الجمعة، نيسان/أبريل 19، 2024

تورط فاسدي لبنان يُوثق عالمياً بـ”تسريبات باندورا” ويُخفى محلياً بالصفقات

  كاترين ضاهر
لبنان
  ما قبل انطلاق “انتفاضة 17 أكتوبر” 2019 في لبنان، علت الأصوات المعترضة على السياسات الاقتصادية والنقدية المتبعة، مطالبة بالعدالة الضريبية، ومعرفة مصير مليارات الدولارات، واسترجاع الأموال المنهوبة المهربة إلى الخارج، وتحقيق استقلالية القضاء لمحاسبة الفاسدين المتورطين من السياسيين وأقاربهم والمصرفيين ورجال الأعمال.

أما ما ورد في تسريبات “وثائق باندورا”، وهي واحدة من أكبر التحقيقات الصحافية في تاريخ مهنة الإعلام التي سلطت الضوء على التهرب الضريبي وإخفاء الثروات والأموال في الجنات الضريبية، عبر الاستعانة بالشركات الخارجية (أوفشور) والطرق الملتوية، وكشفها أن “فاسدي لبنان الأول عالمياً في ‘الملاذات الآمنة’ للأموال المشبوهة منها وغير المشبوهة”، جاء رداً على تساؤل اللبنانيين عن مصير الأموال العامة، ومن هم المتورطون في وصول البلد إلى الانهيار الشامل.

وتصدّر لبنان لائحة عدد شركات “الأوفشور” التي تأسّست عبر شركة Trident Trust، علماً أنّ الأخيرة هي أكبر مزوّد للوثائق المسرّبة في سياق مشروع “وثائق باندورا”؛ وبالتالي رغم انهيار البلد المالي والاقتصادي حل في المرتبة الأولى بـ346 ملفاً، بعد لجوء سياسييه ومصرفييه ورجال أعماله إلى تسجيل شركاتهم في “الجنات الضريبية”، ولاسيما في شركة trident trust.

وذكرت الوثائق أسماء رئيسيّ حكومة لبنانيين، حالي وسابق، هما نجيب ميقاتي وحسان دياب، ومستشار لرئيس الجمهورية، هو النائب السابق أمل أبو زيد، ووزير سابق ورئيس حالي لمجلس إدارة مصرف، هو مروان خير الدين، وعدد من المصرفيين وغيرهم…

وأظهرت “باندورا” وقبلها وثائق سابقة في أغسطس/ آب 2020 التورط في نقل أموال خلال فترة “الكابيتال كونترول” إلى خارج لبنان، واستعمالها لشراء منازل وعقارات في بريطانيا وأمريكا وغيرها، كما هي حال مروان خير الدين، صاحب أحد المصارف اللبنانية، ومن أبرز المدافعين عن سياسات حاكم مصرف لبنان المالية؛ إذ شرع أوائل العام 2019 في تأسيس شركة في الملاذات الضريبية ليشتري عبرها يختاً بقيمة 2 مليون دولار، ومنزلاً في نيويورك بقيمة 9 ملايين دولار من نجمة هوليوود جينيفر لورانس، وذلك قبل “الكابيتال كونترول” بقليل، وتزامناً مع دعواته اللبنانيين إلى عدم الخوف على ودائعهم.

حاكم مصرف لبنان..تهم فساد تنتظر

ولفضائح تورط حاكم مصرف لبنان رياض سلامة الحصة الكبرى في “وثائق باندورا”، وسبقتها وثائق “سويس ليكس” و”بنما”.

وكشفت تسريبات “باندورا” شبكة الشركات التي أسسها سلامة على مدى أكثر من 20 عاماً، ليدير ثروة تجاوزت قيمتها مئات ملايين الدولارات على أقل تقدير؛ وأبرز شركاته AMANIOR التي أسسها عام 2007، أي بعد نحو 14 عاماً على تسلمه مهمة الحاكمية، ويشغل منصب المدير فيها؛ والثانية هي Toscana المملوكة من ابنه نادي، إضافة إلى شركة Forry Associates Limited التي يمتلك شقيقه رجا سلامة الحق الاقتصادي الوحيد لها، والتي ذاع صيتها إثر التحقيق الذي أطلقه المدعي العام السويسري في كانون الثاني/ يناير الماضي في قضايا غسيل أموال واختلاس محتمل في مصرف لبنان.

يُشار إلى أن سلامة هو أول حاكم مصرف تفتح في حقه تحقيقات بتهم فساد في أكثر من بلد، منها فرنسا وسويسرا، ومازال في منصبه، ومُغطى قضائياً باجتهادات على القانون، وتدخلات بعض أحزاب السلطة داخلياً لتأمين الحصانات الضرورية لحمايته، ومعه المنظومة السياسية التي عمل على خدمة مصالحها على مدى أكثر من ثلاثة عقود.

ورغم أن هناك أكثر من دعوى رفعت بحقه، إلّا أن قرار المحكمة التمييزية الذي أصدرته القاضية سهير الحركة أواخر الشهر الماضي، وردت بموجبه القضايا المرفوعة ضد سلامة، “منح حاكم مصرف لبنان الحق الحصري في الادعاء على حاكم مصرف لبنان”، ما يعني أن أي ملاحقة لسلامة في لبنان تستوجب الحصول على إذن منه شخصياً.

“حصانة الفاسدين”…

لم يفاجأ اللبنانيون بـ”وثائق باندورا” التي كشفت أسرار الجنات الضريبية، وتنشر تدريجياً تسريبات لنحو 12 مليون وثيقة عن شركات “الأوفشور” في العالم.

عضو اللجنة المركزية في “الشيوعي اللبناني” أيمن ضاهر شدّد في تصريحه لـ”مدار” على أنه “لم يكن متفاجئا بما تسرب عن “التحالف الطبقي المسيطر، الذي نهب الناتج الوطني وقام أولياؤه بعملية سطو على الأملاك العامة، وتحاصصوا المشاريع مع تضارب المصالح واستغلال النفوذ، وهربوا الأموال إلى الخارج، واليوم يسعون إلى تدفيع الثمن للفقراء والمسحوقين ويسعون إلى تأمين الغطاء لعمليات النهب المنظم منذ ثلاثة عقود على الأقل، وحماية المصارف التي نقلت الثروة الوطنية من جيوب عامة الشعب إلى حفنة قليلة، مع تعاظم للربح غير الشرعي عبر ما سميت ‘الهندسات المالية’ لأحد نجوم التسريبات، حاكم مصرف لبنان”، وفق تعبيره.

وأضاف ضاهر في تصريحه أنه “ليس غريباً عمن يفترض بهم حماية المال العام أنهم على رأس اللائحة في عمليات التهرب الضريبي، وما هذا إلّا دليل يضاف إلى واقع السرقة والنهب الممارس من قبل أركان الأوليغارشية اللبنانية الذين يحتمون تحت عباءة الطوائف والرعاة الإقليميين”، متابعا: “حتى من لم يرد اسمه في تسريبات ‘باندورا’ فهو مدان بالتكافل والتضامن حول ما وصلت إليه البلاد؛ فهذا النظام الطائفي لن ينتج إلّا الأزمات ولن يسبب لشعبه إّلا مزيداً من الذل والإفقار”.

وزاد المتحدث ذاته أن “القضاء لا يتحرك في أي من هذه الملفات، بينما يتحرك لإيقاف عرض مسرحي أو قمع رأي ناشط عبّر عن رأيه على مواقع التواصل الاجتماعي”، مردفا بأنه “تكامل للأدوار بهدف السيطرة وتأبيدها”، وداعياً الناس إلى “استعادة حقوقها عبر الانتفاض والثورة على هذه المنظومة للإطاحة بها وتحقيق التغيير”.

أما الناشطة اليسارية نضال فاعتبرت أن كون “فاسدي لبنان في المرتبة الأُوَلى عالمياً في الملاذات الضريبية ليس بجديد”، وزادت موضحة: “كمواطنة ويسارية، خضنا تحركات شعبية احتجاجية ضد فسادهم، محذرين مراراً من ارتقاب انفجار اقتصادي واجتماعي بسبب سياسات الفساد المتبعة”.

وتابعت الناشطة ذاتها: “جاءت انتفاضة 17 أكتوبر بهدف فضح ملفات الفساد والسياسات النقدية التي أوصلتنا إلى الانهيار. ولم ننتظر يوماً أي وثائق لفضح السياسيين وشركائهم، خاصة حاكم مصرف لبنان الذي هندس الدين العام ونهب بالاتفاق مع المصارف، فأوصلونا إلى هذه الأزمة المالية الخانقة، واستولوا على أموال صغار المودعين، لحساب مصالح حيتان المال”، مؤكّدة أن “لبنان لم يفلس، بل نهبت أمواله وهُربت إلى الخارج”، ومنتقدة تسييس القضاء وفساده وعدم استقلاليته، “إذ يعتمد المحسوبية، والتبعية لأحزاب السلطة التي تسارع للتدخل بأي ملف يُفتح لملاحقة الفساد”.

من جهته، أكّد بشير نخال أن “تسريبات ‘باندورا’ تكشف وتثبت ما كنا نتداوله سابقاً ونحذر منه وعملنا على مواجهته؛ فالثروة في بلدنا هي نموذج مصغر عن اقتصادات كافة المتجمعات التي تتبع النهج النيوليبرالي، الذي نتوجه إليه بشكل طبيعي بالرأسمالية منذ نحو 35 عاماً”، مضيفا: “يتم أيضاً تحويل سياسات الدولة لتصبح بشكل أوضح لمصلحة الطبقة الحاكمة كي تظهر لنا فعلياً لمصلحة من تعمل الدولة وفشل مفهوم حياديتها، بدءاً من اتباعها السياسات الضريبية الخاطئة؛ فمثلاً لا يوجد لدينا ضريبية على الثروة، وبدلاً من وضع سلم عادل للضرائب، تفرض ضرائب الضريبة على القيمة المضافة على الاستهلاك والتي تمسّ بشكل أساسي الطبقة العاملة. لذا نرى بالفعل صعوبة لإصلاح هذا النظام مما أوصلنا إليه”.

وشرح المتحدث ذاته: “رغم ادعائهم كل فترة أنهم بصدد العمل على وضع توزيع عادل، وتعديل الضرائب، بات حتى البنك الدولي ينادي بإصلاحات نادينا بها سابقاً. وحتى لو تحدثنا عن ضرورات الإصلاحات وإحداث أي تغييرات اقتصادية بعيداً عن تدخل الدولة فيها، فهذا لا ينفع ضمن الشكل الحالي لهذا النظام، ما يثبت أن التغيير لا يمكن أن يكون إصلاحيا فعلياً ومجدياً إلّا إذا كان تغييراً ثورياً”.

بدورها، تساءلت الكاتبة “رنا قاروط”: “لماذا فُرّغت مؤسسات الدّولة من أموالها ووظائفها، في حين تتضاعف ثروات المسؤولين ببنوك الخارج وتزدهر أعمالهم بشركات أجنبيّة يملكون حصص كبيرة فيها؟

أيضاً، نتساءل: إذا الفساد قائم في ممارسات هذه السّلطة منذ تأسيسها فلماذا وقع الانهيار في ظلّ تأجج الصّراع بين المحورين؟”.

وأردفت الكاتبة ذاتها: “إنّ التّغيير تراكمي ومساره طويل، وفي البلد أكفاء ومؤمنون ببناء دولة، بدليل أعداد المتظاهرين الّتي ملأت الساحات خلال التحركات الشعبية. كما حقق المدنيّون والعلمانيون نجاحات لافتة بانتخابات نقابتيّ المحامين والمهندسين ومجالس فروع الطّلاب”، خاتمة: “المفروض محاسبة فاسدي ‘باندروا’ وغيرهم في صناديق الاقتراع. لكن للأسف الانتخابات النيابيّة لا تمثل رؤية السّكان الواقعيّة، بسبب الرشاوى والتزوير وانخفاض نسبة النّاخبين، إضافة إلى إنها مبنيّة لتعيد إنتاج الطّبقة الطائفية نفسها الّتي تتقاسم مصالحها على حساب الأكثر فقراً”.

يشار إلى أن “تحقيقات باندورا” ضمت عدداً هائلاً من الوثائق، بلغ 11.9 مليون ملف. بينما شارك في الاستقصاء 600 صحافي وما يناهز 150 منبراً إعلاميا، ما أسقط أقنعة عن أكثر من 330 من السياسيين الحكوميين الكبار من 90 بلداً، نالت فيها المنطقة العربية والمغاربية قسطاً وفيراً؛ ناهيك عن الشخصيات الاقتصادية، الرياضية والفنية.

نقلاً عن موقع مدار