الخميس، نيسان/أبريل 18، 2024

سيبقى حزب الفقراء ومقاومة الاحتلال

  د. حسن خليل
متفرقات
الحزب الشيوعي اللبناني في ذكراه 97...

هو ذلك المشاكس، التي جاءت ولادته على تقاطعات مفصلية، وبمستويات دولية وإقليمية ومحلية. لقد سبقته سايكس بيكو بأعوام قليلة، كما كان وهج أكتوبر يزداد تألقاً من حوله. بلد المنشأ كان في طور التكوين الملتبس؛ فقد أُعلن كبيراً وهو لم يكن إلّا في طور النشوء، وفي منطقة كانت تموجات تبدلاتها تضرب بين محيط لها وخليج، لتتمخض دولاً وممالك وإمارات، متناقضة في التكوين ومعطّلة في الوظيفة، وبكابوس بدأت إرهاصات تكوّنه تظهر في غير ناحية؛ وعدٌ مشؤوم لكيان مصطنع ومستجلب ولكن بوظيفة واضحة. وعلى تلك التقاطعات والتناقضات، جاء الأول من أيار ليؤرّخ، ومن أمام سينما الكريستال في وسط بيروت، وتحت أعين آلة الانتداب الفرنسي وقمعها، للإعلان الواضح عن وجود حزب شيوعي في لبنان، كان قد تأسس في الرابع والعشرين من تشرين الأول سنة 1924، مبصراً النور في بيت من بيوت فقراء قرية "الحدث" شمالي بيروت، وليُشكل بتأسيسه الحدث، الذي سيكون له الأثر المباشر والواضح والبصمة التي لا تمحى أو تتكرر، على مجمل الحياة السياسية والاجتماعية والثقافية... حزب للعمال والفلاحين والفقراء وذوي الدخل المحدود ولرفض الاحتلال، حزب خطّ مساراته على ركائز التحرر والتحرير كمهام نضالية، قدّم من خلالها التضحيات، ليكتمل بذلك شعار "من أجل الوطن الحر والشعب السعيد"، الذي لازم مسيرة ذلك العمر الذي ناهز اليوم القرن من الزمن.

تلك الولادة لم تكن، بطبيعة الحال، فعلاً مستجداً بل كانت تلقائية؛ فالمنطقة كانت تعبر من احتلال إلى انتداب، ومن مصير كان معلوماً، بحكم الواقع المعيش، إلى مسار لم تكن مسالكه واضحة بعد. لم تكن شعوب المنطقة ونخبها تعي خطورة ما كان يجري، بل انقسمت بين، من منّن النفس بالخلاص من وزر تاريخي، بدأ في مرج دابق وانتهى بالمشانق في وسط بيروت ودمشق، وبين من وجد في القادم الجديد أملاً لنقلة نوعية في المجتمعات وعلى أسس مختلفة، تُعطي لبلدان المنطقة استقلالها كي تقيم نظمها الوطنية ودولها. لكن الواقع المستجد عاند الحلم العربي الموحّد، بالتخلص من الإرث السابق ليسقط في فخ الأهداف المستترة للقادم من الغرب، بعد انكشاف "آفات" سايكس بيكو، فوقعت الشعوب، كما النخب، في مأزق الانتقال من احتلال إلى آخر، وضاعت الأماني في لعبة تبديل نفوذ نقل العالم إلى معادلات مختلفة. لقد تفتح، إذن، ذلك الفكر التحرري ونما بخياراته المختلفة، ليس في لبنان فقط بل في كل المنطقة؛ تصدّر المواجهة المفتوحة على كل الميادين: حمل السلاح لمقاومة قطعان المستوطنين المستوردين إلى فلسطين، ورفع راية العمال والفلاحين والفقراء الذين كانوا يشكلون أكثرية الشعب اللبناني والعربي في تلك الحقبة من التاريخ، وقد دُفعت في سبيل ذلك، ومن الدم الحي، أثمان باهظة، ولا تزال تُدفع.

اليوم، ونحن على الضفة الأخرى من المئوية الأولى، نرى بأن خطي الهيمنة ومواجهتها لم ينتهيا بعد. لقد تكفلت إمبرياليات متناسلة بتعميق مأزق العالم وتثبيت قضايا الارتهان والبؤس والبلطجة والسيطرة... وجعلها أمراً مستداماً. لقد وقعت الشعوب في مأزق التكوين المتكرر وإعادة تدوير القضايا بحيث تضمن استمرارية الفقر والبطش والصراعات والتبعية والهيمنة. لقد ضاعت أحلام البشر بين منطق الفالت وسلوك المتفلت، فتكاثرت الحروب وتنوعت أشكالها، فتنقلت، من القتل بالقنابل إلى القتل بالحصار والعقوبات والتجويع. لم تعد هناك حدود لسلطة رأس المال الذي حكم العالم بمنطقه، فازدادت معه الفروق الطبقية وتنوعت أشكال التحكم. فعالم اليوم مكلوم ببؤس القيم وانهيارها، ولن يقوى على المواجهة من دون خيارات واضحة ومشاريع سياسية نقيضة ومنحازة إلى ضحايا الرأسمالية المتوحشة. فحالة الاستباحة، التي خلفتها انهيارات التسعينيات من القرن الماضي، جعلت المنتصر يعتقد بأبدية انتصاره واستدامة مشروعه، وهذا ما حاول فرضه من خلال صوغ العالم وفق مصالحه وتوجهاته، ما أشعر فقراء العالم بذلك اليتم حين استفردت بهم إمبريالية غربية، أطاحت الحدود كاسرة حواجز البلدان وفارضة سلوكيات منحازة، جاعلة من نفسها الأفق الوحيد المتبقي أمام البشرية. هو ذلك العالم الذي يمشي اليوم على رأسه بعكس منطق التاريخ وأبجديات الإنسانية المتهالكة قيمها، عالم يمشي على رجل واحدة ومن دون عكّاز؛ فالشعوب في مهب الجوع والفقر، مسيطر عليها من منظومة رأس المال المدعومة بأساطيلها وطائراتها وحروبها، ودول قيد التكوين بنخب لا تعرف إلّا تسليم الأمر لصاحب الأمر المعروف السلوك والعنوان...

لقد سقطت البشرية في مأزق الفهم الملتبس لاتجاهات المصالح وتقاطعاتها، بين مركز وأطراف حيث أصبحت الهوة بينهما سحيقة، وميادين الاشتباك متعددة ومتقاطعة. وعليه، فإن قضية التحرر الوطني، سواء أكانت من رأسمالية متحكمة أو تبعية أو هيمنة، يجب أن تكون أساساً في منطلقات النضال القائمة على كسر ذلك البؤس المتأتي من نتائج أعمالهم، ولأّنّ التحرير الوطني والمقاومة والمواجهة، مع أي احتلال أو نقيض طبقي أو اجتماعي، هي قضايا لا تحتمل الحلول الوسط فيها وهي لا تقبل التأويل أو المناورة. فالفقر والصراع الأبدي، بين من يملك ومن يحتاج، ليست حالة عابرة بل هي في جوهر الصراع الاجتماعي وأساس تكوين المقاربات الفكرية والنضالية التي يجب أن يرتكز عليها العمل اليومي، طالما أنّ الرؤية واضحة والمجال مفتوح. هي مسيرة قرن من الزمن، جاب الحزب من خلالها الساحات والميادين، منحازاً إلى فقراء العالم ولم يقف على الحياد؛ ناصب الاحتلال والهيمنة والتبعية كلّ العداء فكان مقاوماً، قاتل الفقر والحرمان فكان مواجهاً، رفض المذهبية والطائفية والمناطقية فكان وطنياً. لم يتعب ولم يهن. فالتموضع السياسي وخطابه المعلن يجب أن يبقيا الأرضية المناسبة لخوض معاركه السياسية والطبقية في وجه جشع رأس المال وعدوانية حامله، وأيضاً الممر الإلزامي لصوغ تحالفاته والنضال من أجل عالم مختلف عن السائد ونقيض له. فإعادة الاعتبار إلى الإنسان كقيمة أساسية في هذا العالم، ليست ضرورة فحسب، بل هي قناعة وهدف، يجب الذهاب باتجاههما بكل ما نملك من قوة؛ مهمة المواجهة، مع ذلك البؤس الرأسمالي التي تجسده إمبريالية تزداد توحشاً وتوغلاً، ومع نظم سياسية تابعة، يجب أن تكون فعلاً واجباً لا لبس فيه ولا التباس ولا حياد، وهكذا فقط، تتحدد الهوية النضالية وتعدو الرؤية أكثر وضوحاً.

سيبقى ذلك الحلم متواصلاً وإن كَثُر من حوله الحاقدون، ممن يرتزقون على فتات موائد الطوائف وزعاماتها. سيبقى شوكة جارحة في حلق من يعمل في العتمة متخفياً خدمة لأسياده لقاء حفنة من أموال، فيفتري ويكذب إرضاءً لصاحب السطوة والسلطان. كلُّ هؤلاء، الذين بكّروا في الفرار من المركب، حين لاحت لهم أموال الطوائف والمذاهب والسفارات، فانبروا لتمزيق التاريخ وتشويه الحاضر للتأثير على المستقبل الآتي؛ هؤلاء صبيان الزعامات المذهبية والأجهزة، وشهاداتهم معلقة في رقابهم، يملأون الشاشات ويتكاثرون كالفطر، فلا يصدر منهم وعنهم إلّا نعيق الغربان وهي تحوم على الفتات. سيبقى ذلك الحلم عصياً عليهم، وسيكبر، وسيكون الحقيقة المستمرة التي تصدح نصرة للفقراء والمقهورين، مقاوماً وطنياً واضح الهوية والأهداف، أممياً لا تحده حدود مزارع الطوائف ولا مشاريعها، وسيبقى مناضلاً من أجل سعادة الشعوب الفقيرة قاطبة ومن أجل حرية الأوطان، شاء من شاء وأبى من أبى؛ وفي السلام ختام لمن يعي القول ويفهم المآل، لعله يعود إلى الواقع، متخففاً من فوقية أعمت بصره وبصيرته، ومن فائض قوة وتنمّر لا لزوم لهما...