الخميس، نيسان/أبريل 18، 2024

لم ينتحروا، قتلَتْهم السلطة

  سمير سكيني
لبنان
ذاع صباحاً خبر انتحار الشاب علي محمد الهق قرب مقهى الدانكن في الحمرا. لحظات وانتشر خبرٌ آخر: انتحار المواطن سامر ح. في منزله بمنطقة وادي الزينة، شنقاً. علي حمل سجلّه العدلي لحظة الانتحار: لا حكم عليه. لا حكم عليه سوى ولادته في لبنان. كتب وصيّته الأخيرة: «أنا مش كافر»، وأطلق النار. لكنّ الجوع، بطبيعة الحال، كافر. أمّا كلمات سامر الأخيرة فما زالت مجهولة، لكنّها بالتأكيد تتقاطع مع ما قاله علي.


بخطوتهما هذه، ابتعد الشابان «المنتحران» عن هذا العالم الحقير. انضمّا إلى ناجي فليطي. ناجي، هو الآخر، «انتحر» بعد عجزه عن تلبية رغبة ابنته بألف ليرة فقط لتشتري حلوى لها. جورج زريق أيضاً «انتحر». فعل ذلك حرقاً، بعد عجزه عن دفع قسط ابنته المدرسي، لمؤسّسةٍ تربوية تؤمن بالله والميعاد. حينها، انتشر هاشتاغ «جورج شهيد»، وهو كذلك. ليس جورج بتاتاً مواطناً أقدم على «الانتحار».

المشكلة هنا في وسيلة الإعلام وصياغة الخبر: «انتحر»، وقد نظنّ أنّ صياغة الفعل بالشكل هذا تتضمّن الفاعل: انتحرَ (فاعله مستتر فيه)، أو هو انتحر، أو علي انتحر أو سامر أو ناجي أو جورج… أو غيرهم من المجهولين. لكن فعليّاً، صياغة الفعل بالشكل هذا تحديداً، تُغَيّب الفاعل الحقيقي.
هؤلاء جميعهم، لم ينتحروا، هؤلاء قتلتهم السلطة. السلطة الفاشية ذاتها. قتلتهم بعنفٍ يوميٍّ ممنهج، يتخطّى بأشواط العنف الموجود لحظة تحطيم واجهة مصرف مثلاً. قتلتهم بجرعاتٍ من الاضطهاد الموزّعة في شتّى الميادين. قتلتهم كما تقتلنا جميعنا يوماً بعد يوم.

تقتلنا السلطة بنظامها الاقتصادي الذي يعمل على تبئيس الأكثرية.
تقتلنا عندما تستولي على ودائعنا وجنى أعمارنا.
تقتلنا كلّما نودّع فرداً من عائلتنا في المطار.
تقتلنا عندما تشهق والدتُنا عذاباً ونحن نعجز عن الحصول على فراشٍ لها في المشفى لأنّنا «مش محسوبين ع حدا».
تقتلنا في زحمة السير.
تقتلنا عبر أجهزتها الأمنية والعسكرة.
تقتلنا عندما يكون حل الانهيار الذي تسبَّبَت به، على حسابنا.
تقتلنا، بضربةٍ قاضية، حينما يصبح أقصى طموحِنا في البلد تأمين ربطةَ الخبز.
مَن انتحر ليس أضعف من غيره. عندما كتب علي «أنا مش كافر»، حاول ضمنياً تحصين نفسه من الانتقادات الممسوخة التي ستأتي تعقيباً على موته.

يبدأ المنظّرون السُذَّج: «شو استفاد؟ مش أحسن لو قتل حاكم المصرف؟ الانتحار كفر». هذا التنظير، بالمناسبة، جزء من لعبة السلطة على المستوى الأيديولوجي. تتغلغل في لاوعيِنا، وتقنعنا أنّ انتحار هؤلاء حادثة فردية، نابعة عن ضعف، فتُحَيّد بذلك نفسها خافيةً تورّطها بالجريمة.
جواباً على أسئلة المُعلّقين: علي استفاد كثيراً، سَجَّل موقفه، قال لا. كان أفضل لو قتل حاكم المصرف؟ ربّما – إذاً تفضّل يا حضرة المنظّر واقتله انتَ. الانتحار كفر؟ حسناً، والجوع؟ «راجعوا الكتب السَماويِّة، راجعوا كلام القادر».

هؤلاء انتحروا ليبتعدوا عن التنظير الفارغ. أقلّه، هؤلاء واجهوا، لم يَرضَخوا، وتَحدّوا بشكلٍ يوميّ حقارة العالم، لحظةً لحظة. عاشوا ظروفاً موضوعيّة وذاتية لا نعلم منها سوى القليل القليل، ولا قدرة لوصف حالتهم النفسيّة لحظة موتهم بمقالٍ كهذا. أمام هَول الفاجعة، الكلمات ركيكة للغاية. هذا السياق عبّر عنه غسّان كنفاني بشكلٍ بسيطٍ ومُختصر: «هذا العالم يسحق العدل بحقارة كلّ يوم».
هؤلاء لم ينتحروا، قتلتهم السلطة، وبموتهم دلّوا على القاتل بأكثر الأشكال فَجاجةً. الطَّلَق الناري، لم يكن موجّهاً صوبهم، بل كان موجّهاً صوبنا، نحن الذين نعتقد وهماً أنّنا قيد الحياة.

اغضبوا- قال لنا علي وسامر اليوم- نحن لم ننتحر، قاتلُنا معروف. اغضبوا، قبل أن يتحوّل لبنان بكامله إلى مقبرةٍ جماعية. اغضبوا، فجميعكم أموات أصلاً، ونحن الآن– بعيداً من هذه المقبرة- أصبحنا قَيد الحياة.

المصدر: ميغافون