الخميس، نيسان/أبريل 25، 2024

موقف الحزب الشيوعي اللبناني من مشروع موازنة عام 2022

  المكتب السياسي للحزب الشيوعي اللبناني
بيانات
تعتبر الموازنة على المستوى الوطني الإطار الأهم والأشمل الذي يترجم التوجهات العامة والتفصيلية للسياسات الحكومية في المجالين الاقتصادي والاجتماعي. وفي ظلّ المعطى السياسي القائم، لم يكن الحزب الشيوعي اللبناني يتوقّع أن يأتي مشروع موازنة عام 2022 أقل سوءا مما ورد في المسودّة التي وزّعت للنقاش على أعضاء الحكومة الميقاتية. فهذه الحكومة هي، بحسب ما أكّدته وتؤكده الأحداث، الإبنة الشرعية لأحدث صيغ النظام الطبقي/الطائفي، أي للنمط الاقتصادي الريعي الذي أبصر النور غداة اتفاق الطائف كترجمة لتحالف هجين بين أركان البورجوازية اللبنانية وما أفرزته الحرب الأهلية من قوى سلطوية طائفية. وإذ يتحمّل هذا النمط السياسي-الأقتصادي مسؤولية الانهيار الاقتصادي والمالي في البلاد، فإن ما يصدر عنه من مشاريع موازنات لا مجال إلّا أن يثير الريبة والشكّ والحذر. وبالتالي فان المبتغى من تقييمنا لجوهر مشروع موازنة عام 2022، لا يكمن في عقد آمال كاذبة على إمكان تحسين هذا المشروع، بل التأكيد مجدّدا على موقفنا الثابت والذي ما برحنا نعلنه منذ انتفاضة أوكتوبر 2019: الحلّ الفعلي لا يكون إلّا بإسقاط هذا النمط الاقتصادي الريعي والنظام الطائفي الحاضن له وإنضاج بناء البديل الذي يجسّده قيام الدولة العلمانية.

     

صدر مشروع موازنة عام 2022 بعد طول إنتظار وبعد تجاوز متكرّر للمهل الدستورية، وهو  يعاني من التجزئة وعدم الشمول، وينضح بمخالفات قانونية ودستورية فاقعة، ولا يرتبط بأيّ خطة للتغيير والنهوض الاقتصادي. وهو يمضي قدما - من منطلقات نيوليبرالية متخلّفة وبائسة - نحو ترسيخ سياسات التقشّف - وكمؤشر على ذلك زيادة الواردات بنسبة 191% في مقابل زيادة النفقات بنسبة 176% عن موازنة 2021 في ظل ركود اقتصادي هو الأعمق في العالم -  التي تستهدف في الأساس القوة الشرائية والأحوال المعيشية للعمال والأجراء وشرائح واسعة من الموظفين والمتعطلينعن العمل والطبقة الوسطى، مع تجاهل أو تجهيل فاضح للأطراف السياسية والطبقية التي تسبّبت بالانهيار الاقتصادي والمالي والتي لم تتوقّف بعد هذا الانهيار ، من تعمّد ممارسة سياسة "السقوط الحرّ" في محاولة للاستفادة من تفاقم تداعياته على حساب وجع اللبنانيين وجوعهم وافتقادهم الى الدواء والخدمات الصحية والتربوية. وفي نظر الحزب، تعتبر هذه السياسات التقشّفية تمهيدا من جانب القوى الحاكمة للتفاوض وبالتالي التجاوب مع طروحات صندوق النقد الدولي وما يسمى "الجهات المانحة"، وهذا ما يفسّر استعجال إصدار مشروع الموازنة عشية بدء المفاوضات مع الصندوق. 

على صعيد الايرادات العامة الواردة في مشروع الموازنة، يظهر التحليل استمرار تعامل الطغمة الحاكمة بمنطق طبقي شرس وإنتقائي وغير عادل، مع إنصياع كامل لضغط ومصالح رأس المال المالي والمصرفي والريعي الذي يتحكم بصوغ السياسات الاقتصادية والمالية في لبنان. ففي باب ايرادات الموازنة يلاحظ أن أكثر من 90 مادة من مجموع مواده البالغ 139 مادة يتعلّق إمّا بإدخال زيادات على الضرائب المعمول بها أو بإدخال تعديلات تراجعية عليها. ويتبيّن بصورة فاقعة أن الرسوم الداخلية قد زادت نحو خمسة أضعاف، والرسوم على التجارة والمبادلات الخارجية نحو سبعة أضعاف، ومن ضمنها رسم جمركي بنسبة 10% على المستوردات التي لا يصنّع مثيل لها في لبنان. كذلك ارتفعت الرسوم على العائدات والمبيعات الادارية، ومن ضمنها رسم الطابع المالي، أكثر من أربعة أضعاف ونصف. كما استحدثت الموازنة مجموعة رسوم بالدولار الحقيقي على بعض أنواع الخدمات (السفر والمطار وبعض مصاريف السفارات والقنصليات)، مع العلم أن مئات ألوف اللبنانيين من الشرائح الاجتماعية كافة باتوا معنيين في بلاد الانتشار بهذا النوع من الرسوم. كما زادت مجمل مداخيل الضرائب على الأجور بنسبة 186 بالمائة بينما زادت الضرائب على الأرباح بمقدار 98% عن موازنة 2021 مما يحمل الأجور والرواتب أعباء أكبر بكثير من الأرباح في وقت تراجعت فيها القيم الحقيقية للاجور بشكل كبير منذ بداية الأزمة. ويجب أن نشدّد على أن الرسوم والضرائب التي شهدت ارتفاعات كبيرة هي كلّها من النوع غير المباشر أي الذي يقع عبئها الأساسي على العمال والفئات المتوسطة والشعبية، في بلد يسجّل فيه مستوى قياسي من تركّز الدخل والثروة وأعلى مؤشرات عدم العدالة وعدم المساواة في المقارنات الدولية كافة.  

وهذه الاتجاهات السلبية على صعيد الايرادات قد تكون مرشّحة للمزيد من التفاقم في ضوء التطور المستقبلي لأسعار صرف الليرة اللبنانية التي لم يشر مشروع الموازنة صراحة الى توقّعات محدّدة بشأنها، بل هو أبقى الباب مفتوحا على وسعه أمام استمرار تعدّدية هذه الأسعار، بما يرسّخ عمليا مخاطر صيغ الهيركات الجاري تنفيذها راهنا، ويخدم بالتالي مصالح تحالف أصحاب المصارف وكبار المتنفّذين في السلطة على حساب الأكثرية الساحقة من اللبنانيين.. وما يطرح الكثير من التساؤلات أن مشروع الموازنة، وبشكل مخالف للدستور، قد ترك قرار البتّ بسعر الصرف – "تبعا لتطوّر الظروف مستقبلا" – في أيدي وزير المال (وتبعا حاكم مصرف لبنان)، وهذا ما ينطبق على تحديد قيمة الدولار الجمركي وقيمة المعدلات والشطور المتعلقة بضريبة الدخل فضلا عن أنواع أخرى من الرسوم. وقد تكون بدعة تخصيص وزير المال بهذه الصلاحية الاستثنائية، "بروفة" أو مقدّمة لإرساء قاعدة المثالثة في نظام ما بعد الطائف.

وفي مواجهة هذه الاتجاهات الناظمة للإيرادات العامة في مشروع الموازنة، يشدّد الحزب على ضرورة فرض سياسة ضريبية اصلاحية حقيقية تؤدي الى زيادة كبيرة في واردات الدولة، عبر رفع معدل الضريبة على شركات الأموال الى 30% (التي ابقتها الموازنة على معدل 17% على الرغم من الدعوات العالمية لزيادتها في كل الدول كمؤشر على نهاية الحقبة النيوليبرالية)  وزيادة الضريبة بشكل تصاعدي على الفوائد المصرفية وصولا الى 15%، واستحداث ضريبة 2% على الثروة الصافية للافراد فوق المليون دولار، فضلا عن تعديل مجمل عناصر ضريبة الأنتقال لتصبح ذات معدل مسطح بمعدّل 45% مع اعفاء يبلغ مليون دولار، والغاء ألأعفاءات الضريبية للمؤسسات الدينية وأصحاب النفوذ وشركات الهولدينغ وشركة سوليدير وكذلك "الأعفاءات ألتأجيرية" الممنوحة للكثير من مستخدمي املاك الدولة.

وعلى صعيد النفقات العامة، يبرز أيضا العديد من الاختلالات التي توازي وتدعم اختلالات بنية الضرائب والإيرادات العامة. فمشروع الحكومة يكاد يسقط بضربة واحدة الجزء الثاني من الموازنة المتعلق بالإنفاق الاستثماري والمتمثّل أساسا في القوانين البرامج التي جرى تأجيلها بشكل منهجي، فضلا عن التجاهل التام لمتطلبات إصلاح منشآت قطاع الطاقة والكهرباء تحديدا. كما يسرّع هذا المشروع الخطى بوضوح نحو التفريغ التدريجي للقطاع العام من موظفيه النظاميين استكمالا لإنهاء ما تبقّى من الأرث الشهابي التحديثي لصالح ألأدارة التعاقدية الزبائنية التي تتحكم بها الأحزاب الطائفية الحاكمة بمافي ذلك تعديل نظام التقاعد وتخفيض معاشات التقاعد والخدمات الصحية والاستشفائية. ولا يشير مشروع الموازنة بكلمة واحدة الى التوظيف العشوائي ومغارات الشراء العام والمجالس والصناديق والمؤسسات العامة والمصالح المستقلة التي استوطن فيها الفساد وقلّة الانتاجية وعلاقات الخضوع والاستزلام والمحاباة لصالح أطراف السلطة المتنفّذة. وهو بذلك لم يلتزم بأيّ من وعود الإصلاح التي إعتاد أن يكرّرها مؤخّرا على هذا الصعيد سواء أمام اللبنانيين أو أمام "الدول المانحة". والأخطر من ذلك، أن المشروع يتجاهل بصورة شبه كاملة المقومات الأساسية للوظيفة العامة وللعمل المأجور عموما، أي نظام الأجور والتقديمات الاجتماعية، خصوصا في حقبة ما بعد الوقف العشوائي والمرتجل للدعم وتحرير الأسعار. وهو لم يتضمّن صراحة أي تصحيح نظامي للأجور في القطاع العام وكذلك في القطاع الخاص، واستعاض عنه بتوزيع فتات من المساعدات الاجتماعية للعاملين في الادارة العامة تقدّر بأجر شهر من خارج الراتب الأساسي كل شهر وبنصف راتب للمتقاعدين، تاركا أجراء القطاع الخاص يتدبّرون أحوالهم بحسب مشيئة واستعدادات أصحاب العمل. والى ذلك، سقط من مشروع الموازنة كل ما روّجت له القوى المتنفّذة بشأن توفير أدوية الأمراض المستعصية والتغطية الصحية والحماية الأجتماعية وتحسين نوعية التعليم الرسمي العام والعالي وتوفير الكهرباء وتخفيض تكاليف النقل. 

هناك قضايا مصيرية أخرى تجاهلها مشروع الموازنة، حيث مرّ مرور الكرام حول العديد من القضايا التي تؤثّر بشكل مباشر بل حاسم في حاضر ومستقبل الأحوال المعيشية للبنانيين، ومن ضمنها: قضية تحفيز النشاط الاقتصادي واستعادة النمو الاقتصادي والحدّ من البطالة والهجرة، وقضية معالجة تبعات الإفلاس الفعلي للقطاع المصرفي وبالتالي الحاجة الماسّة الى إعادة هيكلته حفاظا على ما تبقّى من ادخارات وودائع للبنانيين، وقضية التوزيع العادل للخسائركبديل لصيغ الهيركات الموغلة في توحّشها والتي يجري فرضها راهنا في اطار سياسة "السقوط الحرّ" المقصودة، وقضية الشروع في تفكيك الاحتكارات، فضلا عن مصير صناديق التأمينات الاجتماعية والتقاعد، لا سيما الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي. 

ان الحزب الشيوعي اللبناني يحذّر من توظيف هذه المخاطر والتحدّيات لفرض مناخ عام يضعف الموقف التفاوضي للطرف اللبناني في مواجهة شروط صندوق النقد الدولي و"الدول المانحة" التي تدفع في اتجاه تحميل العمال والموظفين والفقراء وأصحاب الدخل المحدود تبعات سياسات تقشّفية صارمة، تترافق مع تقاسم هذه الدول لثمار مشاريع الخصخصة وتشركة مؤسسات القطاع العام. ان الردّ على هذه الهجمة السلطوية الجائرة يجب ان يكون بتجميع القوى الديمراطية والعلمانية وتصعيد المواجهة والتحركات الشعبية والنقابية لدرء الخطر الداهم على الدولة والاقتصاد والمجتمع، وبناء ميزان القوى الذي يسمح بالانتقال الى الدولة المدنية العلمانية على أنقاض الدولة الطائفية. 

بيروت في 28-1-2022                                                          المكتب السياسي

                                                                                للحزب الشيوعي اللبناني