استخَفّوا بالشعب، فانفجرت الانتفاضة الشاملة
لم تكن انتفاضة شعبنا الرائعة وليدة الساعة. وهي ليست فشة خلق عابرة ولا هي بدفع من زعيم سلطوي لطائفة أو مذهب. إنها انتفاضة شعبية عابرة للطوائف والمناطق. وهي نقيض سلطة التحاصص الطائفي التي لم تنجح في تحويلها إلى صراع طائفي. فالشعارات والمطالب التي ترفعها الحشود الهادرة في الساحات والشوارع في جميع المناطق اللبنانية، متماثلة وواحدة: إسقاط النظام وإسقاط السلطة، محاسبة الفاسدين سارقي مال الشعب واستعادة المال المنهوب، رفض أي ضريبة على الطبقات الشعبية وفقراء لبنان ورفض الطائفية،... وتميّزت المطالب بصرخة الشباب المدوّية لضيق فرص العمل، ولعدم شمول الضمانات الصحيّة كل اللبنانيين. وقد عبّرت مئات ألوف المنتفضين بل التظاهرات المليونية، عن وجعها وغضبها على السلطة القائمة، وسياساتها المعتمدة منذ 30 سنة. وقالت بكل وضوح انها لم تعد تثق بالطبقة السلطوية وممارساتها وتوافقاتها، التي أوصلت البلاد والشعب إلى حالة الانهيار. لذلك رفضت الحشود الضخمة ما يُسمّى بورقة الإصلاح التي أقرّتها الحكومة، والتي رغم أن إقرارها تحت ضغط هذه الانتفاضة، يظهر قدرة الشعب ودوره، فإنّ الناس ذاقت مرارة التجربة الطويلة مع الطبقة السلطوية ووعودها التخديرية. لذلك تستمر المواجهة بين الشعب وحقوقه ومصالحه من جهة، وبين الطبقة السلطوية وزعاماتها ومصالحهم من جهة أخرى. وما دامت طبيعة السلطة السياسية هي هي، فلا خروج للبلاد من المأزق والانحدار إلى عمق الهاوية، ولا استعادة لمصداقية فقدتها.
فمعالجة العجز السنوي المتزايد في موازنة الدولة، لا يمكن أن تستقيم إلّا باستعادة المال المنهوب الذي يتجاوز الثلاثمائة وعشرين مليار دولار إن لم يكن اكثر، وفق معلومات مصادر أوروبية، وبوقف الهدر ونمط الصفقات والتحاصص.
لقد وصلوا في ممارساتهم البشعة إلى تشويه السياسة والعمل السياسي، وجعلوا الناس تنقم على أحزابهم أيضاً، بوصفها أحزاب طوائف وسلطة، وهي ليست أحزاب وطن وشعب . لكل ذلك جرى الانفجار الشعبي متجليّاً في هذه الانتفاضة التاريخية، التي لم تكن منفصلة عن المسار الطويل لتحركات ونضالات قام بها جماهير شعبنا وكان الشيوعيون في صفوفها الأمامية. من تظاهرة إسقاط النظام الطائفي، إلى هيئة التنسيق النقابية، إلى تظاهرات الأول من أيار وأثناء بحث وإقرار موازنة 2019، وغيرها. وقد أسهمت كلها إلى جانب أشكال أخرى، كالندوات والاعتصامات والاحتفالات الجماهيرية، في عملية تراكم الوعي، وكشف ممارسات السلطة وفسادها ونظامها الطائفي العاجز. فتنامي هذا الوعي من جهة، والضائقة المعيشية وبطالة الشباب من جهة ثانية، ومحاولات السلطة فرض ضرائب جديدة على الطبقات الشعبية، أدّى إلى انفجار الغضب الشامل، بانتفاضة لم يسبق أن جرى في ضخامتها في تاريخ لبنان. لذلك رأى الشيوعيون أنّ الاحتفال بالعيد الـ95 لتأسيس حزبهم، هو في مواقع النضال، في الشارع مع شعبنا، الذي ناضل هذا الحزب طيلة السنوات التسعين من أجل حقوقه وقضاياه. فمسيرة هذا الحزب وتضحياته التي يعتز بها الشيوعيون، هي من عوامل انتفاضة شعبنا، ولتحقيق مطامحه في إقامة دولة وطنية ديمقراطية حديثة، دولة المواطنة والعدالة الاجتماعية المنفتحة على أفق اشتراكي، بديلاً للدولة الطائفية، دولة المصارف وحيتان المال وزعامات الطوائف.
إنّ هذا الانفجار الشعبي الكبير، وشموله كل المناطق اللبنانية، قد فاجأ الطبقة السلطوية وزعاماتها. فكانوا يستخفون بدور الشعب، ويستعظمون قدرتهم في لجم أو تكبيل اكثريته الساحقة، بالطائفية، والخدمات الفردية والتبعية لهم، وبدور عصا السلطة، لكن رغم تأثير ذلك، فقد أظهرت هذه الانتفاضة جرأة الجماهير وكسر حاجز الخوف. فالساحات والشوارع هي للشعب الذي سيخيف، من الآن وصاعداً، الطبقة السلطوية وفسادها. فالشعب الذي أوصلها إلى السلطة، هو الأقدر على محاسبتها. فالقمع والعنف الوحشي الذي مارسته أدوات السلطة مساء الجمعة 18 تشرين الأول/ أكتوبر في ساحة رياض الصلح، لم يرهب الناس. فكان الرد عليه بحشد مليوني في يومي السبت والأحد وبالحشود الضخمة نهار الاثنين. وبدون إحداث تغيير على صعيد السلطة السياسية، باستبدال حكومة الفساد بحكومة انتقالية تجري انتخابات برلمانية جديدة خلال أشهر وفق قانون انتخاب نسبي وفي الدائرة الوطنية وخارج القيد الطائفي، ستستمر المواجهة ويتواصل الصراع بأشكاله المختلفة. فالتغيير على صعيد السلطة السياسية، هو الطريق الأسلم لولوج مسار إصلاح جدي سياسيّاً واقتصاديّاً واجتماعيّاً، لأنّ الانسداد ومنع حركة التطور والتغيير الطبيعي يؤدي إلى انفجار الشعب بقوة أكبر.
لقد حرّكت القضية الاجتماعية – الاقتصادية شعبنا فانتفض، وأظهرت أنّها أساس وحدة التحرك الشعبي ووحدة الهوية الوطنية، وأنّ الشرعية هي الشرعية الشعبية التي تجلّت في الشارع. وأنّ الشعب قادر على صنع التغيير.