الإثنين، كانون(۱)/ديسمبر 23، 2024

السابع عشر من تشرين: نحو حركة طلابية ثورية

متفرقات
لقد قالها الطلاب "يا بيروت شدي الحيل تنسقِّط رأس المال". تصدّع جدار البنية الطائفية في السابع عشر من تشرين الأول. كانت تلك الليلة نقطة تحول أولى لا رجعة عنها في تاريخ لبنان المعاصر. كانت شرارة تحوّل في الحسّ الطبقي المدفون تحت رمضاء الطائفية السياسية. وأمّا نقطة التحول الثانية كانت بين 20 و22 من الشهر عينه بين خطاب الأمين العام لحزب الله واستقالة الحريري من جهة والاعتداء الذي قاده المنطق الإقصائي الهمجي لشبيحة الأحزاب الطائفية من جهة أخرى. تجلّت معالم المواجهة المفتوحة بين أذرع الترهيب للدولة الطائفية الريعية وبين شعب هذه الأرض. أي أنّ تناقضات البنية باتت بينة لا تقبل التأويل: الدولة – أداة قمعية تتّكئ على عماد الهيمنة الدينية والاقتصاد التبعي مقابل شعب – أهل الأرض من المواطنين واللاجئين والعمال المهاجرين الذين قرروا الخروج عن صمتهم. أبناء شعبنا من الطلاب والشباب والعمال والعاطلين عن العمل رابطوا في الساحات رغم طبول القمع المفتوحة عليهم ليكون فعلهم إعلاناً صريحاً بأنّ المواجهة قائمة والمسؤولية تاريخية. لكنّ التاريخ صيرورة. لم ينفجر الغضب الشعبي في هذه الأيام مصادفة فقد أتى تشريننا هذا بعد سنة حافلة بالاحتجاحات، بدأت بإضراب المعلمين فحراك طلاب الجامعة اللبنانية الذي انبثق عنه  تشكيلات طلابية اتّخذت لنفسها موقع النقيض من البنية الطائفية. وقد توجت التحركات مع حراك المخيمات الفلسطينية الذي امتدّ على مدار تسعة أسابيع والذي عكّر صفو المفاهيم المعلبة للأنا والآخر في مجتمع تمزقه الهويات المجتزأة. تظاهر سكان المخيم (من الفلسطينيين والسوريين واللبنانيين) باسم العمل والعمال ضدّ البنية القانونية اللبنانية لما فيها من تكريس للريع والعنصرية والزبائنية والعزل والإقصاء. انتفضت المخيمات ضد بنية النظام القانونية تلك عينها التي تعفي أصحاب راس المال والشركات والمصارف الكبرى من الضرائب وتحرم الفقراء (بمعزل عن جنسيتهم) من الحق في العمل والسكن والطبابة. غضِبَ طلاب جامعة الفقراء فانفجر الشعب انتفاضةً ستغيّر مجرى الزمان في هذا الوطن. تصدّع جدار البنية الطائفية في السابع عشر من تشرين وبدأت معالم الحسّ الطبقي والغضب الوطني الجامع تتجلّى، مُحطّمةً ثقافة الأيقونة السياسية وهيبة الحزب الطائفي فقالها الطلاب "بدنا علم وخبز ومصنع! نحنا الشعب اللي بقرّر ولمّا بدنا منغيّر!". لقد وضعت حركتنا الطلابية في لبنان نفسها في موقعها الطبيعي كجزء من الحركة الوطنية في البلاد. وإن كانت انتفاضة ليلة 17 من تشرين نقطة تحوّل أولى في صوغ معادلة تقرير المصير في البلاد و ليلة الـ22 نقطة تحوّل ثانية في وعي الانتفاضة للتناقض الوجودي بين الإرادة الشعبية والنظام اللبناني، فصبيحةُ السادس والسابع من تشرين الثاني كانت نقطة التحول الثالثة. نقطة تحوّل لا رجعة عنها في قواعد المواجهة بين النظام والحركة الشعبية. إنّ خروج الجسد الطلابي ككتلة متراصّة إلى الشارع في السادس من الشهر الجاري لهو انتفاضة تولد من رحم الانتفاضة.إنّ تحرّكَ الجسد الطلابي حصنٌ معنوي وفكري منيع للخطاب الجماهيري في الميدان. فمن شأن ولوج شخص الطالب في الشأن العام وبالتالي تبنيه لوجوده كفاعل سياسي، أن يقي وعي الشعب السياسي التحرّري من مغبّة الانكماش الذاتي أو التراجع أو الوهن. أي أنه لا مجال لسيناريو "التداعي السياسي" الآن، ولا مجال للمساومة مع بنيان النظام القائم الآن خاصّة بعد مأثرة طلاب الجامعة اللبنانية في السابع من تشرين الثاني، حيث أعلنت التشكيلات الطلابية المستقلة في الجامعة اللبنانية تمرّدها على مجالس طلاب الفروع – رموز إرهاب الدولة ضمن بنيان الجامعة اللبنانية القائم، الذي حول المؤسسة إلى آلة تجهيل ممنهج لإعادة إنتاج الطغمة السياسية والاقتصادية الحاكمة إداريّاً، ولتكريس ثقافة التطبيع والمطاوعة شعبيّاً. لا يقلّ الفعل الذي حرّر صرح الحدث من صمته في السابع من الشهر الجاري عن فتح ميداني ينتظر جلاءً فكريّاً أكثر جموحاً في جذريّته لكي ننتقل من مرحلة الحس الوطنيوالطبقي إلى فضاء الوعي الطبقي والوطني الجماهيري. خلاصةً، فقد وضعت حركتنا الطلابية في لبنان نفسها في موقعها الطبيعي كجزء من الحركة الوطنية في البلاد. أي أنّنا قد أعلنا مواجهة واقع مؤلّف من حقيقتين، الأولى هي البنيان التابع لأنظمتنا الرجعية والثانية فهي الراهنية الإستعمارية المتمثلة بالكيان الصهيوني التوسعي القاضم للأرض والأنهار والذي يتوغّل في بنياننا الاقتصادي على صيغة شركات عالمية. إن استمرارية هذا الواقع تُحتّم علينا جملة من المهام تتمثل بـالآتي: أوّلاً، ضرورة نشر وعي نقيض للنظام من جهة ولحالة الاعتراض الليبرالي من جهةٍ أخرى. على الوعي الطلابي النقيض مواجهة استفحال منطق منظمات المجتمع المدني المدعومة من الخارج والطروحات المطلبية المجتزأة والمهادنة للمنطق "الدستوري" الراهن. فمن غير المقبول أن نطوّع خطاب انتفاضتنا لـ"إصلاحات" متناثرة أو "تعديلات" قانونية لمنظومة آسنة في الجوهر. كأن نطالب بـ"تعديل قانون الضرائب أو العمل" بدلاً من أن نركّز على إلغاء المنظومة الضريبية نحو نظام جديد يرتكز على شطب الدين العام  وتأميم المصارف وإلغاء الضريبة غير المباشرة نحو اقتطاعات جبرية لذوي الشركات الكبرى واستعادة المال من الأوليغارشية الـ"وطنية". من غير المقبول أن نذعن لمنطق "التعديات" ضمن بنية السوق القائمة دون أن نعلّي الصوت ضدّ التمدد الإستعماري الجديد للشركات متعددة الجنسيات التي توفر فرص عمل منتجة للاستهلاك والتبعية لاقتصادات الخارج. من غير المقبول أن يسقط لنا جرحى وشهداء وأن تُحرق خيامنا ويُضرب شبابنا وشيوخنا في رياض الصلح والزيتونة وصيدا وكفررمان والنبطية وجونية وجل الديب وقبلهم في مخيم المية ومية ونهر البارد وعين الحلوة بأسلحة تستوردها سلطتنا الرجعية الطائفية من سوق السلاح العالمي الذي يتمول من السيولة الناتجة عن استهلاكنا لسلع الشركات العالمية مثل"نتسلة وبوما وباتشي وجي فور أس وزارا وأيشتي... إلخ". من غير المقبول أن نُضرب حدّ الإدماء تحت هراوات مكافحة الشغب وبنادق العساكر المستوردة دون أن نلحّ على فرض سياسة حمائية قاسية تكفّ عنّا بطش الدولة الفاشلة من جهة، وارهاب الدول العالمية وثقافاتها الاستعمارية من جهة أخرى.  ثانياً، ذلك الوعي يتطلب إسنادَ أمر قيادة الحركة الجماهيرية الطلابية إلى مساحات الإنتاجالمعرفي الجماهيرية المفتوحة، حيث من الممكن بلورة كوادر فكرية ثورية مُخوّلة تنظيم حركة حزبية سياسية راديكالية تنشط فكريّاً ضمن منطق جدلي يصل حركة التحرّر الوطني بالمواجهة الطاحنة ضدّ النظام اللبناني التبعي نحو العدالة الاجتماعية. وذلك لا يتحقّق إلّا بتكثيف الجهود نحو مأسسة مدرسة ميدانية ثورية ترتكز على مفهوم الإنتاج المعرفي الشعبي- الجماهيري المنظم. ثالثاً، ذلك يؤدي بنا إلى ضرورة النضال ضدّ الإستيراد المعرفي فيما يخص المساحة الأيديولوجية الثورية، وذلك من خلال نقض النهج "اللاسياسي" ونهج "الخندقة" السياسية الفكرية التي تستمد غذاءَها الفكري من استفحال أنماط الاستهلاك المعرفي الغربي والإعلام التبعي متعدّد الأقطاب. ذلك يستتبع وجوب بلورة منهجيات علمية وطنية تحررية من خلال استنهاض أدبيات الفكر التحرري العربي (وغيره من أدبيات عالم الجنوب)، ونقضه ضمن قراءة تحررية لتاريخ الوطن العربي بالمجمل والقطري اللبناني على وجه الخصوص. فمن غير المسموح أن نحرّر جامعتنا الوطنية من الطائفية السياسية لنجدها جامعة منتجة ضمن منطق تبعي وفقاً لمعايير الاستلاب الأكاديمي الأجنبي سواءً على مستوى المنهاج أو التخطيط البحثي والإنمائي. رابعاً، وفي هذا المضمار نصل إلى ضرورة نسج العلاقة بين طلاب الجامعة الوطنية وطلاب الجامعات الخاصة على أساس نظرة تضع نصب أعينها وجوب تقويض دعائم القطاع التعليمي الخاص نحو تأسيس مؤسسة تعليمية تربوية تحررية وطنية. لا يمكن مقاربة مشاغل الطلاب في القطاع التعليمي الخاص بالأزمة الوجودية المتعلقة بالجامعة اللبنانية. إن القطاعين  كيانان نقيضانشكلاً ومضموناً على كافة الأصعدة إداريّاً وماليّاً وزبائنيّاً ومعرفيّاً. وإنّ مؤشر رخاء قطاع التعليم العالي الخاص لهو مقرون بديهيّاً بعلاقة عكسية مع تطوّر مقومات الجامعة اللبنانية معرفيّاً وزيادة الحرية والرخاء الطلابي فيها. نشير إلى ذلك لنقول صراحةً أنّ اتحاد الجسد الطلابي في لبنان لا بد ألّا يهدف إلّا إلى انشاء اتحاد طلابي وطني عام يأخذ على عاتقه على المدى الطويل تأميم قطاع التعليم العالي ككل نحو تثوير قطاع الإنتاج المعرفي في معركة ضروس ستُشحذ لها العيون، لكنّ لا مفر من خوضها. أخيراً، لابدّ أن تعمد حركتنا الطلابية إلى تعبيد الطريق نحو هندسة هوية إقليمية تمكنها من إنشاء أطر طلابية تضامنية فاعلة على امتداد الوطن العربي والعالم، نحو تحطيم المنهجيات القطرية والإقليمية، وخلق منهجيات وحدوية ما سينعكس إيجاباً على تسييس الحركات الحقوقية التضامنية التي طالما احتكرتها أسواق المنظمات غير الحكومية وتابعيتها الغربية. محليّاً، هذا يحتم التشديد على الهوية الطبقية للحركة الطلابية وذلك يستوجب إعادة صقل الخطاب الطبقي الوحدوي العابر للمواقع والتصنيفات القانونية (مواطن ، لاجئ، نازح، مقيم غير قانوني إلخ...) والنضال الفعلي ضد عمليات العزل والإحتواء الجغرافي المناطقي التي تنتهجها الدولة اللبنانية لترويض المزاج العام وتطبيع منطق التفرقة والإقصاء على حساب عملية الوحدة الجماهيرية الطبقية التي تبلورت اليوم بشعار "يا شعبي لازم تعرف، أكبر حرامي المصرف". في السابع عشر من تشرين الأول عام 1973 التجأت مجموعة "تشي غيفارا" بقيادة علي شعيب ورفاقه الستة من اللبنانيين والفلسطينيين الشيوعيين إلى بيوت مخيم صبرا وشاتيلا وباتوا بين أسرّة الفدائيين قليلاً قبل أن يذهبوا لينفذوا أكبر عملية سطو مسلح على مصرف في تاريخ لبنان. في الثامن عشر من تشرين وقف علي أمام الرهائن قائلا "لا تخافوا فالعملية لا تستهدفكم وليست للسلب.... نحن هنا لأنّ الثورة هي حمل السلاح ضد نظام الـ 4 % .... وديمقراطية الـ 4% وتشريع الـ 4% وعدالة الـ 4%..." استشهد منفذو العملية ولكن ها نحن هنا بعد 46 سنة بالضبط! ننتفض ضدّ الـ 1% ومصارفهم. كثيرةٌ هي مهامنا وكُثرٌ هم أعداؤنا في معركة التحرر الوطني والعدالة الاجتماعية، لكن الأزمة لن تُفرج بسهولة بعد أن استفحلت حلقاتها. إنّها المرة الأولى منذ مجموعة غيفارا التي تجد فيها الطغمة السياسية والاقتصادية اللبنانية نفسها في مواجهة شارع يريد استئصالها ونسف الأسس التي قامت عليها. إنها مغامرة وجودية كبرى تتحدّى مفهوم الدولة اللبنانية وتاريخها ومستقبلها. ولأنّ الأعداء كثرٌ والشارع أسرع في مشاعره من قدرتنا التنظيمية كطلاب، علينا أن نكون واقعيين والواقعية هي أن لا نطلب أقل من المستحيل لأنّالمواجهة قائمة والمسؤولية تاريخية.