهي ذاتها التي انعكست في الدور السعودي-الإيراني (المتسق ولكن غير المنسق، إلى الآن تماماً) في تطورات قضية اتحاد إمارات الخليج العربي، بل إنها هي ذاتها التي انعكست بصورة أوضح على الموقف السعودي في مؤتمر الخرطوم (أيلول 1967) وهي التي تمتد انعكاساتها إلى أبعد من ذلك في الحقيقة:

** تمتد إلى صفقة إيرانية – سعودية، عقدت بين الأمير فهد وشاه إيران في واشنطن- بمباركة البيت الأبيض- عند زياراتهما الأخيرة للولايات المتحدة.

** تمتد أيضاً إلى تأثير متزايد نحو "توريط" العراق في المسألة الكردية.

** وتمتد أيضاً إلى محاولات ستتصاعد بإطراد "لتصفية" الوجود الثوري لجمهورية اليمن الجنوبية، ليس فقط بالعمل التآمري، ولكن بالقوة العسكرية المباشرة أيضاً.

** وتمتد أيضاً إلى إصرار سعودي- مباشر أو غير مباشر- للتنصل العملي من مسؤولية المعركة المحتدمة، بهذا القدر أو ذاك، ضد العدوان الاسرائيلي، لأن عدم حسم تلك المعركة يشكل بالنسبة للسعودية ليس فقط إذعاناً للمخططات الإمبريالية التي باتت تمثل طرفاً لا ينفصم من أطرافها، ولكن أيضاً لأن "تثبيت" الحركة الوطنية العربية في مأزقها الراهن هو فرصة سعودية ثمينة لتحقيق أهدافها التقليدية.

ما هي استراتيجية شرق السويس؟

إلا أنه قبل المضي في تحليل ذلك كله، لا بد من إلقاء نظرة موضوعية على ما يسمى اصطلاحا بالاستراتيجية الإمبريالية المقررة لشرقي السعودية في خارطة هذه الاستراتيجية، وبالتالي دورها الحالي والمحتمل في مجمل تطورات الاحداث في المنطقة.

من المعروف أنه في أواخر عام 1965 تم الاتفاق بين بريطانيا والولايات المتحدة على توحيد السياسة الاستعمارية للبلدين في قارتي آسيا وإفريقيا، وخصوصاً في البلدان العربية الغنية بالنفط، وذلك من أجل التعاون والمشاركة في أعباء الدفاع عن المصالح الأنجلو- أميركية، وفق ما صار يصطلح على تسميته باستراتيجية شرق السويس الجديدة لتحقيق هذه الاستراتيجية الموحدة؛ جندت مجموع القواعد العسكرية الأميركية لتلعب دور "الحزام" الإمبريالي:

فهنالك مجموعة قواعد بريطانية وأميريكية جديدة تم بناؤها في"جزيرة كوكوي" وفي" جزيرة ديجو جارسيا" وجزيرة"الدابرا" وجزيرة"سيشل" في المحيط الهندي. وتقع هذه القواعد في منتصف المسافة تقريباً بين القواعد البريطانية والاميريكية في سومطرة وماليزيا والفلبين وسنغافورة (في آسيا) وبين القواعد الأميركية والبريطانية في الحبشة وكينيا (شرق افريقيا).
وترتبط سلسلة القواعد هذه بسلسلة أخرى ذات أهمية خاصة من القواعد العسكرية البريطانية والأميركية، تمتد من خليج عدن ومدخل البحر الأحمر، ثم على طول ساحل عمان على المحيط الهندي وصعوداً على شواطىء الخليج العربي حتى البحرين والظهران في السعودية.
ومن الواضح أن هذا "الحزام الفرعي" من القواعد يهدف بالدرجة الأولى إلى تطويق الجزيرة العربية، مرتبطاً من ناحية أخرى بالحزام الأساسي، الممتد من شرق آسيا إلى شرق إفريقيا.
إن استراتيجية شرق السويس الجديدة، تعتمد على نقطتي ارتكاز رئيسيتين بالإضافة للمراكز البريطانية التقليدية في إفريقيا (روديسيا واتحاد جنوب إفريقيا، ومعظم مستعمراتها السابقة) وهاتان النقطتان هما:
-أولاً: اتحاد ماليزيا سابقاً (أي ماليزيا، وسنغافورة ومستعمرات بريطانيا في جزيرة سارواك وكاليمانثان صباح) وهي مناطق غنية بالمطاط والمعادن.

ثانياً: (وهي الأهم بالنسبة لمصالح الإمبريالية) المنطقة المحيطة بالخليج العربي التي كانت تسندها فيما مضى بالدرجة الأولى القاعدة البريطانية في عدن، ثم نقاط الارتكاز الملحقة بها في قطر والبحرين وأبو ظبي ودبي والشارقة.

(وهذه المنطقة تمثل موقعاً رئيسياً لامتصاص الإنتاج الصناعي البريطاني يفوق دخله 200 مليون جنيه استرليني كل عام، وينتج ثلاثة أخماس مجموع واردات بريطانيا من البترول).

الوجود الاستعماري العسكري بالجزيرة

على ضوء هذه الخطوط العريضة لاستراتيجية شرق السويس الجديدة الاستعمارية، يجدر بنا أن نلقي نظرة على التجسيد العسكري الواقعي في شبه الجزيرة العربية لهذه الاسترتيجية التي – منذ 1965- تقرر أن تتولى فيها بريطانيا دور "البوليس الاستعماري" من السويس إلى سنغافورة.

فلبريطانيا، في هذه المنطقة السلسلة التالية من القواعد:

في ظفار توجد قاعدة "حلالة" الجوية البريطانية المجهزة بقوة ضاربة من الطائرات النفاثة، والمزودة بالصواريخ ووحدات المدفعية والمشاة، وبشبكة من أجهزة الرادار ومخازن سلاح وذخيرة وقنابل نووية ومحطة لاسلكية قوية تربطها بمجموعة من القواعد في الأقاليم والمناطق الأخرى، والمهمة المركزية الراهنة لهذه القاعدة الآن هي العمل على قمع ثورة ظفار.
في عمان: ولبريطانيا فيها:
قاعدة الجوية والبحرية وفيها مخازن الذخيرة والتموين للأسطول البريطاني.
قاعدة مسقط الجوية والبحرية الصغيرة، في البلدان والمناطق المجاورة: رأس الجد، صحار، عبرى، نزوة، الفجيرة، رأس الخيمة، أم القوين، عمان، أبو ظبي، وغيرها.
قاعدة الجفير الجوية البريطانية، حيث ترابط بصفة مستمرة ثلاث حاملات طائرات، وخمس مدمرات، وست كاسحات ألغام، ووحدة من مشاة الأسطول وحاملات للجنود، ومحطة لاسلكية، كما يوجد فيها مقر المخابرات العسكرية البريطانية في الخليج العربي.
قاعدة المحرق الجوية الاستراتيجية القائمة في الجزيرة المعروفة بهذا الاسم، وهي تضم سربين من الطائرات المقاتلة (هوكر هنتر) وسرب من طائرات النقل (بيفرلي) وقوة مؤلفة من 3 آلاف جندي من المظليين، ووحدة رادار، ومحطة لاسلكية، وفرقة حراسة للقاعدة مزودة بكلاب بوليسية مدربة.
قاعدة الهملة البرية، وتقع غربي المنامة، وتضم وحدات عسكرية من سلاح المشاة والمدفعية والدبابات والمهندسين، ومحطة لاسلكي ومستودعات سلاح وذخيرة وقد استخدمت بريطانيا هذه القاعدة أثناء العدوان على مصر عام 1956. وفي عمان 1957 وضد اليمن الشمالية، وضد ثورة جنوب اليمن، وفي قمع الحركة الوطنية في البحرين عام 1965.
والجدير بالذكر أنه في عام 1967، قامت بريطانيا بتوسيع هذه القواعد الثلاث، وهيأتها بالدرجة الأولى للقدرة على استقبال وحدات الاسطول والقوة الجوية الاميركية الناشطة في المنطقة.
الدور السعودي شرق السويس

إن هذين الحزامين العسكريين اللذين تزايدت قيمتهما بعد توحيد الاستراتيجية البريطانية والأميركية شرقي السويس: "حزام سنغافورة – كينيا" وحزام "البحرين – أسمرة" لا يكتملان في الواقع تماماً إن لم يلتقيا في نقطة ارتكاز محورية وثابتة، هذه "النقطة – المفتاح" هي السعودية. فبعد هزيمتها في عدن، وقع اختيار بريطانيا على جزر البحرين كبديل لقاعدة عدن الشهيرة، ولم يكن هذا الاختيار فقط وليد "الظروف الأفضل" التي تهيؤها اتفاقيات بريطانيا مع البحرين، والمجحفة من حيث أنها تضمن النفوذ البريطاني على البحرين لمدد طويلة لا حدود زمنية لها، بل كان أيضاً نتيجة عوامل أخرى لا تقل أهمية:

موقع البحرين الاستراتيجي في مواجهة منطقة الشرق الأوسط.
موقعها في قلب منطقة النفط.
وضعها السياسي نتيجة المطالبة الإيرانية بها، والجذب السعودي لها، واللذين يجعلانها أكثر قبولاً "للتطويع" والمساومة، إلا أن البحرين لا تستطيع أن تقدم كل "مواهبها" الاستراتيجية، إن هي لم تكن مكملة- كحلقة نفوذ استعمارية مباشرة- لتلك الحلقة المركزية في السعودية.
من هنا،جاءت فكرة "الحلف الإسلامي" قبل 5 حزيران – منطلقة من السعودية، ومقترنة بشحن كميات ضخمة من السلاح البريطاني والأميركي للرياض. وفي الوقت الذي أخذت فيه بريطانيا توسع قواعدها الرئيسية الثلاث مع الولايات المتحدة – لتجعل القواعد الأميركية الكبيرة في السعودية ذات قيمة عسكرية أقوى:

اتفقت السعودية مع بريطانيا على استعارة 900 ضابط بريطاني لإنشاء شبكة جديدة للدفاع الجوي، نصبتها (ليس على شواطئ خليج العقبة)، ولكن قرب حدود اليمن.
تسلمت السعودية من الولايات المتحدة معدات للنقل العسكري، وصواريخ هوك، وطائرات نفاثة، وأجهزة رادار.
سهلت لها لندن وواشنطن استخدام جيش من المرتزقة الأجانب، ولم يعد سراً الآن أن البلد الوحيد الذي يتفوق على الكونغو في استخدام المرتزقة هو السعودية. وكيف انعكست بأن أنشأت السعودية، في فترة قصيرة نسبياً 27 قاعدة عسكرية، تتمركز على مسافة لا تتجاوز 120 كيو متراً من امتداد اليمن!
التصور الإمبريالي للحزام السعودي

كي تضع ذلك كله في سياق موحد، ينبغي أن تذكر التقييم الذي أعطاه هارولد ولسون، رئيس الوزارة البريطانية، لهذه الخارطة: "ينبغي على بريطانيا أن تبقى قوية في شرق السويس، إذ لا يمكنها أن تتخلى عن دورها العالمي في تلك المنطقة، ولا عن التزاماتها فيما وراء البحار، ولا عن الحقوق المشروعة للمصالح التقليدية".

إن حديث ولسون عن "الدور العالمي لبريطانيا" و"الالتزامات" و"الحقوق المشروعة"، يأخذ معناه وتوضيحاته مما ذكرته وثيقة صدرت عن معهد الدراسات الاستراتيجية البريطانية، عام 1966:

"... وبريطانيا ملتزمة رسمياً بالدفاع عن اتحاد الجنوب العربي وعن المحميات الخارجة عن الاتحاد المذكور، كما أنها ملتزمة رسمياً في الخليج الفارسي بالدفاع عن البحرين وقطر والفجيرة ضد أي هجوم أو عدوان، وفضلاً عن هذه الالتزامات الرسمية، فإن بريطانيا تعتبر نفسها – كما يعتبرون الكثيرون- ملتزمة أدبياً بالدفاع عن سائر دول الخليج التي ما تزال مسؤولة عن علاقاتها الخارجية.. وكل ذلك هام في تأكيد الوجود العسكري لبريطانيا في مناطق المحيط الهندي، والجنوب الشرقي لآسيا".

وتمضي الوثيقة المذكورة لتضع أصبعها على النقطة الرئيسية:

" ...ومن شأن القواعد العسكرية في شبه الجزيرة العربية والخليج الفارسي، دعم النفوذ الغربي في الشرق الأوسط، والتدخل ضد الأعمال العدوانية المحلية، بالإضافة إلى أنها تساعد على فتح الطريق الاستراتيجي إلى القواعد العسكرية البريطانية في المحيط الهندي، وجنوب شرق آسيا، للحد من التوسع الشيوعي في المنطقة، وكذلك فإن الهدف الرئيسي من وجودها هو ضمان الاستمرار في شحن بترول الشرق الأوسط، ومنع أي نزاع في المنطقة المجاورة أو القضاء عليه والمساعدة على التدخل العسكري البريطاني"!

اتفاق الأمير فهد.. والشاه

على ايقاع ذلك كله، دخل النظام السعودي إلى مرحلة ما بعد هزيمة حزيران. وعلى إيقاع ذلكله ضبط الموقف السعودي خطواته وهو يدخل إلى مؤتمر الخرطوم، وإلى المؤتمر الإسلامي، وإلى مؤتمر القمة العربي الخامس في الرباط..

وعلى ايقاع ذلك كله دخلت الأصابع السعودية لتعزف نغمتها الخاصة في جملة النغمات النشاز التي عزفها في رمضان الماضي. وعلى ايقاع ذلك كله صافح الأمير فهد، شقيق الملك فيصل شاه إيران تحت ظل نيسكون، عند زيارته الأخيرة لواشنطن، وتحادثاً – كما يقول تقرير "الإيكومونست" متحفظاً – على الشكل التالي:

"في تشرين الثاني الماضي قالت تقارير أن الأمير فهد، وزير الداخلية السعودية، عقد اجتماعاً مع شاه إيران في أميركا، وذكر أن اتفاقاً توصل له الطرفان ليوضع موضع الفعل أثر الانسحاب البريطاني (من الخليج العربي) وفي هذا الاتفاق يؤكد الشاه حقوق إيران بالبحرين، ويؤكد فيصل حقوق السعودية بواجهة البريمي. أما قطر ودبي فستنضويان تحت الحماية الإيرانية، ويدعمان مطالبها بالبحرين.

.. وفي هذا الاتفاق ستقوم السعودية وإيران بجهود للحفاظ على السلام في الخليج، وذلك عن طريق تحقيق مجالات التأثير الخاصة بهم هناك، وقد ذكر أن الشاه أكد للأمير فهد أن العراق لن يشكل تهديداً لاستقرار تلك المنطقة.. وقد قال الشاه للأمير فهد أن 16 ألفاً من الجنود العراقيين موجودون في الأردن كجزء من القوة العسكرية العربية ضد إسرائيل وأن 20 ألفاً مشغولون في الشمال ضد الثورة الكردية. وشاه إيران يقوم حالياً بتزويد الأكراد بكمية من السلاح كافية لتشكيل دولة كردية، الأمر الذي يحقق مشاكل بين إيران والأٌقلية الكردية و فيها".

ومهما يكن من أمر الفهم الخاص "الإيكونومست" إزاء القضايا التي يطرحها تقريرها السري المشار إليه، فإن الذي يهمنا هو هذا الدور المشترك، السعودي الإيراني، والذي تتضح أبعاده على ضوء ما ذكرناه عن"استراتيجية شرق السويس الجديدة" وعن الوجهة التي تأخذها التطورات، ليس بالنسبة للخطط المبيتة لساحل عمان وإماراته فحسب، ولكن أيضاً للحشود السعودية المتصاعدة ضد جنوب اليمن.

إن مجمل تلك الوقائع، يشير بصورة تتضح بازدياد إلى ذلك الحلف السري غير المكتوب، القائم عملياً بين إسرائيل والسعودية: فالمخططات السعودية هذه – التي تشكل حلقة لا تنفصم عن استراتيجية الإمبريالية في منطقة الشرق الأوسط – هي في جوهرها مخططات مكملة لتلك التي تلعبها إسرائيل، والتي تشكل بدورها حلقة لا تنفصم عن استراتيجية الإمبريالية في منطقة الشرق الأوسط.

إن السعودية، وهي تمضي في لعب حصتها من المؤامرة الكبرى، لا تتسلح فقط بمظهر شكلي خدّاع من دعم مزعوم للجبهات العربية، وللعمل الفدائي، ولكنها تتسلح بنفوذ وفره لها الصمت الرسمي العربي، بهدف عزل جمهورية اليمن الجنوبية تمهيداً لمحاولة تصفيتها، وبهدف"تسكيت" العرب- وراء ستائر مؤتمر القمة الإسلامي- عن الدور التآمري الذي تلعبه إيران لمصلحة الاستراتيجية الإمبريالية في منطقة شرق السويس.