الجمعة، آذار/مارس 29، 2024

المواجهة... في وضح النهار

  د. حسن خليل
أخبار الحزب
لم تستطع التركيبة الهجينة للكيان اللبناني، والذي رُكّب على عجل، من جعله دولة تتمتع بأبسط شروطها. فبعد مئة عام على التأسيس، لا يزال هذا الكيان يبحث عن هويته. لقد التبس على أصحابه بأيّ لغة سيتكلّمون؛ لقد كان الدم حدّ الغرب من الشرق، من الحروب الصليبية وصولاً إلى الانتداب (الاستعمار)، والذي رسم مصالح مختلف الأطراف، من خلال التفتيش عن كيانات تتقاطع ومصالح السيطرة القادمة إلى الشرق، إلّا أنّ الطرف الأساس، والذي هو الشعب، المركّب من مذاهب لها وظائفها وأدوارها، والذي حُشر في مساحة من الجغرافيا مقتطعة من ولايات وولاءات عدّة، ضاع بين هويتين: واحدة تنحو به شرقاً، حيث العمق الاستراتيجي والتاريخي والحضاري، وأخرى غرباً تقليداً وافتعالاً وتماشياً.

وعلى تناقضات تلك الحدود ضاعت الهوية وفُقدت، وما زاد في التباسها التباساً، ظهور الوباء القادم من «سايكس ـــــ بيكو»، الذي أوجد الكيان المصطنع في فلسطين المسلوبة، وامتداداته إلى دول الجوار، ولبنان من ضمنها، بما يحمله معه من وظائف تتخطّى كثيراً فكرة جمع الشتات المزعوم.


ونحن نحمل ذلك الإرث الملتبس، الذي كلّفنا حروباً ومشاكل وتقسيماً، ضاعت مهمّة بناء الدولة القادرة ـــــ كمسار إلزامي وعنوان للتحرّر ـــــ ما بين منسوب من تبعية فاق القدرات المحلية، ربطاً بتأمين المصالح ليتخطاها حدّ لعب دور وظيفي في منظومة سياسية عابرة للحدود، وبين خيارات بديلة كانت بطبيعتها تراوح بين تقليد قائم على توارث، ومستجد كان مستوى ولائه الخارجي أكبر من قدراته الذاتية، ما جعله، بدوره، معطّلاً ومستلباً. بين هذين الحدّين، لم يتبلور خيار يتمتع بديناميات تجعله مبادراً وصانعاً للأحداث. على أساس هذه المعضلة، بشقّيها الخارجي والداخلي، كانت الأوضاع تنتقل من موقعة إلى أخرى، ليخرج البلد بعد كل جولة أكثر وضوحاً في التباسه، وقواه الحاكمة أكثر التصاقاً بولاءاتها، وتُعبّر عن ذلك من كيس مصلحة الشعب اللبناني، والذي كان على الدوام، وفي كل الأحوال، من يدفع الثمن.
إنّ الدور الوظيفي للنظام السياسي الحاكم في لبنان، جعله دوماً في أزمة؛ فالطبيعة المذهبية لمكوّناته فرضت عليها عدم الثبات على قبلة واحدة. بالإضافة إلى الموروث، والذي هو خليط مهجّن بين برجوازيات محلّية متناسخة من إقطاعيات بائدة، ووصايات خارجية كانت دولها تتبدّل مواقعها وأدوارها في منطقتنا بحسب تطوّر المشاريع الإمبريالية فيها، كانت الانعكاسات تطاول المذهب الواحد وليس طبيعة التركيبة ودورها. فبغضّ النظر عن أي تناقض كان يحصل بين الرعاة الخارجيين، والذي كان يصل، في بعض الأحيان، إلى حدّ الاشتباك، كانت الصيغة تهتزّ لكنّها لا تقع، وأيضاً كان الحرص على المصالح المشتركة بين أفرقاء السلطة موجوداً ومصاناً ومحمياً؛ فالاختلاف لم يفسد لـ«ودّ الشراكة» قضية. ويبقى هو النظام الطائفي المتحكّم بكل شيء، يطيح بالإنجازات ويفرّط بها في دهاليز المحاصّة والزبائنية؛ فمعه كان الفقر يزداد والهجرة تتواصل، والمقاومة تصبح اتهاماً أو وجهة نظر، أو حتى موضع شبهة. هو النظام الطائفي نفسه الذي عطّل قيام «دولة»، لأن طبيعته لا تتماشى مع مكوّن كهذا؛ فالوظيفة المفترضة لجهاز الدولة وشروطها ومؤسساتها تتعارض، بالشكل والمهام، مع التركيبة «التبادلية» للمنافع القائمة بين مكوّنات المذاهب والطوائف. هذا المنع الجبري لقيام الدولة الوطنية أفقدها القدرة على خوض المواجهات بأبعادها كافّة؛ السياسية منها والاقتصادية والعسكرية، في وجه الاحتلال، كما في وجه الهيمنة والتبعية والفقر والعوز... والذي هو الوجه الثاني لنتائج الاحتلال والتفريط بمقدّرات الوطن والاستجابة لموجبات القبول بمنطق الهيمنة، كما لو أنها قدر محتوم، والتي مارسها الغرب في بلادنا وزرعها في تربة صالحة لنموّها. هو ذلك النظام السياسي نفسه المتحكّم والموازي، والذي فرض نفسه كحالة وحيدة وكأفق واحد أحد ومتاح، جُنّدت له كل الإمكانات واستُنفرت العصبيات واستُخرج التاريخ من خزائنه، كي يقيس الماضي على الحاضر ويُسقطه على نموذج هجين من تركيبة تحمل في طبيعتها أسباب انهيارها.

 


إن تلك الحيوية القائمة على الطبيعة البنيوية للنظام تجعل عملية الإصلاح تصبّ في خدمة تجميل وجهه القبيح ليس إلّا

وعليه، نرى أنّ له حيوية قادرة ـــــ بما اختزنه من إرث غني بالقتل والتنكيل ومحاكم التفتيش والثأر والدم الذي وصل إلى حدّ الركب ـــــ على هضم أي محاولة إصلاحية، مهما كانت بسيطة أو غير ذات أهمية؛ لقد تنكّر لنضالات فقراء لبنان، الذين لبّوا نداء «إلى السلاح دفاعاً عن لبنان، كل لبنان، في وجه المحتل»، فمضوا مقاتلين وشهداء وشاهدين على أنّ الحلّ ليس بالتفاوض وليس بالضعف ولا بالتبعية، بل بالمقاومة. لقد عطّل مفاعيل إسقاط اتفاق 17 أيار، وأهدر تضحيات مَن مضوا على درب ذلك المسير الخالد، من بيروت حتى الشريط الحدودي مع فلسطين المحتلة، مردّدين: «الوطن باقٍ والاحتلال حتماً إلى زوال»، ووظّفها في أتون التنكيل المذهبي والاستنفار الطائفي. أما مردود النضال، فبدل تثميره ووضعه في خرج الوطن كمفهوم جامع وفعل لتحرير، لم يأتِ إلّا بضريبة من الدم غالية، نراه يسرح بين أودية المذاهب ويغور بين فتن الكراسي ومصالح من يجلس عليها.
إن تلك الحيوية القائمة على الطبيعة البنيوية للنظام تجعل عملية الإصلاح، ومهما كانت وكان صاحبها أو مطلقها، تصبّ في خدمة تجميل وجهه القبيح ليس إلّا. لأنّ المشلكة ليست هنا؛ فما يمارسه هذا النظام، الذي صمد طويلاً وبشكل كبير، ما هو إلّا استمرار لمسار تاريخي يعود إلى قرون مضت؛ الآلية نفسها والسلوك ذاته، والوجهة صوب الغرب فقط، وعلى تلك القبلة كانت تيمّم وجهة نظر «التناقض المحلي»، والذي ما انفكّ يتوالد ويتكاثر فيصبح ثلاثيات ورباعيات وخماسيات والحبل على جرار تلك الجلجلة المتواصلة، والتي لا نهاية منظورة لها. فمن هنا، وكي لا نغوص مجدداً في وحول التاريخ والذي يزداد طميه سماكة، علينا العودة إلى واقع معيش لنرى كيف أن اجترار السلوكيات بات مترسّخاً في البناء المؤسس للنظام السياسي الحاكم في البلد وسلطاته المتعاقبة. فوجهة الغرب لمّا تزل باقية، وإن جاءت بعض نظرات «الحب الممنوع» نحو الشرق، ولو من باب «النكايات»، فهي من موجبات اصطفاف سياسي مرحلي، فرضته بعض التناقضات السياسية المرتبطة بتبدّل مواقع نفوذ أو مصالح. وعليه، يجب القول بأنّ الأزمة اليوم تعدّت أزمة النظام لتصل إلى أزمة الكيان بكلّيته.
إن تحديد بوصلة المواجهة، اليوم، ليس بهذه الصعوبة، كما يحلو للبعض تصويره؛ لا نواجه أشباحاً ولا نتمنى أوهاماً؛ فالمشروع الغربي، هو التيار الصاخب الذي ضرب شواطئنا منذ قرن من الزمن ولمّا يتوقّف بعد. الاستتباع السياسي والاقتصادي والمالي يغرف من «جاروفة» ذلك المشروع وينساق إلى شروطه. النماذج المتبعة في إدارة المال العام، أو المرافق الاقتصادية وما تلاها، ليست إلّا وصفات بائدة من نُظم عصر القنانة القائم على الخدمة والاستبداد، سواء أكانت للأسياد أو للمال. وعليه، فما نعيشه حالياً هو النتيجة الطبيعية لتلك السلوكيات، والتي لم تشهد تبدلاً منذ قرن من الزمن، ما استجد يمكن أن يكون استبدالاً للغة الفرنسية بالإنكليزية، على سبيل المثال لا الحصر. وعلى ذلك الأساس، سنقارب المسألة بوضوح: إن النموذج الاقتصادي المتّبع، والذي هو خليط بين اقتصاد عاجز عن الإنتاج بشكل فاعل، وتبعية مشروطة، وهيمنة مقصودة ومصالح طبقات رأس المال المتراكمة، مضافاً إليها حالات مذهبية متوارثة، تحمل معها سلوكيات غائرة في أزمنة متباعدة حين كان القتل فيها عادة، لتشكل مجتمعة، هذا النموذج المتخيل للنظام السياسي الحاكم، والذي يستحق عن جدارة لقب «الفريد» في نوعه.
إنّ ما يحدد نمط السياسات وآفاقها، هو نمط الإنتاج المعمول به وعلاقاته؛ فإذا كانت اليد دائماً ممدودة «للشحاذة»، فالاستتباع سيكون هو المحدّد لطبيعة النظام السياسي المتحكم، وهذا ما نحن عليه اليوم. وإذا كان بناء نظام اقتصادي بطبيعة منتجة وبقطاعات ثابتة تتحكم بها إمكانات محلية، عندها تكون طبيعة النظام السياسي أقدر على المواجهة ورفض التدخل أو الأطماع. هنا، وعلى ذلك التحديد البسيط يمكن أن تكون المقاربة أسهل وإمكانية وضعها في إطار المواجهة، أوضح وأقرب إلى تحقيق مصالح العامة من الناس والذين هم، في النهاية، من سيدفع الفاتورة، وفي الحالتين. خلاصة القول، التغيير ليس مطلوباً لإصلاح النظام القائم. فهذا النموذج له وظيفة محددة ويمثل مصالح تحالف كبير يبدأ من إرث التاريخ «المزوّر»، وصولاً إلى مصالح رأس المال، المتحكّمة فيه آليات تمتد من موقعة «عنجر» بين فخر الدين الثاني والعثمانيين إلى واشنطن مع ترامب. وتأسيساً على ذلك، فإنّ عملية المواجهة لا يمكن أن تقبل بما هو دون إسقاط النظام، وإقامة آخر بديل يمثل مصالح فئات متضرّرة من النموذج البائد ونقيضة له، وفي مثل هذه الحالة سينفك الكثير من القوى المطالبة اليوم بتغيير النظام لأن مصالح هؤلاء لن تكون مع هذا الطرح الجذري.
والاقتصاد الحر، القائم على كذبة الحريات الفردية التي يصونها الدستور وتكفلها القوانين، كما تعلّمناها في المدارس، والذي هو الناتج الطبيعي للتركيبة السياسية والمُعبّر عن حفظ مصالحها، لا يمكنه أن يستمر بطبيعته الريعية القائمة على الاستدانة من جهة، و«النهب» الموصوف من جهة أخرى؛ ولذلك فإنّ طرح مسألة تفكيك تلك المنظومة المتحالفة بشكل وثيق في ما بينها، وفك عرى مصالحها، لن يكون إلّا من خلال طرح اقتصادي آخر بديل، عماده الاستغناء عن وصفات صناديق النهب والرأسمال المعولم، وفكّ منطق التبعية وكسر الهيمنة، وإطلاق مواجهة فعلية مع الإمبريالية وأدواتها، وضرب أحادية النظرة نحو الغرب، من أجل بناء اقتصاد مع بنى منتجة في القطاعات كافّة، والتي يمكنها وحدها، أن تؤمن نوعاً من الاستقرار يترافق مع التفتيش عن أسواق على قاعدة الانفتاح والتكامل مع الجوار العربي الذي يمكن أن يشكل بديلاً ولو جزئياً، مع التأكيد بأنّ في هذا العالم أربع جهات وليست جهة واحدة. عند ذاك، سنجد من سينفك عن المطالبة بتغيير السياسات وسيعود إلى حظيرته. باختصار، الفرز لن يكون إلّا على أساس الوضوح في الموقف السياسي والاقتصادي.
فالإنتاج ووسائله ووظيفته وبناه، كما التكامل والتكافل والتضامن، كما التحرّر وفكّ الاستتباع، كما الوضوح وعدم الالتباس، هي التي يجب أن نعوّل عليها كي نبني أطرَ مواجهة حقيقية، البلد بأشدّ الحاجة إليها. وغير ذلك، ستبقى طواحين الطوائف والمذاهب تجعجع وتملأ المكان ضجيجاً يغطي على أصوات من يطالب بإسقاط النظام أو غير ذلك. فمن دون القضية الوطنية المرتبطة بالتحرّر بشقّيه السياسي والاقتصادي، لن تكون آمال الشوارع إلّا المطالبة ببعض الحقوق، وإن تمّت الاستجابة فستستكين الحناجر... وتخمد. الرؤية في وضح النهار أفضل فلا تغشيها أي ظلال أو تخيلات أو أوهام...

* عضو المكتب السياسي، مسؤول العلاقات السياسية في الحزب الشيوعي اللبناني

# موسومة تحت : :