الجمعة، آذار/مارس 29، 2024

حادثة قبرشمون ومفاعيل نظام التحاصص الطائفي

لبنان
ليس غريباً أن يجري تنافس سياسي بين الزعامات والأحزاب السياسية، بدافع تعزيز نفوذ كلٍّ منهم، شعبياً وفي مواقع السلطة ومؤسسات الدولة. فهذا من طبيعة العمل السياسي وممارسة حرية الفكر والتعبير. لكن الغريب والمؤلم أن يصل التنافس والصراع إلى إسقاط ضحايا من المحازبين، هم من عامة شعبنا الطيب، وليس في مواقع الدفاع عن الوطن ضدّ غازٍ ومحتل، ولا دفاعاً عن المصالح المعيشية المشتركة للناس، ضدّ الافتئات على حقوقهم الاجتماعية، ورفضاً لسياسة الطبقة السلطوية ونظامها العاجز المأزوم.

فالحادث المؤسف الذي جرى في قبرشمون، لم يكن على صلة بالأهداف المذكورة. وخطورته، جبليّاً ولبنانيّاً، هي في الأبعاد والتداعيات، التي تنجم من الطبيعة الطائفية للنظام السياسي ومحاصصاته، فهي تجعل زعماء الطوائف وأحزابها، في حالة سعي متواصل، لشدِّ عصب الطائفة، وجعلها تلتف حول زعيمها وحزبها، ليؤدّي ذلك إلى إذكاء الحالة الطائفية في البلاد، وإبقاء نارها قابلة للاشتعال. كما تُحوّل الصراع الأفقي العادي، إلى صراع يجعل الانقسامات عامودية، مشكّلةً بذلك اهتزازاً ومساساً بأسس النظام، وحتى الكيان. ولا ينفصل المنحى الصراعي التنافسي، داخل الطائفة نفسها، عن ذلك. فالطابع الطائفي التحاصصي يدفع أيضاً متنافسين وطامحين في الطائفة نفسها، لإظهار كلٍّ منهم أنه الأحرص على حصة طائفته وتعزيز موقعها ودورها، وحمايتها من مطامع وهيمنة الطوائف الأخرى. فتصبح المعايير الطائفية هي الأساس، وليس قضايا الشعب والوطن.
إن بقاءَ النظام السياسي القائم على أسس تعتبر الطوائف كيانات سياسية وتعتمد التحاصص في تمثيلها أو إشراكها في السلطة، تبعاً لأحجامها، إنما يبقي الوضع اللبناني برمّته أسيرَ معاييرٍ وتوازناتٍ طائفية وزئبقية، معرّضة إزاء كل حادث أو خلاف بين زعيم وآخر للاهتزاز. إن الآليات والمفاهيم التي استولدتها، كالميثاقية والتوافقية والوحدة الوطنية... أدّت إلى جمع المتناقضين وتناقضاتهم، داخل حكومات "الوحدة الوطنية". وأظهرت من خلال التجربة، عدم صلاحها لانتظام عمل السلطة وإنتاجيتها، إضافة إلى ما تتركه من انعكاسات سلبية على الوضع الاقتصادي والاجتماعي في البلاد.
لقد أكّدت حادثة قبرشمون، أنّ ما جرى التغنّي به من تسويات ومصالحات، يحمل طابعاً فوقياً وظرفياً. وهو تحت سقف النظام الطائفي نفسه وعلى فائدته وضرورته أحياناً لتبريد الأجواء وتخفيف الاحتقان. وهو ما ليس كافياً، فالمصالحة الحقيقية هي مع الوطن الذي ظلّ ويبقى مُغيّباً في ظل النظام الطائفي وسلطته السياسية. والمصالحة مع قضايا الشعب الاجتماعية والاقتصادية المشتركة ومع الشباب وحاجاتهم ومستقبلهم أيضاً. وهي باعتماد نظام يزيل الفرز الطائفي بين اللبنانيين، والحذر والتباعد المناقض لبناء عيش مشترك واحد. ولا يكفي للمصالحة التعبير عن الرغبات والنوايا فقط، بل إقامة دولة ديمقراطية حديثة متماسكة، على أساس المواطنة والمساواة في الحقوق بين جميع اللبنانيين، تلغي الفوارق بين أقليات وأكثريات، بين طائفة وأخرى.
إن ما يواجهه شعبنا اليوم، ويتأكد مع كلّ حادث أو خلاف في الموقف، هو أن نمط التسويات والمصالحات بين زعامات طوائف بوساطات داخلية أم خارجية، لم تبنِ ولن تبني وطناً، وسلماً أهليّاً راسخاً. فقد أيقظت حادثة الجبل، ذاكرة الناس المسكونة بالقلق، وبصورة الحرب الأهلية البشعة، وبالشعور بخطورة الانقسامات والتناقضات العامودية، وما تجرّه من عنف ونزاع...
لقد بات إخراج بلدنا وشعبنا من هذه الحالة المأزقية، مَهمة وطنية إنقاذية أكثر إلحاحاً من أي وقت مضى. خصوصاً وأننا جزءٌ من منطقة ومحيط عربي يتعرّض لمخططات عدائية أميركية صهيونية، لافتعال حروب ونزاعات داخلية وتفتيتية. وكل هذه الأمور، تستدعي تغييراً ديمقراطياً حقيقياً، يوحّد شعبنا، ويعزّز المناعة الوطنية. وذلك باستبدال المرتكزات والمعايير الطائفية للنظام، التي أحدثت خللاً بنيويّاً في السلطة والدولة والحياة السياسية والعامة وتنخر جسم الدولة وتغطّي الفاسدين، وتتيح، بل تستدرج التدخلات الخارجية، وذلك عبر إقامة دولة غير دينية وغير طائفية، بل على أسس ديمقراطية، تضمن حرية الفكر والتعبير والمعتقد، وعلى قاعدة المواطنة والكفاءة والنظافة، والتمثيل الشعبي الصحيح. كي لا يبقى الوضع اللبناني مقيماً على شفير الانقسامات العامودية والهزات والانزلاقات الخطرة. وهذا التغيير، الذي كان في أساس مشروع الإصلاح المرحلي للحركة الوطنية عام 1975، ما يزال المخرج الملائم والضروري لاستبدال الصراع التحاصصي الطائفي، والحالة الهشّة التي ينتجها، بتنافس سياسي من نوع آخر، يقوم على أساس خدمة مصالح شعبنا الاجتماعية والاقتصادية والوطنية، ويوفّر عوامل بناء الوحدة الداخلية شعباً ومجتمعاً ويؤدّي إلى بناء سلم أهلي وطيد، لم يُبنَ بعد.